أورد الزعيم السوفيتي، فلاديمير لينين، في منشوره الأخير 1923، “أفضل بقليل ولكنه أفضل”، مقولة نسبها للزعيم الفرنسي، نابليون بونابرت، إبان حملته العسكرية على روسيا 1812، يتحدث فيها عن الصين بصفتها عملاق نائم، إذا استيقظ سيهتز العالم. وذلك كدلالة على رؤية الزعيمين التاريخيين للأثر الكبير لدخول الصين معترك السياسة الدولية كلاعب مؤثر في القرنين التاسع عشر والعشرين، أو كما يحلو للبعض وصفه في القرن الجاري بـ”القطب الثالث”.
علاقة المدخل السابق بما يجري مؤخراً من تصاعد للتوتر بين القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، والتي تتلخص عناوينها الإعلامية -هوليوودية الطابع- حتى اللحظة فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، والتلويح المتزايد بالقوة حتى حدود الصدام المباشر بين أكبر القوى العسكرية على الكوكب، يكمن في أن وتيرة التصعيد والتهدئة وفق ما تتناقله الشاشات، لم تعد حصرية على كل من طرفيه الرئيسيين وفقاً لأنماط فترة الحرب الباردة أو الحرب العالمية الثانية.
باتت الصين، وبالحد الأنى، تضع الخطوط الحمراء لأي تصعيد يمس بمصالحها، وهي القدرة التي انفردت بها واشنطن لقرابة ثلاثة عقود، وتحاول الأن استعادتها من خلال التصعيد مع موسكو، كنتيجة أولى لسياسة إعادة التموضع الذي تنتهجها إدارة جو بايدن منذ دخوله البيت الأبيض العام الماضي.
إذن نحن أمام متغير تاريخي بحجم نشأة نظام عالمي جديد، يتجاوز مسألة انضمام أوكرانيا للناتو، بل حتى يتخطى -على مقياس أكبر- مسمى ” تعدد الأقطاب”، وما يصاحبه من تفسيرات مقتبسة من الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
وذلك كون النظرة الاستقطابية بين المعسكر الغربي والشرقي لم تعد كافية لتفسير كثير من التناقضات داخل المعسكر الواحد والتقاطع بين الأضداد؛ خاصة مع ازدياد وتيرة التباين والاختلافات بين أوربا والولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية على أقل تقدير؛ حيث ربط الأخيرة لمحددات علاقاتها مع أوربا بمجريات سياساتها الداخلية واختلاف الإدارات المتعاقب، وهو ما تضاعف بعد خروج برطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ من زاوية رفض برلين وباريس أن تظل لندن وكيلة لواشنطن في تحديد أولويات وتوقيتات سياسات أوربا تجاه الصين وروسيا وباقي العالم في فترة حرجة أقل مخاطرها مجابهة تداعيات تفشي وباء كورونا.
ينسحب هذا أيضا على العلاقة بين بكين وموسكو وباقي “حلفائهم” حول العالم، وإن كان بدرجة أقل ومحصورة بمجابهة السياسيات الأميركية في آسيا. ولكنه يتسع فيما يتعلق بباقي محددات سياساتهم الخارجية المتعلقة بأوربا وأفريقيا وأخيراً الشرق الأوسط؛ حيث بات التموضع الأميركي فيه وأخر مظاهره الانسحاب من أفغانستان، بمثابة مولد للفرص وليس فقط مصدر للأزمات، لكل من أصدقاء واشنطن وخصومها. وهو ما يشكل دوماً عامل التحوط الأهم أميركيًّا فيما يخص سياساتها الأخيرة تجاه المنطقة على مختلف الساحات والملفات.
