في عالم ما بعد النفط، تخوض المملكة العربية السعودية معركة تنمية بهدف تنويع اقتصادياتها المعتمدة منذ عقود على النفط كمورد أساسي للدخل القومي. إلّا أنّ التحدي القائم يكمن في قدرتها على فتح أفق اقتصادية أكثر استدامة. ويبرز قطاع السياحة كقطاع واعد في المملكة، يعد بتحقيق الكثير، للحفاظ على معدلات تشغيل وموازنة لا تتأثر بخروج مبيعات النفط الخام من بنودها.
أهيمة قطاع السياحة
لعقود مضت، عانى الاقتصاد السعودي من مشكلة أساسية، تمثلّت في عدم تنويع مصادر الدخل، المعتمد على الريع النفطي. مؤخرًا برز قطاع السياحة كأحد الحلول الواعدة والسريعة لهذه المشكلة، نظرًا للخصوصية الدينية التي تتمتع بها المملكة، كـ “قِبلة أولى للسياحة الدينية من قبل كل مسلمي العالم. حظي قطاع السياحة السعودي باهتمام أكبر، مع انطلاق رؤية المملكة 2030، المعنيّة بعملية الانتقال السلس من الاقتصاد النفطي، إلى اقتصاد أكثر تنويعًا وانفتاحًا، من خلال إيجاد موارد أخرى غير نفطية، وخلق مجتمع حيوي و اقتصاد مزدهر؛ بما يضع المملكة على خريطة التجارة والمنافسة العالمية.
عملت الإدارة السياسية في المملكة خلال السنوات القليلة الماضية، على تمهيد وتهيئة الطريق في المجتمع المحلي، أمام السياحة الخارجية، وبدأت ذلك بقرارات جريئة بدأتها بمنح المرأة الحق في القيادة، وهو ما اعتبر حدثًا كبيرًا بعد عقود من سلب النساء هذا الحق، تبعه قرارات أخرى. أثرت هذه القرارات بشكل جذري على نظرة العالم نحو المملكة، بشكل إيجابي لصالح قطاع السياحة، حيث تستثمر فيه الدولة بأرقام مهولة، مثلما أعلنت مطلع فبراير 2021 عن مشروع جديد تستثمر 3 مليارات دولار في تطوير السياحة والبنية التحتية في منطقة جنوب غرب عسير.
غير ذلك، تعمل حكومة المملكة على دعم وتطوير قطاع السياحة عبر ما يعرف بتأسيس المنظومة السياحية الكاملة، وتضم بجانب وزارة السياحة، كلًا من الهيئة السعودية للسياحة وصندوق التنمية السياحي، ومجلس التنمية السياحية. تعمل المنظومة في تناغم وانسجام، في سبيل إرساء أسس متينة للقطاع الناشئ؛ إذ تتولى الوزارة الإشراف العام على المنظومة ككل؛ عن طريق وضع التشريعات والأنظمة واللوائح اللازمة لتطوير قطاع السياحة وترخيص وتصنيف الأنشطة والمشاريع السياحية، وجذب الاستثمارات النوعية وخلق بيئة استثمارية جاذبة، وتطوير الكوادر البشرية في القطاع فضلاً عن إيجاد فرص وظيفية جديدة في القطاع. وتتولى الهيئة السعودية للسياحة العديد من المهام؛ مثل تنشيط وتفعيل دور القطاع الخاص وتطوير الوجهات والمُنتجات السياحية، وتسويقها من خلال المشاركة في المعارض السياحية على المستويين المحلي والدولي، والإشراف على الحملات التسويقية للوجهات السياحية، وإنشاء مركز تجربة السائح، بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة، والمعني بإعداد الدراسات والتقارير لقياس وتطوير تجربة السائح. ويمثّل مجلس التنمية السياحي أحد أهم عناصر المنظومة، وتُعتبر مواءمة الأهداف الوطنية والاستراتيجية، وتنسيق الجهود مع الوزارات والأجهزة الحكومية ذات العلاقة لتنمية القطاع السياحي.
