الاقتصاد التشاركي هو نظام اقتصادي ذو طابع اجتماعي يقوم على مشاركة الموارد والأصول المُعطلة بين الأفراد والمؤسّسات من خلال التطبيقات التكنولوجية معتمدا على نظام التقييم. ويهدف هذا النظام إلى تشارك الخدمات والأصول مقابل أجر. وعلى الرغم من أن مصطلح المشاركة ليس حديثًا، إلا أن المفهوم الحديث للاقتصاد التشاركي كفرع من فروع اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي والذي ظهر بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 وما نتج عنها من ركود، مما يعني أنه جاء ليعالج خللاً؛ فالأفراد يميلون للمشاركة عندما يعجزون عن التملك فالمستهلك لا ينشغل بالقدرة على امتلاك السلعة بقدر التمتع بها وبخدماتها. كما أن أزمة كوفيد-19 جعلت الأفراد انتقائيين في اختياراتهم. وعادة ما يتم الخلط بينه وبين بعض المصطلحات مثل “الاقتصاد التعاوني،” الاقتصاد حسب الطلب، اقتصاد العمل المؤقت”، وانتشر عالميا في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين والإمارات.
يهدف الاقتصاد التشاركي إلى ترشيد استهلاك الموارد والحدّ من التلوّث، وتشجيع الناس على التواصل والتعاون وتبادل الخبرات، والتشجيع على الإبداع والمشاركة. ومن أبرز قطاعات الاقتصاد التشاركي التمويل والتوظيف والإقامة والسيارات والنقل وإنتاج المحتوى. يُتوقع نمو هذه القطاعات وزيادة إيراداتها العالمية إلى 335 مليار دولار بحلول 2025. ومن أبرز المنصات “آير بي إن بي” (AirBNB) لتأجير وتبادل وتشارك الغرف والشقق في مختلف أنحاء العالم، و”أوبر ليفت” (UBER LYFT) لمشاركة النقل، ومنصة “أوليكس” (OLX) لبيع الأغراض الشخصية. بينما غابت وانهارت شركات خدمات توصيل الطعام مثل شركات “مابل” (Maple) و”سبريغ” (Sprig) و”سبون روكت” (SpoonRocket) “ووشيو” (Washio) لغسيل الملابس وكيّها.
أهم المميزات التي يوفرها الاقتصاد التشاركي
أهم الميزات التنافسية التي يتمتع الاقتصاد التشاركي التعامل المباشر دون وساطة بين مقدم الخدمة والمستهلك؛ الأمر الذي يساعد على تخفيض التكلفة المطلوبة لإيصال الخدمات. كما يعتمد هذا النمط من الاقتصاد على الأفراد دون الارتباط بحكومات أو شركات. كما أنه يقلل من التكلفة التشغيلية قد تكون عرضة بشكل مباشر أو غير مباشر لأي ارتفاع في سعر الخدمة. ويمكن القول إن تكلفة دخول السوق والخروج صغيرة. نظريًّا يبقي لدى مقدم الخدمة الأصل الخاص به بدون خسائر محتملة.
في الاقتصاد التشاركي أيضًا، يتم التغلب على مشكلة عدم توافر المعلومات، وتقليل تكلفة المعاملات وذلك من خلال توفير التقييم والمعلومات المسبقة عمن يقوم بالخدمة فلا يترك فرصة للتجربة التي قد تتسبب في توفير الخدمة بجودة أقل – إلا أنه قد يواجه بعض المشكلات من خلال إخفاء التقييمات السلبية أو قد يتضمن تقييمات وهمية -والمشاركة في المكسب حيث يشجع على الاستفادة من أو تسعير للوقت أو الأصول الغير مستغلة كما يعتمد على الثقة المتبادلة بين –مقدم الخدمة والمستفيد- حتى يلتزم بالدفع ويقوم بالالتزام بتقديمه للخدمة. كما ينبغي الحفاظ على الموارد والشفافية في الوصول للمعلومات حتى يمكن زيادة عدد المستخدمين؛ مما يجعله منافسًا للفكر الرأسمالي الذي يعمل على المنفعة الفردية كما أنه يساعد الشركات في حل الأزمات وارتفاع قيمة التكاليف الرأسمالية.