هذه السياسة التي انعكست على الشرق الأوسط بمستويات عديدة؛ أهمها أنه لم يعد هناك أولوية سياسية/انتخابية للبقاء فيه بشكل مباشر كالعقدين الماضيين، وتحوّر المحددات الاستراتيجية المرتبطة به، مثل الطاقة والملاحة وأمن إسرائيل، لمستوى التخديم على محددات سياستها الجديدة فيما يتعلق ببكين وموسكو. لتأتي الأزمة الأوكرانية لتضع تطبيقاً عملياً لهذه التموضعات والأولويات الأميركية الجديدة التي طال رصد احتمالاتها الكثيرة خلال العقد الماضي. مثلاً، أصبح غاز المنطقة في الخليج والمتوسط يشكل أهمية بالنسبة لواشنطن كبديل محتمل بين بدائل تعويض أوربا عن الغاز الروسي الذي يشكل أكثر 40% مما تحتاجه الأسواق الأوربية؛ هو ما جعله محور مهم من محاور الصراع بين القوى الإقليمية في السنوات العشر الماضية. وتشكل هذه القضية حاليًا محورًا للتقارب والتهدئة والفرص الواعدة المتصاعدة وتيرتها خلال العاميين الماضيين.
المنطقة والمحددات الأميركية القديمة والجديدة
يمكن رصد علاقة القوى الإقليمية بالسابق من حيث التحدي والاستجابة، من تتبع متغيرات العامين الأخيرين التي تمحورت حول هضم واستيعاب إعادة تموضع واشنطن في المنطقة والعالم خلال الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض منذ 2009. غلب على هذه الإدارات اجتراح مقاربات جديدة بين قوى المنطقة المتصارعة طيلة العقد الماضي، بغية الوصول لتهدئة/تسوية، تنطلق من أرضية براجماتية عنوانها المصالح المتبادلة، وحصر نقاط الخلاف على موائد مفاوضات ومحادثات متعددة.
وتتراوح عناوين هذه المصالح ما بين التجارة والاستثمار والمشروعات المشتركة، التي لا تتصادم مع محددات واشنطن الجديدة، بل مكملة لها ولكن وفق أولويات هذه القوى الإقليمية. مثلًا، نجد أن ملفات الطاقة ومسارات الملاحة والأدوار الوظيفية الجديدة بالنسبة لواشنطن والقوى الدولية عمومًا، تشغل الحيز الأكبر من محادثات القوى الإقليمية، عكس سنوات العقد الماضي حيث الاستقطابات الهوياتية وتسعيرها كغطاء لحروب الوكالة التي كان من أهدفها الملفات السابقة.
لكن ما يحكم هذه المستجدات في العامين الماضيين، بخلاف تداعيات وباء كورونا التي حفزتها، هو توقيت وطبيعة الشد والجذب بين القوى الدولية، وكذلك ما تحدده من أولويات على دول الأطراف التكيف معها وهندسة سياساتها الخارجية طبقاً لها. يعني هذا أن نمط إدارة الأزمات هو ما يحكم المشهد بين القوى الإقليمية بوتيرة متسارعة من حيث التغير والتباين والتناقض بين القوى الكبرى وتحديداً بين واشنطن والدول الأوربية الوازنة؛ لينعكس هذا على المنطقة بتبني نمط استجابة يرتكز على الاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية، ممثلة حالياً فيما يخص تناقضات المشهد الأوكراني وقضية الغاز الطبيعي.
شكّل الغاز الطبيعي محورًا من محاور الصراع بين القوى الإقليمية طيلة السنوات العشر الماضية، من حيث التنافس على من يحوز الفاعلية والوظيفية فيما يخص متغيرات مشهد الطاقة العالمي. لا يشير هذا فقط إلى وجود خلافات وصراعات حول مناطق استخراجه ومردود ذلك في موازين القوى الإقليمية اقتصاديًّا وسياسيًّا، ولكن أيضاً يشير إلى عوامل الجهوزية والكفاءة فيما يخص استراتيجية مشاريع ربط الطاقة العالمي والتحول للطاقة النظيفة خلال مدى زمني قادم قصير نسبيهًا حسب تقديرات الأوربيين والأميركيين، وموقع السابق من مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ومن ثم، فإن انعكاسات السابق على المنطقة تمحورت بشكل متسارع على ملف الغاز، الذي يشمل كل من الخليج وشرق المتوسط وشمال افريقيا وسواحل سوريا ودول جنوب أوربا. وقد حاولت الأطراف الدولية في السنوات السابقة حصر تداخلاتها ونفوذها في هذه المناطق فيما يتعلق بهذا الملف وغيره مثل الأمن والهجرة، بشكل جراحي يبعدهم عن الاستغراق بأزمات وصراعات المنطقة المزمنة. وهو ما شكل مرتكزًا لإعادة هيكلة واشنطن بـ”حلفائها” والعكس. وامتد هذا لمحاولات أوربية حثيثة لشغل هذا الفراغ الذي خلفته أميركا حسب أولويات كل منهم -فرنسا وانجلترا وألمانيا- التي يعاد ترتيبها مؤخراً، وبالتالي خلق فرصة وهامش للقوى الإقليمية في اجتراح سياسة خارجية متوازنة تعتمد على الشراكة وليس التبعية.
