تعاني سوق العمل في المنطقة العربية الكثير من الاختلالات؛ خاصة في ظل ارتفاع نسبة الشباب في المنطقة مقارنة بنسبة كبار السن، ووجود العديد من التشوهات الهيكلية في الاقتصاد التي تجعل من الصعوبة توفير الاستقرار والشمول الوظيفي. كما تعاني السياسات الاجتماعية في منطقتنا بشكل كبير من صعوبة تغطية المواطنين بشكل كامل، وكفالة حياة اجتماعية لائقة؛ خاصة مع تواجد نسبة لا بأس بها في قطاع العمالة غير الرسمية، التي نادرًا ما يشملها تأمين صحي ملائم أو معاش اجتماعي يكفل حياة كريمة؛ خاصةً مع الضغوطات الاقتصادية الأخيرة والتي تلت أزمة كورونا.
دفعت هذه الضغوط حكومات المنطقة إلى تطبيق سياسات اقتصادية انكماشية تؤثر بالشكل الأكبر على محدودى الدخل والذين عادة ما يعلمون في الحرف البسيطة التي تفتقد وجود مهارات مميزة. لكن الخطر الأكبر على هذه العمالة يأتي من الاتجاه نحو التطبيقات التكنولوجية التي قد تكون بديلًا للعمالة البشرية. على رأس هذه التطبيقات الذكاء الاصطناعي التي ستصبح مكونًا رئيسًا للاقتصادات التي تسعى للحاق بالثورة الصناعية الرابعة، وتنويع مصادر الثروة والدخل القومي بديلاً عن التصنيع التقليدي والموارد الطبيعية.
الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي
انتشرت العديد من التطبيقات التي تحاول الاستغناء عن العامل البشري وتقليل العمالة خاصة مؤخرًا؛ خاصة مع انتشار وباء “كوفيد ١٩؛” حيث لجأت بعض الدول لتقليل التعامل البشري في أوقات الأزمات؛ ومن ثم حماية عدد أكبر من الأشخاص خاصة في بعض المهام البسيطة، مثل محلات الجملة أو في الأعمال الشاقة أو الخطرة وتوفير المساعدة لذوي الهمم.
وفي ظل ظهور وتزايد الدور الذي تقوم به التحولات التكنولوجية في سوق العمل، فقد ازدادت الانتقائية وانخفض الطلب على العمالة، وازداد التوجه إلى الوسائل المبتكرة التي تخفض من الوقت والتكلفة، وبالتالي تزيد من الكفاءة والإنتاجية. وهو الأمر الذي عادة ما يفضله القطاع الخاص؛ فتوسع الاعتماد على الآلات والوسائل التقنية وحزم البرامج والتطبيقات الحديثة، كل هذه السمات تزيد من مخاوف الأفراد عما سيحدث في المستقبل.
إلا أنه يصعب الاعتماد بشكل كلي على الآلات والتطبيقات مثل خدمات التوصيل والرد الآلي لخدمة العملاء أو تطبيقات فحص السير الذاتية من الموارد البشرية. فقد أثبتت التجربة ضرورة وجود العامل البشري لاستكمال المنظومة بشكل أفضل.
كذلك لا يمكن فصل البشر عن الآلات. فلا يمكننا القول إن الآلات ستحل محل البشر كليًّا؛ حيث يبرز دور مكمل للآلات في الوظائف البشرية. كما أن دول العالم العربي بشكل كبير مازالت مستهلكة فقط ومعتمدة على استيراد تقنيات الذكاء الاصطناعي فقط. وإن نجحت بعض الدول العربية بشكل صغير في إنتاج هذه التقنيات أو استخدامها في الدعاية دون وجود قيمة مضافة منها، ومعظم التطبيقات الناجحة في المنطقة تفتقد إلى الابتكار؛ فهى لا تتعدى إعادة صياغة وتقديم حلول لتطبيقات موجودة بالفعل مثل “أوبر” أو “أمازون.” وهذه التطبيقات لم تقدم حلولًا مبتكرة بقدر ما ساهمت في حل مشكلة في المجتمع.
صعوبات إحلال الذكاء الاصطناعي في الوظائف البشرية
مما يؤكد على صعوبة استبدال الأفراد بالآلات ما نشأ مؤخرًا “بالصناعات المساعدة للروبوتات” في خطوط الإنتاج لتشمل مشاركة الأشخاص للروبوتات، وذلك على الرغم من اعتماد بعض الصناعات على الروبوتات في بعض دول المنطقة مثل الروبوتات الطبية والعسكرية والإنقاذ إلى جانب بعض الروبوتات الخدمية. كما شاع استخدام الروبوتات الشرطية في دبي. ولكن لا يمكن الجزم بأن هذا الانتشار سيؤدي إلى خفض الطلب على الأشخاص أو منافستهم. ولكن على العكس من ذلك، فالتوسع في الاعتماد على الآلات سوف يزيد من الطلب على الأفراد مما يؤدي إلى زيادة دخول هؤلاء الأفراد.