تحديات أمام الاقتصاد التشاركي
خلال وباء الكورونا، ونظرًا لسياسات الإغلاق، لم يتم توفير بديل لمقدمي كما عانت معظم تطبيقات التوصيل، وتم الاستغناء عن الكثير منها حتى تمكنت بعد فترة من تعويض خسائرها. لكن وضعية العمالة المحرومة من التأمينات وبقية الفوائد يثير الشكوك ما إذا كانت هذه الشركات وسيطة أو أنها تسعى للتهرب من مسؤولياتها، فضلًا عما قد يقود إليه هذا النوع من المعاملات من عدم المساواة، إما للمستفيد من الخدمة مثل بعض المغتربين في منطقة الخليج مقارنة بالسكان الأصليين. على سبيل المثال، في تطبيقات خدمات الإسكان، أدى الاقتصاد التشاركي إلى تغير أنماط الإيجارات خاصة في المدن الكبرى؛ حيث تختفي الإيجارات طويلة المدى. قد يكون هناك وفرة في الموارد ولكن دون رقابة. وأثير مؤخرًا بعض الجدل عن مبدأ ترشيد الاستهلاك وطبيعة الاقتصاد التشاركي القائم على تعظيم الطلب وتحويل كافة جوانب المجتمع إلى سلع. كما تعرضت شركة OFO –مشاركة الدراجات- الصينية للإفلاس وذلك في سياق تسارع نموها بدون ترشيد للموارد.
كما أن هناك مخاوف حول مستقبل المنافسة في ظل اتجاه شركات الاقتصاد التشاركي نحو توسيع حصتها من السوق عبر ممارسات احتكارية. مؤخرًا شهدت السوق المصرية اندماجًا بين شركتي أوبر وكريم. وحدث أيضًا اندماج بين اوبر و”ديدي” في الصين على نحو يثير التساؤلات حول ما قد يحدث من احتكار في المستقبل. وهناك كذلك تهديدات على الصناعات التقليدية مثل تأثير آير بي إن بي على الخدمات الفندقية، والتي قد تختفي أمام وجود بديل أقل ثمنًا وأكثر مرونة وسهولة في التوصيل. في المقابل أصحاب المهن التقليدية مثل سائق التاكسي ليس لديهم بديل آخر غير تكلفة الأصل Asset أو تكلفة رخصة القيادة أو تكاليف الإحلال للأصل. كما يواجه ارتفاع تكلفة الفرصة البديلة؛ كما أنه يدفع رسومًا وضرائب وغيرها مقارنة بغيره مع من لا يدفع هذه الضرائب.
ولكن يجب التأكيد على أن الاقتصاد التشاركي لم يكن لينجح إلا نتيجة لوجود بعض الخلل في القطاعات التقليدية التي تحاول الإحلال محلها. على سبيل المثال، قصور قطاع النقل والمواصلات سواء من ناحية خطوط النقل في مقابل ضغط حجم الطلب يمنح فرصة لشركات النقل التشاركي. وتتضح هذه المشكلة بشكل أكبر في العالم العربي؛ حيث تمتاز المدن الكبرى بارتفاع معدلات الازدحام المرورية، ونقص مواقف السيارات بالإضافة الى عدم كفاية النقل العام مما سيدفع من المشاركات الابتكارية في مجال النقل والتي قد تتوسع لتسجل ما يصل إلى 200 مليون رحلة في اليوم.
لكن ليس من المتوقع أن تستمر أوجه القصور في المستقبل، أو قد تتحول إلى عناصر أخرى. وقد يؤدي التنافس بين الاقتصادين التشاركي والتقليدي إلى خلق حافز لدى الصناعات التقليدية للتطوير والوصول الى المستهلك وتوفير العروض الترويجية وتقديم خدمات إضافية او تشارك غيرهم مثل المبادرة التي تضمنت توفير خدمة التاكسي من خلال التطبيق أو تطبيق الدولة للتشريعات والضرائب على هذا القطاع وبالتالي يمكن تنظيمها مع الموازنة بين سعر الخدمة النهائي.
