تدفع الثورة الصناعية الرابعة، التي يشهدها العالم منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، الحكومات العربية نحو إحداث تغيرات عميقة في اقتصاداتها، من خلال تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة. تدرك المؤسسات الحكومية والاقتصادية في الشرق الأوسط أنّ هذا التحول ليس خيارًا يمكن الابتعاد عنه؛ لذلك تسعى عدّة بلدان عربية في الوقت الحالي إلى تطوير آلياتها في هذا المجال؛ حيث تشير البيانات إلى توقعات عالمية بأن تحقق بلدان الشرق الأوسط 2%من إجمالي الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، ما يعادل 320 مليار دولار، وهي نسبة ليست بالقليلة، إذا ما قورنت بدول أخرى.
من المتوقع أن يتراوح النمو السنوي في مساهمة الذكاء الاصطناعي بين 20-34٪ سنويًا في جميع أنحاء المنطقة، مع وجود أسرع نمو في الإمارات العربية المتحدة تليها المملكة العربية السعودية. وسيكون لمصر نصيب لا بأس به من هذا التحول. تأتي التوقعات بالنمو في ظل استثمار ضخم قامت به السعودية والإمارات عبر السنوات الماضية، في إطار الحفاظ على مكانتها الاقتصادية، والتحول من الاعتماد على النفط الذي يمثل أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى الانفتاح على الاستثمار في التكنولوجيا وآفاقه المستقبلية الواعدة.
قواعد اللعبة الجديدة:
تكمن أحد مظاهر أهمية الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الاقتصادي من عدم استبداله للعمالة ورأس المال، ولكن في التمكين من استخدامهما بشكل أكثر فعالية. وبالتالي، سيعمل الذكاء الاصطناعي كمكمّل للقدرات البشرية، ويقدّم أدوات جديدة للموظفين والعمالة البشرية، لتحسين إمكاناتها.
سيكون الذكاء الاصطناعي عامل تغيير كبير في قواعد اللعبة في الاقتصاد العالمي. وتذهب التقديرات إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساهم بما يصل إلى 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي في عام 2030، أي أكثر من الناتج الحالي للصين والهند مجتمعين. ومن المفترض أن يأتي 6.6 تريليون دولار من زيادة الإنتاجية، وأن يأتي 9.1 تريليون دولار من الفوائد للمستهلكين.
وتأتي مساهمة الذكاء الاصطناعي في توليد “قيم اقتصادية” من خلال إنشاء خدمات جديدة ومبتكرة ونماذج أعمال غير مسبوقة؛ حيث تتسع مظاهر الموجة الأولى من الرقمنة في الحياة اليومية. ومع توغل الذكاء الاصطناعي، ستصبح الشركات الرائدة في السوق خلال العقود القليلة القادمة، شركات جديدة؛ لم يُسمع بها من قبل.
أجرت مؤسسة البيانات الدولية بحثًا وجد أنّ أكبر الفرص المتاحة للذكاء الاصطناعي تكمن في القطاع المالي، أهم النتائج التي توصّل إليها، أنّ 25٪ من جميع استثمارات الذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا لعام 2021، أو ما يقرب من 28.3 مليون دولار من المحتمل أن تُنفق على تطوير حلول الذكاء الاصطناعي. تأتي بعد ذلك الخدمات العامة، والتي تشمل الرعاية الصحية والتعليم، ثم قطاع التصنيع. ومع تزايد الاستثمار سيتعاظم الناتج، ما يعني تحسن مستدام في الإنفاق العام على الخدمات.
أجبرت جائحة “كوفيد” معظم بلدان العالم على إعادة تقييم منظومة الرعاية الصحية ككل. وفي بلدان الشرق الأوسط، تبنت الحكومات طرقًا أكثر استدامة لحل هذه المشكلات، وذلك عبر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، الذي سيساعدها بشكل كبير على مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية.
مدى جاهزية المنطقة لإعادة هيكلة الاقتصاد:
وفي العالم العربي، أعطت استراتيجيات التنمية الاقتصادية، مثل الرؤية السعودية 2030، الأولوية للاقتصادات المستقبلية الأوسع نطاقًا والاقتصادات المبتكرة. وتقوم تطبيقات الذكاء الاصطناعي – سواء ذات الصلة بالتكنولوجيا المالية أو غيرها – بدور قوي في هذا النوع المبتكر من الاقتصاد.