إن تقنيات الذكاء الصناعي نفسها ما تزال في طور النضج. ويحاول عدد كبير من الشركات الكبرى استكشاف ما يمكن أن تضيفه تقنيات الذكاء الصناعي لأعمالها، فإنها تنطوي على إيجابيات عديدة لمن يُحسن توظيفها. ومن هذه الإيجابيات خلق فرص استثمارية جديدة، وتخفيض تكاليف الإنتاج، وتعزيز الإنتاجية من حيث الوقت والتكلفة وتحقيق معدلات أعلى وأٍرع من التنمية الاقتصادية.
وعلى الرغم من تميز أجهزة الحاسوب بالسرعة في إنجاز الاعمال وقدرتها على التعامل مع الأمور المعقدة بشكل أسرع، يصعب عليها أن تتفوق على العقل البشري، أو أن تنجح في المجالات التي تحتاج إلى إبداع؛ فهي تعمل بشكل أقل كفاءة في المهام التي يقوم بها البشر بشكل سهل، كما أنها تساعد بشكل كبير على تطوير كفاءة العمل الذي يقوم به الأفراد من خلال إتاحة الوقت للأفراد للتركيز في تنفيذ العمل بشكل استراتيجي محكم له قيمة مضافة.
فكما رأينا في فيلم “سولي Sully” قد يستغرق العنصر البشري وقتًا أطول من الجهاز في الاستجابة للأزمة، إلا أن الاستجابة البطيئة قد تكون مطلوبة في بعض الأحيان لصياغة وممارسة أفضل تتناسب مع الاستجابة الملائمة، خاصة في المجالات الإبداعية مثل التأليف والموسيقى الكتابة والتخطيط المسبق. فعلى الرغم من قيام روبوت بكتابة مقال في “الجارديان،” فما زال السبق للإنسان في الإبداع حيث الحربة والمجاز والشعور، وهي ملكات يصعب على الآلات التنافس مع البشر حولها.
بالإضافة إلى أن برمجة الآلات تعتمد بشكل كبير على الإنسان وحتى إن قام العلماء بخلق العقل للذكاء الصناعي، فكيف يمكن ضمان أن تكون جميع أنظمة الذكاء الصناعي على نفس الدرجة من التفكير، ولا يحدث معهم التفاوت الذي يحدث بين البشر؟ فالتجربة والأخطاء تزيد من تراكم الخبرات للأشخاص بعكس نظم الذكاء الاصطناعي التي يعني ارتكابها الخطأ وجود خلل؛ الأمر الذي يجعل من الصعوبة الاستغناء عن المبرمج الذي يقوم بنقل خبراته اليها.
وتشير تقديرات ماكينزي الاستشارية أن نصف العمالة القائمة حاليًا يمكن استبدالها بالأتمتة، وعلى الرغم من أن تقديرات شركة “ماكينزي” McKinsey بأن هذه التطبيقات يمكن أن توفر نحو 16 تريليون دولار من الأجور، إلا انه على الجانب الآخر فإن التكاليف الإجمالية للتشغيل والصيانة وأيضًا الأجور التي تطلبها العمالة المتخصصة الفنية قد تكون أكبر مقارنة بالأجور التي تتطلبها العمالة البسيطة التي تم توفير أجورها.
حسابات الأتمتة السياسية والاجتماعية
بينما يتوقَع ارتباط النمو بشكل عام بتحول الأشخاص من الوظائف منخفضة المهارات إلى الوظائف متوسطة المهارات، إلا أنه خلال العشرين عامًا الماضية، وبسبب الأتمتة اختفت –تقريبًا- معظم الوظائف متوسطة المهارات؛ حيث عادة ما يجد الأفراد صعوبة في التحول إلى الوظائف عالية المهارات مما يجعلهم ينحدرون مرة أخرى إلى الوظائف منخفضة المهارات الأمر الذي يعزز من عدم المساواة ويزيد من صعوبة التحول الاجتماعي. وهو ما يتوقع حدوثه بشكل أسرع مستقبلًا في ظل توقع تهديدات بانخفاض طلب المؤسسات للعمال الجدد خاصة في المجالات التقليدية مثل (المحاسبين- المعماريين- المحللين الماليين- عمال البناء والمصانع- ومندوبي المبيعات- والسماسرة وغيرها) والتي تشكل قدرًا كبيرًا من الطلب على الوظائف في مجتمعنا العربي؛ خاصة في ظل أن البنية الاقتصادية التـي تتسم بكثافة الاعتماد على العمالة. يوضح هذا أيضًا كيف ستؤثر الأتمتة ليس فقط على وظائف ذوي الياقات الزرقاء ولكن أيضًا على مهن ذوي الياقات البيضاء.