كيف تعاملت الحكومات العربية مع الاقتصاد التشاركي؟
عند النظر في كيفية تنظيم الاقتصاد التشاركي، يواجه صانعو السياسات خيارين؛ وهما إما استبعاد هذه المنصات من خلال وضع القيود التنظيمية والتي تخدم الشركات القائمة بالفعل، أو الموازنة بينهم لزيادة الاستفادة من هذا القطاع. ويحتاج المستهلكون إلى بيئة آمنة وتشريعات وقوانين توفر لهم الثقة والحماية في الاقتصاد التشاركي، وآلية قانونية لتعويض المتضررين من هذه الشركات.
توفر برامج ريادة الأعمال إمكانات كبيرة لجذب العمالة والاستثمارات الخاصة إلى قطاعات الاقتصاد التشاركي الناشئة والتي يمكن أن تقلل من اتجاه المواطنين نحو العمل في وظائف القطاع العام. طبقت الإمارات في 2013 القانون 41 والذي ألزم الأفراد والمنشآت المرخص لها بتأجير بيوت العطلات للنزلاء بالحصول على ترخيص من دائرة السياحة والتسويق التجاري بدبي. ويعد ترخيص منازل العطلات مثالًا على استجابة السياسات العامة لتأثير تزايد الطلب على استخدام “المشاركة.” وإن كان من الضروري إجراء حوار مع مقدمي الخدمات لتحصيل الضريبة مباشرة كما يناقش حاليًا في فرنسا وهولندا والهند والولايات المتحدة، تعمل شركات التكنولوجيا مع الحكومات.
إلا أن طبيعة الهيكل الاقتصادي في منطقتنا الذي يتسم بافتقار المنافسة وتحكم الحكومات بشكل كبير قد يعرقل من دخول الشركات الناشئة التي تعتمد على التكنولوجيا؛ فالطبيعة المحلية والمشكلات الموجودة في مجتمعاتنا قد تحتاج إلى تطبيقات تساعد بشكل كبير على توفير بدائل للمستهلك. ويمكن أن يؤدي التداخل بين الوظائف التنظيمية والتشغيلية للمؤسسات الحكومية في كافة أرجاء العالم العربي إلى تعمق أزمة الكفاءة أو قصور في جودة الخدمات. على سبيل المثال، قد تفكر بعض الجهات الحكومية في استحداث خدمات مشاركة لنقل الركّاب سواء ب(الليموزين)، أو مركبات الأجرة العادية. وبالتالي تقوم الحكومة في هذه الوضعية بدور تنظيمي وتشغيلي وتنافس مع الشركات الأخرى وقد يؤدي إلى تآكل العرض في السوق.
تختلف سياسات الحكومات العربية في التعامل مع شركات المشاركة. على سبيل المثال، منعت سلطة عمان أوبر مقابل لحماية خدمة تاكسي عمان OTaxi، في حين سمحت كل من البحرين والإمارات لـ”اوبر” ولكن من خلال توفير بعض السياسات الحمائية لمن لديهم رخصة سيارة أجرة ربما بسبب ضغط سائقي الأجرة ويسمح فقط بتقديم سيارات الأجرة الفاخرة في الإمارات. فيما دعمت السعودية الشركة لأسباب متعلقة بالتوظيف وتوفير رحلات آمنة للمرأة بما يمكنها من المشاركة في الاقتصاد. ووازن المغرب بين رغبته في تبني أنظمة سياحية جديدة مع الرغبة في ضمان المنافسة العادلة للمقيمين، وتطوير نظام ضريبي رسمي للإيجارات قصيرة الأجل.
كما يمكن للحكومات الاستفادة من الاقتصاد التشاركي كوسيلة لدمج الاقتصاد غير الرسمي. لقد ساعد كوفيد-19 على هذه الجهود. على سبيل المثال، يقدم آلاف العمال في دول الخليج خدماتهم على “آب وورك” UpWork، مما يجعله وسيلة مرنة للأفراد فيما يتعلق بساعات العمل. ولعل ذلك يرد على الحجج القائلة بعدم توفير إجازات مرضية أو إجازات أو تأمينات من أنه يوفر مرونة للأشخاص في العمل.
