(هذا النص جزء من البحث الفائز بجائز الشباب العربي لعام 2021 والتي يقدمها معهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الأليسكو”)
لم يعد التساؤل حول ما إذا كانت الرأسمالية العالمية باقية أم أنها ستندثر، بل ما إذا كان من الممكن علاج مواطن الخلل الهيكلي والتناقضات الكبيرة التـي تنتجها. وتعد الإجابات على هذا التساؤل بمثابة سيناريوهات كبرى حول مستقبل الرأسمالية. ويدور المسار المستقبلي الأكثر أمنًا للاقتصاد العالمي حول بناء نماذج للتنمية الاقتصادية تكون أكثر تضمينًا واستدامة، وأكثر حفاظًا على البيئة والموارد المستقبلية وحساسية تجاه المناخ، وأن تسعى إلى مزيد من المساواة وأن تضمن الرعاية الصحية للجميع وتبقي على روح الإبداع. تصف ماريانا ماتزوكاتو أستاذ الاقتصاد الدولي الوصول إلى هذا النموذج بأنه أكثر طموحًا من السعي إلى الوصول إلى القمر، لكنه ممكن. منذ مطلع القرن الحالي، يمر النظام الاقتصادي الدولي بالعديد من الأزمات المتلاحقة التي دائمًا ما توصف بأنها دورية، مثل أزمة الرهن العقاري في ٢٠٠٨ وتداعياتها اللاحقة، مرورًا بأزمة الأسواق الناشئة والديون العالمية، وصولاً إلى التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا. وتعبر هذه الأزمات عن تحولات أعمق في بنية نموذج الليبرالية الاقتصادية والسوق الحرة العالمية. وبقدر ما تحمل هذه التحولات من مخاطر، بقدر ما تجلب من فرص، ويمكن تلخيص هذه التحولات في النقاط التالية:
- الريعية: كشفت الأزمة الاقتصادية في العام 2007/ 2008 عن تحول الرأسمالية بشكل كبير إلى رأسمالية غير إنتاجية، حيث تضخم القطاع المالي والعقاري والريعي على نحو ضخم بحيث أصبحت الاقتصادات أقل تنوعًا، وأقل إنتاجًا مما كانت عليه في المرحلة المبكرة لنشأة النظام الرأسمالي. الريع هو أحد مكونات الإنتاج ويشير إلى تحقيق أرباح دون إنتاج للقيم، كالإيجارات والمضاربات، وحقوق الملكية الفكرية. وقد كشفت تقرير الجنة الأوروبية للحقوق الفكرية في 2018 عن ارتفاع مساهمة الصناعات كثيفة الملكية الفكرية في الناتج المحلي الأوروبي إلى 42% مقابل 39% في 2013.
وكشفت الأزمة أيضًا عن مدى تداخل الاتجاه نحو استخلاص الأرباح من العقارات وسياسات البنوك. ففي السبعينيات، بلغت قيمة قروض العقارات من البنوك في الولايات المتحدة حوالي 40% وقفزت هذه النسبة عشية أزمة الرهن العقاري إلى حوالي 60% وعلى الرغم من تجاوز الأزمة من خلال حزم الإنقاذ والتحفيز الحكومي للاقتصاد، فإن هذا لم يغير وضعية تضخم القطاع المالي والبنكي، بل أضحى القطاع المالي يغذي نفسه من خلال استثمار الأرباح المتحققة بعد الانتعاش في القطاع نفسه. على سبيل المثال، تدعم البنوك البريطانية القطاعات الإنتاجية والخدمية غير المالية بنسبة 10% فقط. على الرغم من استمرار الاقتصاديات الغربية بحصة أكبر في الإنتاج العالمي، إلا أنها على شفير وضعية اقتصادية هشة، نجد مثيلاً لها في الدول النامية، حيث يزيد تضخم القطاع المالي من هشاشة الأسواق وتعرضها للاهتزاز، وهذا له تداعيات كبيرة على أزمات أخرى وأهمها عدم عدالة توزيع الثروة.