تحوط وجهوزية.. الغاز كنموذج
أبرز مثال على هذا يتمثل في تطورات التطبيع بين بلدان عربية وإسرائيل؛ وهو ما شكل مجالًا للمنافسة والمضاربة والانقسام وسط مناخ الاستقطاب المهلك منذ 2011، وحلحلته بشكل معتبر في العامين الأخيرين. كان ذلك بإخراج موضوع التطبيع من حيز الاستهلاك الانتخابي والدعائي في تل أبيب وواشنطن على مدار سنوات حكم نتنياهو وترامب، وربطه بالمحددات الجيوسياسية الواضحة التي في القلب منها موضوع الغاز، الذي يكتسب أهمية سياسية غير مسبوقة الأن وفق توقيت البيت الأبيض على النحو السابق ذكره، وذلك وفق سياسة تحوط سادت قبيل مراجعة واشنطن لعلاقاتها مع دول المنطقة في عهد الإدارة الجديدة.
ويتضح الآن عبر حزمة قرارات وتصريحات صدرت من مسؤولي هذه الإدارة وعلى رأسهم جو بايدن، أن واشنطن تفضل استمرار جزء من معادلة علاقتها بالمنطقة، والذي يكفل أسباب موضوعية للتناحر الإقليمي ولكن بدرجات مكتومة؛ تحوطاً من نفاذ الصين وروسيا في لعبة انتزاع الحلفاء وفق أولويات كل من “الأقطاب” الثلاثة. وهو ما يتقاطع أحياناً مع أولويات قوى المنطقة، الذين باتوا يتعاملون مع مسألة التطبيع وفق حسابات واقعية أحد تجلياته مسألة مستقبل مسارات الطاقة والملاحة، وليس أولوية مطلقة ترتبط بمؤشر علاقاتهم الجيدة بواشنطن كالمعتاد في التحولات الجارية منذ الثورة الإيرانية وحرب الخليج وغزو العراق، وأخيراً فترة حكم ترامب.
لقد عمدت واشنطن إلى وضع احتمال إزكاء الصراع الإقليمي بما يخدم مصالحها التي لا يلائمها مناخ التهدئة والمحادثات الإقليمية العامين الماضيين، وهو ما بدأت بوادره خلال الأسابيع الأخيرة فيما يتعلق بتدعيم مراكز الدوحة وأنقرة في المنطقة فيما يخص موضوع الغاز؛ حيث إحياء مشروع نقل الغاز الإسرائيلي عبر تركيا، واقتراح قطر كشريك استراتيجي لواشنطن خارج الناتو، وذلك في معرض جهود الولايات المتحدة في البحث عن بدائل للغاز الروسي لأوربا. يجعل هذا إيران بحكم مشاركتها لحقل بارس الغازي، وترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية وعلاقة ذلك بحزب الله، في قلب هذه المتغيرات المحكومة بتطورات المفاوضات النووية.
توازى مع هذا التحوط الأميركي تحوطٌ من معظم القوى الإقليمية للتعاطي مع السابق وفق استجابة تراعي محددات كل منهم ومصالحهم المباشرة، سواء كانت الغاز من حيث القيمة الاقتصادية والدور الوظيفي، أو الأهم مثل الأمن القومي والتهديدات الخارجية/الداخلية. يبرز هذا التحوط في النموذج المصري الذي يُعد مقارنة بباقي “حلفاء واشنطن” من حيث الجهوزية والحذر وفق توقيتات وأولويات لا تتصادم مع ساكن البيت الأبيض، ولكن توفر مساحة للتفاوض للابتعاد بقدر الإمكان عن المعادلات الصفرية.