من المتوقع أن تتحقق أكبر المكاسب من تطبيقات الذكاء الاصطناعي للمملكة العربية السعودية؛ حيث من المتوقع أن يساهم الذكاء الاصطناعي بأكثر من 135.2 مليار دولار أمريكي في عام 2030 في الاقتصاد، أي ما يعادل 12.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
تعتبر هذه الأرقام في نطاق المعقول والممكن، ولا تفاجئ صنّاع القرار؛ بالنظر إلى استثمار السعودية في تطبيقات في الذكاء الاصطناعي، مقارنة ببقيّة دول المنطقة؛ حيث تحتل السعودية، إلى جانب الإمارات ترتيبًا ضمن أفضل 50 دولة في العالم على مؤشر الابتكار العالمي من حيث القدرة على الابتكار ومخرجات ابتكاراتهم. وهو ما يدفع قادة السوق في الغد إلى استكشاف الإمكانيات والقدرات الهائلة لاقتصاديات الذكاء الاصطناعي ويضعون خططهم من اليوم.
بينما وضع العلماء وصناع السياسات في المملكة العربية السعودية إطارًا لتحديد المواطنين الذين سيتلقون لقاحات فيروس “كورونا”، طورت الدولة حلاً مدعومًا بالذكاء الاصطناعي للبحث في قواعد بيانات الرعاية الصحية الخاصة بها وإعطاء الأولوية لتوزيع اللقاح بناءً على عمر الشخص، المهنة، تاريخ الإصابة، حالة الحمل، وزن الجسم، والأمراض المزمنة.
يستخدم الذكاء الاصطناعي أيضًا خارج المجال المباشر لعلاج فيروس كورونا. في دولة الإمارات العربية المتحدة، طور المتخصصون الطبيون خوارزمية للكشف عن مرض السل، مما قلل من وقت فحص المقيمين المحتملين قبل منحهم التأشيرة.
تملك دولة الإمارات استراتيجية الذكاء الاصطناعي الخاصة بها 2031. ومن المتوقع أن تشهد تأثير للذكاء الاصطناعي على الاقتصاد ما يقرب من 14٪ من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2030. يمكن أيضًا أن يتضاعف حجم التأثير إذا استمرت الحكومة في دفع حدود الابتكار، وتوسيع قاعدة الذكاء الاصطناعي عبر الشركات والقطاعات المحليّة.
إن التزام الإمارات بالتحول الرقمي الأوسع واضح جدًا؛ حيث تحتل المرتبة الأولى في العالم العربي (والمرتبة 12 عالميًا) في القدرة التنافسية الرقمية. فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي. كانت أيضًا الإمارات أول دولة في العالم تنشأ وزارة حكومية للذكاء الاصطناعي. كما جذبت دبي في الفترة من 2015 إلى 2018، ما يزيد عن 21.6 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة للذكاء الاصطناعي والروبوتات، والتي أصبحت الأهم والأعلى في العالم. جدير بالذكر إعلان “مبادلة” أبو ظبي أنها ستصبح مستثمرًا في Group42 (G42)، وهي شركة ذكاء اصطناعي وحوسبة سحابية، من خلال دمج مركزي وتخزين هائل للبيانات.
وأعلنت دولة الإمارات عن تخصيص 270 مليون دولار أمريكي ضمن صندوق الهبات المستقبلية لمساعدة المنظمات على الاستفادة من التقنيات الجديدة في الذكاء الاصطناعي، لمساعدة المؤسسات الخاصة والعامة على عملية التحّول. حددت حكومة الإمارات أيضًا القطاعات التي يمكن فيها تنفيذ الذكاء الاصطناعي، مثل جهاز الشرطة؛ لتطوير أدوات المؤسسات المنوطة والحد من الجرائم، كذلك القطاع الطبي، وقطاع التعليم الذي سيعمل فيهما الذكاء الاصطناعي بشكل يعزز من كفاءة هذه القطاعات، وتطويرها بل وتقليل احتماليات الخطأ بمعدّل هائل.