- عودة الدولة: كشفت الأزمات المتلاحقة عن فشل السوق الحرة في تصحيح مسارها، بحيث أصبحت اليد الخفية تحتاج إلى من يقودها. في الواقع ارتبط تطور النظام الرأسمالي بتصاعد قوة الدولة والحاجة إليها لعلاج الأعراض الجانبية للسوق الحرة، خاصة عدم عدالة توزيع الثروة، وفي أوقات الأزمات والحروب. ومع تلاحق الأزمات، أصبح دور الدولة يتجاوز القيام بوظائف الحراسة والعدل. ويتحول الجدل حاليًّا بين دعاة تقويم النظام والمزيد من الحريات مع إذا كان دور الدول “مُصَحِحًا” أم “شريكًا” في الاقتصاد، خاصة بعد الدعم الكبير الذي قدمته الحكومات الغربية للبنوك والقطاع المالي خلال الأزمة المالية العالمية. ومع صعود الصين وما تمثله من نموذج تنمية اقتصادية تسيطر عليه الدولة وتتحكم فيه، أصبح دور الدولة في التنمية مؤكدًا سواء.
- الحمائية: كشفت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة في عهد إدارة ترامب عن قصور الإطار المؤسسـي للنظام الدولي عن حل النزاعات القائمة بين الدول الكبرى. إلا أن الأهم أن هذه الحرب كشفت عن أن الدول الكبرى تضطر أحيانًا إلى اللجوء لإجراءات حمائية لحماية مصالحها بعيدًا عن مبادئ السوق الجمركية الحرة التـي حاولت لعقود فرضها على الدول النامية. لجأ ترامب إلى فرض تعريفات على السلع المستورد للسوق الأمريكية من الصين وأوروبا والمكسيككأداة لمعالجة عجز الميزان التجاري الأمريكي وإنعاش الأسواق الوطنية، في نموذج واضح على تدخل الدولة لتصحيح اختلالات السوق. إلا أن استعار هذه الحرب، مع اتجاه الصين لاتخاذ إجراءات مماثلة على السلع الأمريكية، جعلت قدرة النظام الاقتصادي الدولي على الحفاظ على “سلاسل العرض” الضرورية لتوحيد الاقتصادي العالمي في خطر داهم. وعلى الرغم من التوافق الجزئي بين البلدين، فقد أكدت اتجاه الدول إلى التوسع في الاعتماد على مواد قوانين التجارة الخاصة بمبادئ الحماية والتدخل العنيف لحماية مصالحها.
- تفاقم الديون: بدأت الأزمة في الوضوح مع بلوغ إجمالي الديون العالمية أعلى مستوى على الإطلاق عند 281 تريليون دولار لنهاية 2020، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 355%. وأصبحت الأزمة أكثر وضوحًا مع تعثر الشركات في الدول النامية في سداد ديونها، بداية من الحالات المعتدلة مثل تركيا إلى الحالات الأشد خطورة في فنزويلا التـي بلغت حد الهاوية. وأدى وقوع وباء كورونا إلى تفاقم الأزمة واتضاح شمولها معظم دول العالم حتـى الاقتصادات المتقدمة التـي راكمت ديونًا تتجاوز معدل الديون قبل الأزمة المالية في 2007/2008. قد يؤدي تفاقم هذه الأزمة إلى دفع الحكومات إلى تقليص الإنفاق العام، وبالتالي تقييد فرص النمو في مرحلة ما بعد الوباء.