يتم هذا عبر حزمة توازنات يتقاطع فيها فعل القاهرة الخارجي مع القوى الدولية المعنية به، وهو ما تكرر بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية في ملفات ليبيا وغزة والسودان ولبنان وسد النهضة، وارتباط الغاز والملاحة والترقب الصيني-الروسي بهذه الملفات كورقة مناورة/توازن إضافية، حالت دون استمرار نمط الهرولة العربية للتطبيع مع إسرائيل لبيان قصوره في معالجة علاقات أصدقاء واشنطن بها في عهد بايدن.
هذا النمط سرعان ما تم تعميمه بتفاوت من جانب القوى الإقليمية والعربية منها تحديدًا؛ حيث باتت محاولات الإدارة الأميركية في تحفيز النقاط الخلافية بينهم، ليأتي الرد عليها عبر الاستمرار في محادثات وجهود التهدئة والتسوية عبر اعتماد مبدأ الفصل بين الملفات -المتبع بين واشنطن وطهران في المفاوضات النووية- لإحداث خرق في القضايا الخلافية التي لم تمنع ازدياد وتيرة تلاقي المصالح الاقتصادية بين القوى المتنافرة سياسياً، واللجوء للتحوط والطمأنة المتبادلة بين القوى الإقليمية. يأتي هذا كبديل لاستئناف الصراع بأنماط السنوات العشر الماضية على مختلف الساحات. وهو ما أفضى إلى استحداث نمط تفاوض كبديل عن المعادلات الصفرية، يمكن أن يلتقي الأضداد من خلاله عبر بوابة الغاز وخطوط الطاقة.
محصلة واستشراف
بانفضاض التصعيد الإعلامي لـ”الحرب العالمية الثالثة” كما أسماها بايدن، فإن بقاء أوكرانيا وغيرها كأزمة مستمرة بين موسكو وواشنطن، تكبح حساباتهما المتعلقة ببكين من تفاقمها لصدام عسكري مباشر خاصة بتباين التقديرات الإستراتيجية الأوربية مع قرينتها الأوربية فيما يخص العلاقات مع الصين وكيفية مواجهة مخاطر روسيا. ينعكس هذا على ترتيبات جديدة للمشهد الدولي؛ نصيب المنطقة منها يتمحور حول إدراك قواها الإقليمية، بشكل متفاوت، أن تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الهامش الناتج عن تخلخل الهيمنة الأميركية الأحادية على المشهد الدولي، كأحد تبعات متغيرات سياساتها الداخلية والخارجية، وأخرها فوضى الانسحاب من أفغانستان، يكمن في إنهاء مسارات الصراع ومعادلاته الصفرية التي سادت العقد الماضي.
يتجلى هذا في الفترة الأخيرة عبر استئناف العلاقات والمحادثات والمفاوضات بأنواعها بين هذه القوى الإقليمية وخاصة الذين يصنفوا عادة بكونهم “حلفاء واشنطن،” والتي تعيد الأخيرة هيكلة علاقاتها معهم منذ العام الماضي بشكل لا يراعي أولوياتهم. وبالتالي، فإن الهامش الذي احدثته الأزمة الأوكرانية يوسع خيارات تعاطيهم مع المتغيرات الأميركية المتسارعة، وينقلها من سقف المناورة المؤقتة، إلى بدائل أوسع تعتمد على توازن خارجي في علاقاتهم مع القوى الكبرى، وكذلك التحوط بالجهوزية من موقع الفعل والمبادرة وليس العكس.