خارج منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، تحتل مصر الريادة الأفريقية في عملية الرقمنة والتحول الرقمي، حيث تتطلع الحكومة إلى تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي بعدة طرق، بما في ذلك إطلاق أول كلية للذكاء الاصطناعي في جامعة كفر الشيخ. تهدف مصر إلى الحصول على 7.7% من ناتجها المحلي الإجمالي، أي ما يقرب من 45 مليار دولار، من خلال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
تحديّات التحول الرقمي:
تفتقر بنية التعليم في الشرق الأوسط، إلى ما يضمن التحول الآمن نحو الذكاء الاصطناعي، والذي بدأ منذ أكثر من ثلاثين عامًا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. غير أنّ المحاولات الجادة التي تقدمها الدول العربية الثلاث الرائدة في مجال التحول، يمثل بارقة أمل إلى المزيد من التوسع في بلدان أخرى خارج دول الخليج. ومع ذلك، تحول الاضطرابات السياسية العميقة الحادثة في عدّة دول عربية، مثل سوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا، دون هذا التحقق.
تمثل هشاشة البنية التحتيّة وافتقار الكوادر العربية إلى التدريب والمهارة المطلوبة، عائقًا وتحديًا كبيرًا. تحاول كل من مصر والإمارات والسعودية الخروج منه، لكن ثلاثة دول وحدها لن تتحمل عبء باقي دول المنطقة ومعاناتها من بيروقراطية وتأخر اقتصادي، بما يحول بينها وبين التطور المرجو.
وعلى الرغم الاستثمارات الهائلة المتوقعة في مجال “الابتكار التقني،” ما زالت المنطقة مستوردًا صافيًا للتقنيات الرقمية. ولم تجعل الاستثمارات الهائلة لدول الخليج في مجال التكنولوجيا، أية دولة في المنطقة منتجة للتكنولوجيا أو لديها كوادر وابتكارات خاصة بها. بلغت استثمارات الدول العربية في التقنيات الصناعية 2.4 تريليون دولار، حتّى عام 2018، بحسب تقديرات مجلس الوحدة الاقتصادية التابع للجامعة العربية، وفي العام التالي، وقعت السعودية على صفقة بمليار دولار لإنتاج سيارة كهربائية في ولاية أريزونا الأمريكية. إلا أن هذه الاستثمارات الهائلة وما سبقها لم تنجح في التأسيس لتقنيات ذات قيمة مضافة حقيقية في بلدان المنطقة.
نحو تحول آمن
هناك مجالات واعدة يمكن أن تكون مساحة للتجريب وإحداث تحولات تنقية. على رأس هذه المجالات الإدارة المالية، كأحد الساحات العامة التي تشهد تصاعدًا كبيرًا في الاستثمار من قبل الجهات الفاعلة في مجال الخدمات المالية. أيضًا تدعم روبوتات المحادثة خدمة العملاء في القطاعات الاجتماعية، كما في المملكة العربية السعودية، حيث طوّرت الحكومة منصة ابتكار تحت عنوان “مبادرة فكرة تك الوطنية للذكاء الاصطناعي”، كان أول منتج لهذه المنصة، هو تطوير روبوت يدعى “نهلة،” يساعد مرضى السكري على إدارة نمط حياتهم بشكل صحي.
كذلك تمثل التركيبة السكانية العربية فرصة هائلة لتحقيق “تحول تكنولوجي حقيقي،” يمثل السكان الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الفئة الغالبة سكانيًّا حوالي (60% من حجم سكان المنطقة). ويمكن أن يكون الشباب أسهل في التعليم ورفع المهارات والتدريب والاندماج في الاقتصاد الرقمي.
كما أنّ حجم القوة العاملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في طريقه نحو التضخم بمقدار 127 مليون نسمة في السنوات العشر القادمة. من المتوقع يتضاعف عدد الشباب في سن العمل بشكل كبير. على هذا النحو، تتعرض حكومات المنطقة لضغوط شديدة لخلق فرص عمل كافية لتدفق هذا “التضخم الشبابي”، في ظل عملية التحول الرقمي.
وعلى الرغم التحديات التـي قد تعوق إحداث تحولات عميقة في الاقتصادات العربية، إلا أن هناك إمكانيات يمكن البناء عليها، وإحداث تحول تقني آمن في الاقتصاد. يعني هذا التحول الموازنة بين معالجة التحديات الاقتصادية القائمة من تشوهات هيكلية وفجوة في الثروة والعمالة وغيرها، والاتجاه نحو تطبيقات تقنية، تحاول علاج هذه الاختلالات دون أن تعمقها.