- تفاقم عدم المساواة: تصف منظمة أوكسفام عدم المساواة العالمية بأنها حد الخروج عن السيطرة؛ حيث يعيش مئات الملايين في فقر مدقع، فيما يزيد عدد المليارديرات على نحو غير مسبوق، ويمتلك 1% من الأفراد الأكثر ثراء في العالم ضعف ما يمتلكه حوالي 6.9 مليار شخص. كما أن حوالي نصف البشرية يعيش على أقل من 5.50 دولار في اليوم الواحد. وتبقى المعضلة أن الحكومات تدفع نحو “عدم المساواة” بشكل حاد مع سياسات الضرائب التفضيلية أمام الشركات الكبرى خاصة تلك العاملة في مجال التكنولوجيا. ويعد جيف بيزوس، رئيس مجلس إدارة شركة أمازون، وأغنى رجل في العالم، هو المثال الأبرز على ذلك، حيث ذكرت وكالة “بلومبرغ” للأنباء الأمريكية، أن “بيزوس”، الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، لم يدفع أي ضريبة دخل اتحادية خلال الفترة بين العامين 2007-2011.
لقد نجحت الصين في توسيع الطبقة الوسطى منذ الثمانينات حتـى العقد الثاني في الألفية الثانية، والقضاء على الفقر في كثير من مناطقها. إلا أن هذه التجربة خضعت لظروف سياسية واقتصادية قاسية ويصعب تكرارها في بقية دول العالم النامي. وعلى الأرجح أن تركيز الاقتصاد الدولي على النمو والاستثمار في القطاعات غير الإنتاجية من شأنه أن يهدد بانفجارات اجتماعية نشهد بعضها الآن في العديد من الدول.
- ضغط المسألة البيئية: إلى حد بعيد، تسببت الرأسمالية الصناعية في تفاقم التغير المناخي منذ قرنين؛ حيث ما زالت الدول الكبرى تحتفظ بالنصيب الأكبر في تلويث المناخ. إلا أن هناك جوانب أخرى لهذه العلاقة تتمثل في استمرار دعم الحكومات الغربية في دعم شركات الوقود الحفري بمبالغ تصل في الولايات المتحدة، إلى 200 مليار دولار في العام من خلال سياسات ضريبية تفضيلية، وفي الاتحاد الأوروبي إلى 65 مليار دولار في العام الواحد. وجزء من هذا الدعم عدم الاستثمار الكافي طويل الأمد لشركات الاقتصاد النظيف. ومع تعرض هذه الشركات لخسائر بسبب انخفاض أسعار النفط، لم تجد الحكومات الغربية ضرورة لإجبارها على إجراءات حماية المناخ بحلول العام 2030.
- دور الاقتصادات الناشئة: على الرغم من تعرض الاقتصادات الناشئة في العالم الثالث لأزمة الديون، إلا أنها ستظل على المدى البعيد أحد محركات النمو في الاقتصاد العالمي. ومن المتوقع أن تبلغ مساهمة هذه الأسواق في النمو العالمي في العقد ما بين 2040 و2050 بنسبة 75%. يعني هذا أن هذه الأسواق لديها فرصة مجتمعة أن تؤثر على ميزان القوة الاقتصادي العالمي، وأن تجتذب الاستثمارات اللازمة لتحقيق النمو. ومن المتوقع أن تساهم الأسواق الآسيوية بالنصيب الأكبر في الاقتصاد العالمي في المدى المنظور، وكذلك سيكون للدول الأفريقية فرصة أكبر في المستقبل في تحقيق قفزة هائلة في قطاعات متنوعة مثل التمويل الرقمي والتعليم والرعاية الصحية وغيرها، وهو ما سيجعلها أسواق أكثر جاذبية في المستقبل.