تثبت التجربة حقيقة أن تغير الوظائف دائمًا ما يرتبط بظهور خدمة جديدة، مثل الإقبال على خدمات “أوبر” مقارنة بالتاكسي أو الهاتف الأرضي مقارنة بالهاتف المحمول. كما أن الانتشار السريع للتسوق الإليكتروني وتطبيقاته، مع وجود العديد من العروض الترويجية لتشجيع المواطنين على استعمال التطبيقات، قد يحد من مراكز التسوق وما يتبعها من عمالة سواء بمراكز التسوق أو المخازن لعل ذلك يفسر الربط الحالي بين الكثير من الوظائف والتطبيقات.
كما أن التطبيقات الحديثة خفضت بشكل كبير من الاعتماد على مكاتب السياحة في خدمات السفر والحجز وغيرها، وصار الاعتماد بشكل مباشر على المواقع المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك، مازالت تخدم فئة معينة، فكل تغيير تكنولوجي يثير مخاوف وتهديدات. ولكنه على الجانب الآخر يخلق فرصًا أخرى. ومن الصعب تخيل اختفاء قطاعات أعمال كليًّا بسبب التطبيقات.
كما أن هناك مخاوف سياسية واجتماعية من الأتمتة. فالمزيد من الأتمتة قد إلى مزيد من الاضطرابات السياسية والتوجهات المتطرفة، خاصةً مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والصعود اليميني المتطرف وبعض التوجهات داخل الدول إلى توطين الصناعات والوظائف –حيث تشغل العمالة الوافدة في بعض الدول الحرف البسيطة غير الماهرة- الأمر الذي قد يشكل تهديدًا لهم ويزيد من صعوبة التأقلم والتوجه إلى مجالات أخرى.
وعلى الرغم من توقع انخفاض الطلب على العمل اليدوي والتوسع في استخدام الألات، إلا أن الحرف التقليدية قد تطلب مستقبلًا مهارات مكملة بالتطبيقات وتزداد أهميتها في بعض القطاعات (مثل تفضيل الأعمال اليدوية على الأعمال التي تطلب استخدام الآلات مثل السجاد اليدوي- الجراحات- المهارات- التدريب البدني والعقلي)؛ حيث تزداد ندرتها وبالتالي تكون لها قيمة فنية أكبر؛ وبالتالي سعر أعلى. كما أنه مع انخفاض الطلب على العمال، نتيجة للمنافسة مع الآلات، قد تنخفض أجورهم الأمر الذي يشجع الشركات على تعيينهم؛ خاصة مع انخفاض القوى الشرائية. وبالتالي يجب تعيين المزيد من الأشخاص لاستكمال الدورة الاقتصادية وزيادة الاستهلاك والطلب على السلع.
ولأن العديد من اقتصاديات المنطقة تعتمد بشكل كبير على قطاع النفط، وفي ظل الظروف الصعبة التي تمر بها صناعة النفط في ضوء انخفاض أسعار النفط العالمية إلى أكثر من النصف، فإلكثير من شركات النفط تسعى إلى التخفيض في نفقاتها الرأسمالية بشكل كبير إلى حين تحسن أوضاع أسواق النفط العالمية، وممما لا شك فيه أن تقنيات الذكاء الصناعي لها العديد من الآثار الإيجابية تتمثل في تحسين كفاءة العمليات التشيغيلة والإنتاج والتكرير ومن ثم تحقيق وفورات مالية كبيرة للصناعة من استخدام تحليل البيانات الضخمة لتحسين دقة عمليات الحفر بالإضافة إلى استخدام الروبوتات لتكون بديلًا للعمال الميدانيين.
كيف تصوغ دول المنطقة سياسات الإحلال التكنولوجي الأنسب؟
يجب التأكيد أولا على ضرورة قيام الحكومات بدراسة التأثير الاقتصادي الاجتماعي والنفسي من تطبيقات الذكاء الاصطناعي. كما ينبغي النظر في النتائج المترتبة على ذلك بشكل مفصل على القطاعات وبدراسة الأبعاد الاجتماعية، دون النظر إلى إجمالي نسبة البطالة وإجمالي نسبة الوظائف المتوفرة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل مطلق. والأمر يترتب عليه مشكلات على أسر بأكملها وليس الأفراد فقط. كما أن بعض الحرف قد لا تكون مرنة بالقدر الذي يمكن للفرد التنقل من مهنة إلى أخرى بسهولة.