فتحت المملكة أبوابها للسياحة أواخر عام 2019، وقبل أن يخيّم وباء كورونا على عالمنا ويفرض واقعًا جديدًا لا سيّما في السفر والانتقالات، عبر إطلاق نظام جديد لمنح تأشيرات دخول إلى أراضيها لـ49 دولة، في خطوة غير مسبوقة، تبعها الإغلاق الاضطراري الذي عطل مسيرة القطاع الواعد، كما أثّر سلبًا على قطاع السياحة العالمي ككل. غير أنّ المملكة مضت قدمًا بخطى ثابتة الساعية إلى أن يتجاوز قطاع السياحة 10% من الناتج المحلي الإجمالي، في ضوء استهدافها للمواطنين الذين كانوا ينفقون ملايين الدولارات سنويًا في السياحة الخارجية، وذلك عبر عدّة مشروعات أهمها منطقة عسير وعاصمتها “أبها،” بعدما أصبحت وجهة مفضلّة للمواطنين والأجانب لمناخها البارد والمختلف عن البيئة الصحراوية للمملكة.
جاهزية البنية التحتيّة
في القلب من الخطة الطموحة لدعم وتطوير القطاع السياحي، تأتي مدينة نيوم المخصص لها من قبل المملكة 500 مليار دولار، كجزء من حزمة استثمارية ضخمة بلغت 810 مليار دولار،
أيضًا؛ تعمل الإدارة السعودية على جذب استثمارات ضخمة في إنشاء مشاريع سياحية عملاقة من شأنها تحويل المملكة إلى مركز دولي للترفيه، ولأجل ذلك وقعت اتفاقية مع شركة علي بابا الصينية، تتطلع من خلالها إلى جذب ملايين السائحين الصينيين. هناك عدّة مشاريع عملاقة أطلقها وأشرف عليها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، منها مشروع “أمالا” Amaala على ساحل البحر الأحمر، ويمتد على مساحة 3800 كيلومتر مربع، ويقع وسط مدينة “نيوم” ومشروع البحر الأحمر السياحي. بحلول عام 2028، تستهدف أمالا، الانتهاء من بناء ثلاثة منتجعات بحرية فخمة، توفر 2500 غرفة فندقية، و 800 فيلا وشقق سكنية فاخرة، لتأهيل المكان ليصبح وجهة للعطلات السياحية المتكاملة والحصول على خدمات الترفيه والعطلات والحفلات والفاعليات الثقافية، تشمل المشاريع السياحية الرئيسية الأخرى أيضًا مشروع القدية الترفيهي الضخم على مشارف العاصمة الرياض وبوابة الدرعية بالقرب من العاصمة، والتي تهدف إلى تعزيز الطموح الحضري والتكنولوجي، والتحول نحو الرقمنة كما تتطلع إليه السعودية.
تتطلع المملكة العربية السعودية إلى استثمارات سياحية بقيمة 58.5 مليار دولار بحلول عام 2023، وبحسب ما ورد على لسان وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب، أمام جلسة بعنوان “قطاعات المستقبل” في منتدى الميزانية السعودية 2021، إن المملكة فتحت أبوابها للسياح منذ عام 2019، كجزء من استراتيجيتها السياحية، واستقطبت بذلك أكثر من 500 ألف زائر من أكثر من 25 دولة. قبل تفشي جائحة كورونا. وصرحّ في أواخر عام 2020، أنّ المملكة حققت عوائد سياحية قدرها 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالرغم من التأثيرات السلبية للجائحة، إلّا أنّ إشغالات الفنادق في المملكة ارتفعت إلى أكثر من 80% بفضل عودة السياحة الداخلية.
تنفق الإدارة السعودية بسخاءٍ كبير على تجهيز البنى التحتية، وتوظف مواردها المالية لتصبح منافسًا ولاعبًا قويًا في قطاع السياحة داخل منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل إداركها ما تمثلة جارتها (دبي) من سوق سياحية مشبعة ذائع الصيت في السياحة الترفيهية، ربما يكون أحد أكبر تحدياتها، بعدما أزالت الكثير من العراقيل الاجتماعية وأنفقت بسخاء أكبر على حملات دعائية للسياحة على أراضيها، باعتبارها سياحة للمستقبل، ونقطة اكتشاف لمحبي المغامرة.
تحديات داخلية وخارجية
حين خيمّت جائحة كورونا بظلالها على الاقتصاد السعودي، وجدت الحكومة نفسها مأزومة بعد تراجع أسعار النفط بشكل غير مسبوق، في الوقت الذي توجّب عليها اتخاذ قرارات جادة بفتح أسواق ومصادر دخل جديدة، وبذلك شرعت في تنفيذ خطتها التقشفيّة لأول مرة منذ عقود، حيث ضاعفت ضريبة القيمة المضافة لثلاثة أضعاف، ومنعت صرف بدل غلاء المعيشة لموظفي الدولة، وذلك للحد من الانفاق العام في سبيل لدعم خطتها السياحية الطموحة للغاية.