كغيرها من الاقتصادات النامية والناشئة، تتأثر الاقتصادات العربية بهذه التحولات وغيرها. وتحمل هذه الاقتصادات فرصًا للنمو المستقبلي، بناء على قوة العامل البشري ووجود إمكانات مالية واستثمارية هائلة وموارد وفيرة خاصة في قطاع الطاقة. إلا أن هناك العديد من الاتجاهات المؤثرة التـي تشكل تحديات أمام “تحول” الاقتصادات العربية في المستقبل. وتتمثل هه التحديات في:
- اتساع الفجوة (عدم المساواة) في الدخول والثروة: على الرغم من التعقيدات المنهاجية التـي تكتنف قياس الثروة وعدم المساواة في المنطقة، خاصة مع اتساع الفجوة بين بلدان العالم العربي، فمن المؤكد أن المنطقة تعد من الأكبر في عدم المساواة في العالم؛ بنسبة تصل إلى 64% مقارنة بنسبة 37% في غرب أوروبا، و47% في الولايات المتحدة. ويوصف حوالي ربع سكان العالم العربي بالفقر، وتتزايد حدة هذا الخلل الهيكلي في الدول التـي تعاني من عدم الاستقرار، مثل سوريا والعراق واليمن، كما تعاني من نفس الخلل الدول في طور التعافي، مثل مصر وتونس، وكذلك دول كانت أكثر استقرارًا مثل المغرب وعمان. إلا أن العامل الأهم في معظم دول المنطقة والذي يساهم في هذه الوضعية هي مخاطر البطالة وعدم التشغيل، وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي المزمن الذي تعاني منه دولة مثل لبنان حيث هناك فشل واضح في النظام السياسي في إدارة الأزمات المتراكمة منذ حوالي ثلاثة عقود. في المقابل، ستتمكن دول مثل الإمارات وقطر من تفادي الآثار الناتجة عن عدم المساواة في الدخول بسبب ارتفاع مستويات الدخل للأفراد مقارنة ببقية المنطقة. إلا أن هاتين الدولتين تواجهان أيضًا مخاطر مترتبة على الوضعية المتردية للعمالة الأجنبية الرخيصة التي تشكل غالبية عدد السكان. وهو ما قد يهدد خطط النمو المستقبلي، وربما تحقيق التنمية المستدامة.
- تزايد الاستقطاب داخل المجتمع الواحد: وهو عامل أكثر تأثيرًا على الدول التي ما زالت في حالة صراع سياسـي أو حرب أهلية. ففي حال عدم انتهاء النزاع في سوريا واليمن أو فشل الانتقال السياسي في كل من العراق وليبيا، ستواجه هذه البلاد انهيارًا مؤكدًا يتجاوز مجرد الانكماش الاقتصادي أو تراجع المؤشرات العامة للتشغيل والاستثمار. ربما تساعد خطط إعادة الإعمار في حال دعمها دوليًّا وإقليميًّا على تفادي هذا السيناريو الكارثي. وفي هذا الصدد، ستكون اليمن وسوريا أكثر حاجة للدعم الدولي، في الوقت الذي يمول فيه قطاع النفط في العراق وليبيا خطط إعادة الإعمار المستقبلية في حال استقرار الوضع السياسـي.
- زيادة الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية (السيبرانية): تتجه معظم الدول العربية إلى رقمنة البنية الاقتصادية. وعلى الرغم من مساهمة هذا الاتجاه في زيادة كفاءة وربط الاقتصاد الوطني وإدماجه في الاقتصاد الدولي، إلا أن هناك مخاطر متعلقة بفشل البنية التحتية الرقمية أو الهجمات السيبرانية، وفي هذا الحالة تبدو دول مثل الإمارات أكثر انكشافًا وتعرضًا للمخاطر، حيث أظهرت تقارير شركة كاسبرسكي الرائدة في مجال حماية البيانات والشبكات أن المستهلكين والشركات في الإمارات واجهوا أكثر من 600,000 هجوم تصيّد في ذروة القيود التي فُرضت على الحركة خلال جائحة كورونا.
- تغير المناخ والضغط على الموارد: على الرغم من أن المنطقة العربية ستكون من أكثر مناطق العالم تأثرًا بتداعيات التغير المناخي الاقتصادية، فإنها لم تنجح حتـى الآن في الدفع نحو تغيير بنية الاقتصادات للتكيف مع هذه التداعيات، خاصة المخاطر المتعلقة بندرة المياه والضغط على قطاع الطاقة والاعتمادية على واردات الغذاء (راجع قسم الموارد).