وحتى يمكن الاستعداد لذلك السيناريو، يجب السعي مبكرًا لتطوير المناهج الدراسية وجوده التعليم خاصة ما يتعلق بالعلوم والتكنولوجيا الهندسة والرياضيات STEM، والبرمجة وتطبيقاتها؛ لإعداد الأفراد مستقبلًا لسوق العمل، وكما ذكرنا، فالأعمال الإبداعية يقوم بها الأفراد مقارنة بالتطبيقات بشكل أفضل. لذا، يجب تطوير وتشجيع الفنون والأنشطة الثقافية الإبداعية واستغلال أوقات الفراغ والهوايات.
ويجدر الذكر أن غالبية دول الخليج في السنوات الماضية قد قامت بتطوير النظم التعليمية، والبنى التحتية التكنولوجية، مع استمرارية التطوير والاعتماد على إدخال أحدث الأساليب والتقنيات الجديدة، سواء على المستوى الخاص أو الحكومي؛ وهو ما سيسهل استيعاب التقنيات المستحدثة، ويجعل هذه الدول قادرة على الاستفادة بشكل أكبر خاصة مع ضعف الكثافة السكانية، وتوفر الموارد المادية مما قد يجعلها الأفضل في تأهيل القوى العاملة والتعامل مع الآثار السلبية المتوقعة للتجربة.
كما يتعين على الحكومات توفير الرعاية الصحية والمعاش التقاعدي وهو ما يعرف “بتوفير الخدمات التي يتمتع بها العاملون نتيجة التحاقهم بالعمل” للجميع، مع التأكيد على وجود دخل أساسي لكل مواطن، بما يضمن حصوله على السلع الأساسية. كما يجب توفير صناديق خاصة تقوم بدعم المواطنين للتعلم والتدريب تعمل على تمكين الشباب من اكتساب مهارات جديدة لتمويل نفقات التعلم والتدريب الوظيفي مع ربط هذا الصندوق بالشخص حتي في حالة انتقاله أو تغييره لوظيفته، كما يمكن للدولة والمؤسسات بشكل عام توفير مقابل مادي للعمل التطوعى أو مزايا اجتماعية خاصة في برامج التدريب المهني.
وعلى نطاق المؤسسات، يمكن تشجيع تقاسم الأرباح مع المؤسسات لتعميم فوائد الإنتاجية بدلا من أن تكون قاصرة على فئة معينة. كما يجب تدخل الإعلام لدعم الأفكار الجديدة والنماذج الناجحة لها، فلا يمكن للحكومات فقط القيام بذلك الدور حيث يجب تضافر جهود المنظمات غير الحكومية، والمساعدات من الجهات المانحة لدعم عدالة وشمول هذه التطبيقات والاستفادة منها لجميع الأفراد والتعاون بين القطاع الخاص من خلال تمويل المساعدات العينية أو النقدية القائمة على مفهوم المسؤولية الاجتماعية. وهو ما يعني ضرورة تكيف المجتمع لتعلم الاحتياجات والاستثمار ومحو الأمية الرقمية ومن ثم المساعدة في توفير المهارات المطلوبة لسوق العمل وفقا للمتغيرات الجديدة خاصة مع تشجيع الموسسات التنموية لذلك.
يعني هذا أن الأعمال سيكون عليها تطوير نماذج جديدة تتلاءم مع التطورات التكنولوجية، أما بالنسبة للأفراد، فسيكون عليهم اكتساب مهارات وتعليم مختلف عن التقليدي؛ بحيث يعتمد بدرجة أكبر على الابتكار وبدرجة أقل على المهارات الحرفية التقليدية من أجل زيادة فرص مساهمتهم في أسواق العمل المستقبلي.
وختامًا، فإن التأثير النهائي على دول المنطقة يعتمد على إمكانيات الدول والبنية التكنولوجية وقدرة الدول ومرونتها على تطوير النظم التعليمية حتى تجعل الشباب أكثر قدرة على الاستجابة لمتطلبات سوق العمل وإكسابهم الخبرات والمهارات اللازمة، وبالتالي، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي إذا كانت ستقوم بإنهاء وظائف فانها على الجانب الآخر سوف تخلق وظائف أخرى. فالتأثير النهائي سيكون بشكل واضح للاقتصادات التي تقوم على التنوع الاقتصادي والاقتصاد الرقمي والقائم على المعرفة.