يمثل الموقع الجغرافي للمملكة تحديًا أكبر، فالقطاع الوليد سيجد أمامه الوجهة الخليجية الأكثر جذبًا للسياح، والمحظية بسمعة طيبة إقليميًا وعالميًا “الإمارات”. وسيكون عليها التعامل مع جارة أخرى أي “مصر” التي تملك قطاعًا سياحيًا استثنائيًا بحكم واقعها التاريخي والحضاري العريق، وهي مصر وإلى جانب التحديات الجغرافية والاقليمية، يتحتم على المملكة بذل جهودًا كبيرة لتحسين صورتها المستقرّة في الأذهان منذ عقود مضت. خلال السنوات الاخيرة تعرضت المملكة لأكثر من واقعة أضرّت بصورة البلاد خارجيًا دفعت تلك الوقائع الاجهزة المنوطة بالإسراع في تقديم حملات إعلانية لدعم ما تصبو إليه المملكة في قطاع السياحة وتحسين صورتها عالميًا.
مع بداية العام الجاري، التزم صندوق الثروة السيادية في المملكة بإنفاق ما لا يقل عن 40 مليار دولار سنويًا في الاقتصاد المحلي على مدى السنوات الخمس المقبلة؛ حيث يستعد لبدء مشروعه الضخم الأخير. كذلك، أزيح الستار عن إنشاء مدينة مستقبلية خالية من الكربون تمتد على طول شريط ضيق بطول 170 كيلومترًا من نيوم، وهو المشروع الرائد لولي العهد الأمير محمد بن سلمان. من المتوقع أن تتراوح تكلفة البنية التحتية للمدينة، المعروفة باسم “الخط”، بين 100 مليار دولار و 200 مليار دولار، مع صندوق الاستثمارات العامة كمستثمر أساسي. سيأتي تمويل المشروع من خلال مجموعة من السندات والقروض وحقوق الملكية من صندوق الاستثمارات العامة بقيمة 400 مليار دولار، بالإضافة إلى الاستثمارات الخارجية. من المتوقع أن تتضاعف هذه الأرقام خلال السنوات القليلة الماضية.
مسارات اقتصادية أخرى
منذ بداية عام 2020، يقود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حملة لإقناع الشركات متعددة الجنسيات من Google إلى شركة Siemens بنقل مقارها الإقليمية من دبي إلى الرياض. في إطار مبادرة تنويع مصادر الدخل، تقدم السلطات حوافز للشركات الرائدة في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية والنفطية للانتقال إلى الرياض، وفقًا للاستشاريين الذين يقدمون استشارات للحكومة والمديرين التنفيذيين الذين استمعوا إلى العرض التقديمي.
الهدف من هذه المبادرة هو تعزيز الاستثمار الأجنبي ودعم رؤية ولي العهد الطموحة لترسيخ المملكة كمركز أعمال إقليمي. تؤكد الحملة كيف تستخدم المملكة العربية السعودية، أكبر اقتصاد في الخليج، نفوذها المالي لزيادة المنافسة مع دبي، مركز التجارة والتمويل والسياحة الإقليمي، حيث يقود الأمير محمد بن سلمان تطوير سلسلة من المشاريع العملاقة. تقريبًا جميع الشركات الكبرى العاملة في الخليج الغني بالنفط لها مقار إقليمية في الإمارات العربية المتحدة، وتدرك المملكة أنّها في حاجة ماسة لاستقطاب هذه الشركات وأكثر، لتحظى بما تحظى به الجارة (دبي)، من سوق سياحي مشبع ذائع الصيت في السياحة الترفيهية، ربما يكون أحد أكبر تحدياتها، بعدما أزالت الكثير من العراقيل الاجتماعية وأنفقت بسخاء أكبر على حملات دعائية للسياحة على أراضيها، باعتبارها سياحة للمستقبل، ونقطة اكتشاف لمحبي المغامرة.
وقّع الصندوق عدد من الاتفاقيات ومذكرات التعاون مع بعض البنوك والمؤسسات المالية في المملكة من أجل المساهمة في التنمية السياحية؛ منها اتفاقيتي تعاون مع مصرف الراجحي بهدف دعم تمويل المشاريع في القطاع السياحي وتحفيز المستثمرين في القطاع الخاص وتقديم الصندوق لضمانات مالية لدعم نمو وتنوع المنشآت الصغيرة والمتوسطة في القطاع السياحي للمساهمة في إثراء تجربة السياح. كذلك، وقع الصندوق في نفس العام اتفاقيات مماثلة للعام الجديد2022، مع كل من بنك “الرياض” و”السعودي الفرنسي” من أجل تأسيس برامج تمويلية لدعم وتطوير القطاع السياحي بقيمة تصل الى 160 مليار ريال سعودي.