- عدم تنوع البنية الاقتصادية: ما زال موقع المنطقة في الاقتصاد العالمي لم يبارح كونها مصدرًا هامًا للمواد الخام خاصة البترول. وقد أظهرت تداعيات انخفاض أسعار البترول العالمي تأثيرات هذه الوضعية على إمكانيات النمو وخطط التنمية. وعلى الرغم من اتخاذ بعض الدول خطوات نحو التنويع الاقتصادي اعتمادًا على قطاعات التكنولوجيا والاتصالات، ومحاولة تنشيط التجارة والقطاع الخاص واجتذاب الاستثمارات الأجنبية، إلا أن المنطقة لم تصل إلى التنوع الكافي والقادر على استيعاب الصدمات. وتبدو المعضلة أنه مع اتجاه المنطقة نحو مزيد من الاندماج في النظام الرأسمالي الدولي، فقد لا يكون لديها فرص أكبر للتنويع حيث يزيد ارتباطها بالقطاع المالي، وأيضًا تتحول إلى سوق لاستيراد التقنيات المطلوبة لتطوير قطاع التكنولوجيا الاتصالات، أي التحول إلى الاعتماد على الابتكارات الغربية. وفي غير البلدان النفطية، هناك توسع في القطاعات الريعية مثل الإنشاءات والعقارات والخدمات كالسياحة، وهي قطاعات تتعرض لتقلبات حادة وإن كانت تصلح لزيادة النمو الاقتصادي، إلا أنها لا تصلح كقاطرة للتنمية.
- التأثيرات الممتدة للوباء: على الرغم من أن المنطقة العربية من أقل مناطق العالم من حيث تعداد الإصابات بوباء الكورونا، وكذلك معدل وسرعة انتشار العدوى، إلا أن الآثار الاقتصادية للوباء على المنطقة توصف بأنها عميقة وبعيدة التأثير. وغالبًا ما سيؤدي الوباء إلى تعميق الأزمات الهيكلية التـي تعاني منها الدول العربية بدلاً من أن يخلق واقعًا اقتصاديًّا جديدًا. بدأ هذا التأثير في انخفاض توقعات النمو، خاصة في البلاد التـي تعاني من تبعات الصراع المسلح- والتـي كان من المتوقع أن تدخل في طور الانكماش- بمعدل يصل إلى ١٣٪ وخسائر تصل إلى ١٥٢ مليار دولار. ويعني هذا التراجع العام زيادة معدل الفقر ليصل عدد الفقراء إلى ١١٥ مليون مواطن عربي وتناقص حجم الطبقة الوسطى، وهو ما سيكون له تبعات على زيادة الفجوة بين الطبقات، وعدم المساواة، خاصة في حالة طول أمد الوباء. يعزز من هذا الاتجاه أيضًا التأثير المباشر لموجات الوباء على معدل البطالة. وفقًا لتقرير الإسكوا، فإن أكثر الفئات المتأثرة بالوباء هي الشباب العرب في سن العمل (١٥-٢٩ عامًا) ويبلغ عددهم حوالي ١١٠ مليون. وقد كشف الوباء أيضًا عن حجم الاقتصاد غير الرسمي في العالم العربي، ويشغل الشباب أكثر من ٨٥٪ من نسبة العاملين في هذا القطاع غير المشمول بقواعد وقوانين الدولة وشبكات الحماية والضمان الاجتماعي.
- تفاقم الديون العربية: وهو تعبير عن تـأثير جائحة كورونا على الاختلالات الهيكلية في الاقتصادات العربية. كانت هذه الأزمة واضحة في الدول العربية غير النفطية، حيث شهد الكثير منها ارتفاع الديون العامة إلى مستوى الناتج المحلي. لكنها بدأت أيضًا في الوضوح في الاقتصادات النفطية مع التراجع العام في أسعار النفط منذ العام 2014. وأدت جائحة كورونا إلى ارتفاع المعدل العام للديون العربية في 2019-2020 إلى 22 نقطة.