جدير بالإشارة أن السابق لا يعني التصادم مع توجهات واشنطن في معظم سياساتها المتعلقة بالمنطقة، التي تبقى العامل الأهم حتى كتابة هذه السطور في تشكل المشهد الإقليمي، ولكن مع فارق أن الأخيرة لم تعد منفردة على المستويين الإقليمي والدولي. كما أن مسارات استعادة هذه المكانة من جانب إدارة بايدن، ما تزال تنحصر بين قديم قد ثبت عدم صلاحيته، وجديد مجهول. وبالتالي، يمكن القول إن استئناف أنماط الصراع بين القوى الإقليمية كما كانت خلال السنوات العشر الماضية هو الاحتمال الأبعد. وهو ما يأتي كانعكاس لمستجدات أخر عامين وعلى رأسها تداعيات وباء كورونا الاقتصادية.
بناء على هذه الصورة، فإن الغاز ومسارات الطاقة بشكل عام لا يمكن فصلهم عن أولويات القوى الدولية سواء المستجدة أو المعتادة. إن أزمات مثل بطء سلاسل التوريد وعلاقة ذلك بالملاحة وأمنها، والأزمة في أوكرانيا وعلاقتها بالأمن الغذائي لبعض الدول الإقليمية، لا تلغي الأزمات المعتادة أو المزمنة وخاصة فيما يتعلق بالفعل الأميركي والدولي المتعلق بها وخاصة إذا ما كان متعلقًا بتحوط واشنطن من نفاذ بكين وموسكو وتوظيفها ضد مصالح الأولى؛ حيث أمكن خلال العامين الماضيين ربط ملفات الملاحة بالأمن المائي والهجرة ومستقبل مسارات ربط الطاقة العالمي والتوريد المارة بالمنطقة، كمحرك لحلحلة القضايا الإقليمية العالقة، والتي باتت أولوية متأخرة للقوى الدولية.
أحدث السابق نمطًا جديدًا يمكن تسميته بـ “تلاقي الأضداد” إقليميًّا؛ حيث شهدت الفترة الأخيرة تحركات سياسية إقليمية متنوعة، جمعت الأطراف المتصارعة خلال العقد الماضي، تحت عناوين التعاون والتقاطع المصلحي ومحددات الجغرافيا والاقتصاد، وليس فقط التنافس لوكالة المصالح الأميركية إقليميًّا. ، والتي دائماً ما كان الغاز أحد محاورها – ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية/المصالحة بين أنقرة وأبوظبي/التقارب الخليجي السوري/المفاوضات السعودية الإيرانية- سواء تم ذلك تماشيًا مع التوقيت الأميركي أم لا.
يعطي هذا النمط للمنطقة فرصة للملمة فوضى السنوات السابقة، سواء بدافع الازمات والحاجة للتهدئة الإجبارية، وتعظيم السابق من حيث استغلال تناقضات القوى الثلاث الكبرى لإيجاد مساحات خارج تبعية البوصلة الأميركية وتحمل أعباءها الداخلية والدولية؛ خاصة وإن كانت عكس مصلحة “الحلفاء”، ومرتبطة بمؤشرات الاستقطاب الداخلي الأميركي؛ ومن ثم إمكانية البناء على هذا وفق مصالح القوى الإقليمية المشتركة وليس وفق ما يريده ساكنو البيت الأبيض المتعاقبون.
بتجريد هذا النمط ومقاربته مع المستجدات الإقليمية والدولية الأخيرة، نجد أن هناك ما يمكن أن يتفق عليه أكثر من ما يختلف عليه بين الفرقاء الإقليميين، والذي ينحصر في معظمه بالملفات سابقة الذكر، مع فارق جوهري في التعاطي معها وإدارتها، وهو أن احتمالية استعادة سياسات التأزيم والتعطيل وحروب الوكالة باتت في أقل دراجاتها، وهو ما شكل نموذج تحركت وفقه القوى الجيوسياسية الرئيسة في المنطقة (مصر، تركيا، إيران). هذا فيما شكلت إسرائيل الموصل الاكثر اهمية بالنسبة لخصوصية علاقتها بواشنطن وعلاقة الأخيرة بهذه القوى، وفق حسابات أبعد ما تكون عن الحسابات الصفرية التي تهيمن على شاشات الإعلام. إن متابعة ما يحدث في ملف الطاقة ومسارات خطوطها الإقليمية مؤشر هام للتأكد من السابق.