تتجه الهند إلى إعادة تعريف دورها في الشرق الأوسط. وهو الدور الذي ارتبط حديثًا بالتضامن مع قضايا العالم الثالث أثناء الحرب الباردة، ثم التركيز على المنافع الاقتصادية في الفترة التالية. وفي هذا السياق تبرز تغيرات على سياسة “التوجه غربًا” التـي صاغتها حكومة “مودي” وشملت تعزيز العلاقات مع إسرائيل والخليج وإيران على السواء. في المرحلة الجديدة، تسعى الهند إلى القيام بدور أمنـي يعززه التخطيط لشق “الممر العربي-المتوسطي” الذي يحاول منافسة النفوذ الاقتصادي والاستراتيجي للصين في جنوب ووسط آسيا؛ من خلال مبادرة تعيد صوغ العلاقات التجارية بين آسيا وأوروبا من خلال الشرق الأوسط.
الدور الهندي المتغير في المنطقة
تفرض الجغرافيا مقتضياتها على العلاقة بين الهند والشرق الأوسط منذ بدء خطوط التجارة والغزو بين الطرفين في العصور القديمة والوسطى. وتحت مظلة الهند البريطانية، عملت شبه القارة، بفضل قوتها البشرية والاقتصادية الضخمة، كالقاعدة الأهم للسيطرة البريطانية على خطوط التجارة الممتدة من الخليج العربي وشرق أفريقيا غربًا حتـى مضايق الهند الصينية شرقًا. كان الجيش البريطاني الذي غزا المنطقة أثناء الحرب العالمية الأولى واستولى على العراق، وهزم العثمانيين في 1917، جيشًا هنديًّا في قوامه الأساسـي. كذلك،كانت الهند المحرك الأساسـي لعولمة هذه المساحة الشاسعة من الحضارات والثقافات وإدماجها في النظام التجاري الدولي لقرون. لكن هذا لم يكن لصالحها، بل لصالح الإمبراطورية البريطانية.
بعد حصولها على الاستقلال في 1947، صاغت الهند، تحت قيادة المؤتمر الهندي وزعامة “جواهر لال نهرو،” سياسة خارجية عالمية ارتكزت “عدم الانحياز” و”رفض الأحلاف الغربية” والتضامن بين دول العالم الثالث. وهو ما تلاقى في العقود اللاحقة مع القومية العربية المعادية للاستعمار بزعامة مصر الناصرية. صِيغ هذا التحالف في مؤتمر عدم الانحياز في باندونج في 1955، وخرجت منه الهند كأقوى المدافعين عن الحقوق العربية والقضية الفلسطينية، وهو ما ناقض رغبات الولايات المتحدة التـي كانت تسعى لوراثة دور بريطانيا في جنوب آسيا، وجعلها تتجه مضطرة للتحالف مع باكستان وإيران. كذلك، كان لوجود الأقلية المسلمة الضخمة في إطار الهند العلمانية دور في صوغ هذه التوجهات.
إلا انقسام الإجماع العربي على القضية الفلسطينية وتراجع القومية العربية وتبدل مراكز القوى العربية، أدى إلى تراجع الهند منذ الثمانيات عن موقفها من المنطقة، ليرتكز على أساس مصلحي محض يقوم على المنافع الاقتصادية والتي تتمثل في تأمين مصادر البترول من دول الخليج العربي وإيران، وضمان تحويلات العاملين الهنود في الخليج. وانتقلت الهند خطورة في الاتجاه المضاد مع إقامة علاقات علنية مع إسرائيل في 1992 أثناء وزارة “ناراسيما راو”. وتكثفت بعدها العلاقات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية على نحو ما شرحناه في موضع سابق.
تواكب هذا التغير تغير آخر في العلاقات الهندية الأمريكية حيث بدأ الطرفان في مزيد من التقارب؛ وتحولت نيودلهي لحليف واشنطن المفضل في جنوب آسيا، في الوقت الذي أصبحت فيه الصين تتأهب للوثوب لقيادة آسيا.