إلا أن هذه الوضعية الخطرة للاقتصاد العربي بفعل الجائحة والأزمات الهيكلية ليس من المقدر لها الاستمرار؛ حيث من المتوقع تعافي الاقتصادات العربية في الأمد المنظور، وعودة النمو العام إلى معدلات مرتفعة خلال العقد الحالي. بيد أن التعافي الأكثر استدامة هو الذي يتحقق عبر الانتقال من التركيز على استهداف “تحقيق النمو” إلى وضع الاقتصادات العربية على طريق التنمية الشاملة والمستدامة من خلال تحويل نقاط الخلل الهيكلي والعمل على علاجها على المدى المتوسط. يعني هذا التحول الأخذ في الاعتبار التحولات التي يمر بها الاقتصاد العالمي وابتكار نماذج تنمية أكثر توافقًا مع بيئة الاقتصاد العربي ومتطلباته. وتمنح المراجعات القائمة حول مستقبل النظام الرأسمالي الدولي والسوق الحرة الحكومات العربية فرصة لتطوير نماذج تنمية خاصة بها. ويمكن القول إن هذه النماذج يمكن أن تقوم على المفاهيم التالية:
- المرونة: أي رفع قدرة الاقتصاد على امتصاص الأزمات. ويبدو تنويع القطاعات الاقتصادية أساس تحقيق مرونة الاقتصاد، وعدم الاعتماد الكبير على القطاعات الأكثر تأثرًا بالطلب العالمي والمحلي، مثل المواد الخام والمواد البترولية والعقارات، أو الأكثر عرضة للتقلبات مثل الاستثمارات الموسعة في القطاع المالي والريعي. يعني هذا التحول نقل وضعية الاقتصادات العربية من مجرد مورد للمواد الخام إلى منتج للقيمة وذلك من خلال التركيز على القطاعات الأكثر إضافة للقيمة مثل الصناعات التحويلية، والاقتصاد القائمة على البحث والتطوير والابتكار.
- الاستدامة: أي قدرة النظام الاقتصادي على توفير متطلبات الحاضر دون التضحية بحقوق الأجيال القادمة: حيث أصبح تآكل الموارد بفعل التغير المناخي والتدهور البيئي مسألة ضاغطة خاصة في المستقبل.
- الشمول: من خلال منح الفرص في النظام الاقتصادي لجميع المواطنين وكافة الفئات. ويتوقف هذا العامل على البيئة السياسية للنظام الاقتصادي، باعتبار أن السياسة هي عملية توزيع للقيم المادية والمعنوية من موارد وسلطة بين المواطنين. ولتحقيق التنمية المستدامة، فمن الضروري القضاء على أسباب التهميش المترسخة لأسباب جهوية أو فئوية أو نوعية (الإناث مقابل الذكور). ويعني هذا التضمين تعزيز فرص التحول الاقتصادي من خلال استثمار الطاقات البشرية إلى أقصـى حد، والحؤول دون وقوع أزمات سياسية أو استنزاف للموارد.
- الرفاه: بحيث يستهدف النظام الاقتصادي الحياة الكريمة والعادلة للمواطنين. فردم الفجوات في الثروات والدخول من خلال حماية الطبقة الوسطى ومحاربة الفقر ضرورة لا مفر منها سواء كان المستهدف هو تحقيق النمو أو تعزيز عملية التنمية.
ولا شك أن ترسيخ هذه الاتجاهات سابقة يستدعي دورًا أكبر من الدولة سواء للاستثمار، أو تحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والتحويلية، ودعم المبادرات الإبداعية والبحث والتطوير في الجامعات ومراكز البحث، أو كذلك لتصحيح الخلل الهيكلي في بنية الثروة والدخول، أو لوضع تنفيذ التشريعات الحامية للمناخ والبيئة. وأثبتت التجارة أن استثمار الدولة في المؤسسات وإعطاء الأولوية للكفاءة والحوكمة له تأثير كبير على معدلات النمو وبناء اقتصاد أكثر مرونة.