مول الصندوق السياحي ملتقي المعرفة بالمدينة المنورة، وفقًا لمصادر في نوفمبر 2021 ب391 مليون ريال كما أطلق بالتعاون مع بنك الرياض برنامج “شركاء السياحة” بقيمة تمويلية 2 مليار ريال؛ بالإضافة إلى العديد اتفاقيات الشراكة التي وقعها الصندوق منذ أواخر العام 2020 مع بنك الرياض و البنوك الأخرى لتمويل المشروعات السياحية. ويستخدم الصندوق، أحدث التقنيات، في عمله على تطوير ودعم قطاع السياحة، مثل مجموعة الحلول والتطبيقات السحابية والبرمجيات كخدمة “ساس” (SaaS) والمنصة كخدمة “باس” (PaaS ) والبنية التحتية كخدمة “إياس” (IaaS ) من Oracle، وجميعها مصممة لتعزيز أتمتة وتكامل الوظائف الأساسية لصندوق التنمية السياحي، بما في ذلك العمليات المالية الأساسية، والتمويل، والموارد البشرية، والمشتريات، وهو ما يعزز قدرة الصندوق على التوسع والابتكار في الخدمات الجديدة لدعم قطاع السياحة في المملكة. يهدف الصندوق من خلال تنفيذه استراتيجية ’الحوسبة السحابية ‘ إلى تعزيز تكامل البيانات وتوحيد عملياته الأساسية، وزيادة الإنتاجية، وتقليل التكاليف، والتواصل بسلاسة مع كافة الأطراف من مستثمرين وممولين وهيئات حكومية. كما ستسهم الحلول والتطبيقات السحابية الجديدة في تبسيط عملياته، وبالتالي ترسيخ مكانته كمُمكّنْ رئيسي للمستثمر في قطاع السياحة الواعد بالمملكة.
لماذا السياحة؟
يمثل قطاع السياحة حالياً 3% من الدخل القومي، فيما يستهدف الوصول إلى 10% خلال العقد الجاري. ووفقًا لمصادر سعودية، فقد أدى سياسات المملكة الانفتاحية إلى إثارة فضول قطاعات عديدة عبر العالم لزيارة السعودية. وخير دليل على ذلك أنه حينما أطلقت “التأشيرة السياحية الإلكترونية” حصل عليها نحو 450 ألف سائح قدموا للمملكة خلال 6 أشهر قبل جائحة كورونا.
وفي تصريحه لمركز الإنذار المبكر، يستكمل الجبرتي: “علينا ألّا ننسى مساهمة برنامج جودة الحياة الذي تقوم عليه 13 جهة حكومية وتزيد ميزانيته على 60 مليار ريال ويعمل على 130 مشروعاً تم تنفيذ الكثير منها، حيث يهتم بتهيئة البيئة اللازمة لدعم واستحداث خيارات جديدة تُعزّز مشاركة المواطن والمقيم والزائر في الأنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية والسياحية والأنماط الأخرى الملائمة التي تساهم في تعزيز جودة حياة الفرد والأسرة، وتوليد الوظائف، وتنويع النشاط الاقتصادي، وتعزيز مكانة المدن السعودية في ترتيب أفضل المدن العالمية.
لقد أثمر العمل الدؤوب لمنظومة السياحية وقطاعي الترفيه والرياضة خلال الفترة الماضية عن تأسيس أكثر من 1000 شركة صغيرة ومتوسطة تعمل في قطاع الترفيه، وتنفيذ10 آلاف فعالية ترفيهية، والإعلان عن 100 ألف وظيفة في قطاع السياحة. خلال عام 2021 فقط؛ تم توظيف أكثر من 15 ألفاً، إلى جانب تدريب 20 ألف شاب وشابة في قطاع السياحة خلال الربع الأول لعام 2021 ووصول نسبة البطالة في العلا إلى 0%، وإيجاد ما يزيد على 101 ألف وظيفة حتى نهاية عام 2020 في قطاع الترفيه، ونجاح المواسم السياحية نجاحاُ منقطع النظير سواء المقامة صيفاً وشتاءً، فضلاً عن استضافة فعاليات رياضية عالمية مثل السوبر الإسباني والإيطالي ورالي داكار وفورميلا إي، كما احتلت السعودية المركز السادس كأكثر الوجهات السياحية أمانًا بين دول العالم، في ظل جائحة «كورونا»، والوحيدة من بين دول الشرق الأوسط.