كما تبرز من التحديات في توفر خدمات رقمية يمكنها التقليل من التكاليف بدون المساس بعنصر الراحة واستمرار القدرة التنافسية للصناعات القائمة في مواجهة التغلغل والانتشار التكنولوجي. وعلى الرغم من عدم معرفة التأثير الاجتماعي لهذا الاقتصاد على التنمية في منطقتنا، تشير البيانات المحدودة إلى الأهمية المتزايدة لهذا القطاع في دفع عجلة أنشطة السفر والسياحة في المنطقة. وعلى سبيل المثال، فإن 40٪ من مستخدمي المركبات العاملة على تطبيق شركة أوبر في دبي من خارج البلاد. على الجانب الآخر قد تسهم هذه التطبيقات في حل مشكلات النقل في الوطن العربي. وبالتالي قد تقوم بدور يتعدى توفير وظائف أو استغلال الموارد معطلة إلى المساهمة في تعزيز قطاع مثل السياحة الذي عانى مؤخرًا بشكل كبير نتيجة تقييدات كورونا، وهو القطاع الذي يساهم بحوالي 283 مليار دولار في الوطن العربي ويوظف 11 مليون عامل (مما يجعله متساويًا تقريبًا مع القطاع المصرفي والصناعات الكيماوية والقطاع الزراعي والسيارات)
توفر طبيعة دول الخليج السكانية ميزة لصالح التوسع في الاقتصاد التشاركي كمصدر لتوفير فرص العمل للشباب. كذلك تساهم البنية التحتية الاتصالاتية القوية في تعزيز هذه الفرص؛ حيث توجد 3 دول من أقوي 40 دولة عالميًا في مجال تكنولوجيا المعلومات. كما نجحت دول الخليج في أن تنتقل من مرحلة الاستهلاك إلى إنتاج التكنولوجيا مثل تقييم الشركة الكويتية “طلبات” Talabat بحوالي 170 مليون دولار في عام 2015، وتقييم منافستها الكويتية “كاريدج” Carriage بحوالي 100 مليون دولار في ٢٠١٧. وفي البحرين تم تأسيس “ملاعب” والذي يساعد في تأجير ملاعب كرة القدم ثم انضمت اليها العاب أخرى. من المتوقع أن يصل حجم الاقتصاد التشاركي خاصة في منطقة الخليج العربي إلى ما لا يقل عن 250 مليار دولار بنهاية عام 2025. وذلك بعد أن بلغ عام 2014 حوالي 30 مليار دولار أمريكي.
خارطة طريق لمستقبل الاقتصاد التشاركي
ومع التطور الرقمي السريع، يجب على الحكومات تطبيق سياسات استباقية؛ فالتعامل الحكومي مع مشاركة الدراجات كان أفضل من مشاركة السيارات. ولا يمكن تعزيز الاقتصاد إلا من خلال القيادة السياسية بالإضافة إلى المشاركة الفعالة من الشركات، ورفع وتمكين مستوى المواهب وصقلها، وتعزيز الشراكة بين هذه التطبيقات وبين الحكومة، وتعزيز السياسات العامة الداعمة إلى إصلاح سياسات السوق ودعم حرية الدخول والخروج. وفي هذا السياق، يبرز تمرير البرلمان المصري للقانون رقم 87 لسنة 2018 باعتباره واحدًا من القوانين الأولى في تطوير ساحات السفر “المتعلق بتنظيم خدمات النقل البري للركاب باستخدام تكنولوجيا المعلومات”
ويمكن للشركات أيضًا التوسع في خدمات توصيل الطعام والنقل الجماعي والبريد السريع. كما يعزز الاقتصاد التشاركي من فرص تمكين المرأة وأن يتعدى دورها مجرد استخدام التطبيقات في مجتمعاتنا لتكون رائدة ووسيلة للمتقاعدين لتوفير مصدر دخل. وهناك احتمالية أن يدخل قطاع الصناعات الثقيلة لمجال الاقتصاد التشاركي، وعليه تسعى العديد من الشركات مثل أرامكو السعودية للوصول الى أفضل وسيلة لتعزيز مشاركة الموارد واللوجستييات في هذه الصناعة لتقليل الانبعاثات الكربونية وأيضا تحسين كفاءة رأس المال واستغلال الموارد في هذه الصناعة؛ من خلال تقاسم الأصول غير المستغلة خاصة في ظل عدم اليقين بعد انتشار كورونا.