سياسة الاتجاه غربًا تحت قيادة “مودي”
بدأت سياسة الهند في إعادة التوجه المنطقة مع العودة الحالية لحزب “بهارتاجاناتا” القومي بقيادة “ناريندرا مودي” للحكم في 2014. أصبحت الهند أكثر رغبة في الانخراط مع المنطقة على أساس أمنـي واقتصادي. وصاغ مودي السياسة الجديدة تحت عنوان “الاتجاه غربًا” وحددت هذه السياسة ثلاثة أطراف ضرورية لسياسة الهند الشرق أوسطية وهي:
- إيران: قبل 2019، كانت الهند ثاني أكبر مستورد للبترول الإيراني بعد الصين. ومن المتوقع أن يعود البترول الإيراني لتغذية السوق الهندية في حال رفع العقوبات الأمريكية على إيران والتوصل إلى صيغة اتفاق نووي جديد مع واشنطن. إلا أن العلاقات بين الطرفين تتجاوز ملف الطاقة إلى اعتبارات جيوسياسية وجيو-اقتصادية عديدة أهمها؛ دور إيران بالنسبة للهند في احتواء باكستان من خلال أفغانستان، وباعتبار إيران قوة “إسلامية موازنة” لباكستان، وكذلك تحولها إلى المعبر الوحيد للنفوذ الهندي في وسط آسيا بعد أن ضربت الصين وباكستان حصارًا على شمال الهند من خلال امتدادات “الحزام والطريق” والمتمثلة في “طريق قراقورم السريع” وميناء “جوادار.” ولإحداث خرق في هذا الحصار، عقد طهران ونيودلهي مشروع تطوير ميناء- ممر “جابهار” في بلوشستان في 2014 لزيادة حجم التعاون التجاري بين البلدين؛ وكي يكون نقطة انطلاق لممر الشمال- الجنوب التجاري.
- دول الخليج العربي: إلى جانب العراق، تشكل السعودية وقطر أكبر مصدر للنفط والغاز في السوق الهندية. إلا أن الخليج أيضًا يمثل مصدرًا هامًا لتحويلات العاملين الهنود في هذه الدول. وينتمي أغلب العاملين الهنود إلى ولايات “أوتار بارديش” و”تاميل نادو” و”كيرالا” وغيرها، وأغلبهم من العمال قليلي المهارات ومتواضعة الأجور، والقلة منهم يعملون في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والمحاسبات. ويبلغ عدد المغتربين الهنود في دول الخليج حوالي 8.5 مليون مواطن، وتبلغ تحويلاتهم السنوية حوالي 70 مليار دولار. وبلغ من أهمية هذه التحويلات أن أنشأت الهند وزارة المغتربين في 2004.
- إسرائيل: تسارع تطور العلاقات بين نيودلهي وتل أبيب في العقدين الماضيين؛ حتـى أصبحت الهند أكبر زبائن صناعة السلاح والتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية منذ مطلع الألفية. وبلغ حجم مشتريات الهند من الأسلحة الإسرائيلية حوالي 2.2 مليار دولار عام 2015، وتقع إسرائيل حاليًّا في المركز الثالث لمصدر السلاح للهند بعد روسيا وفرنسا بنسبة بلغت 13% من إجمالي واردات السلاح الهندي في الفترة ما بين 2016 و2020. ولم تكتفِ إسرائيل بالمنافسة على سوق السلاح الهندية، التي تعد من الأكبر عالميًا، بل حرصت على دعم الهند عسكريًّا واستخباراتيًّا في مواجهتها مع باكستان في 1999، وفي عمليات مواجهة المعارضة الكشميرية والجماعات الجهادية. إلا أن السنوات الأخيرة بدأت تشهد تحولاً في طبيعة العلاقات التـي ركزت سابقًا على الجانب الأمني والعسكري. فكشفت الزيارة الأخيرة التـي قام بها وزير الخارجية الهندي “سوبرامانيام جايشانكار”- وهو أحد منظري التوجهات العالمية الجديدة لسياسة الهند الخارجية، لتل أبيب في 17-21 أكتوبر 2021 عن اتجاه الطرفين لتكثيف التعاون الاقتصادي. وستشهد الفترة المقبلة توقيع اتفاق للتجارة الحرة بين البلدين، وزيادة معدلات تبادل شهادات تطعيم وباء كوفيد-19 بهدف تسهيل السياحة المتبادلة وانتقال الوفود، فضلاً عن استعداد إسرائيل لتحالف الطاقة الشمسية الدولي الذي تقوده الهند.
الهند في رباعي الشرق الأوسط
شهد 21 أكتوبر 2021 اجتماعًا رباعيُّا حول الشرق الأوسط على مستوى وزراء خارجية الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل. حدد وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين” إطار الاجتماع بأنه منتدى رباعي للتباحث حول أمن الشرق الأوسط، والقضايا المشتركة بين الدول الأربعة خاصة تغير المناخ والتجارة؛ حيث تمتلك الدول الأربعة قدرات تكاملية. كان الخارج عن المألوف حضور الهند باعتبارها شريكًا رئيسًا في أمن الشرق الأوسط، وهو ما يعني أنها بصدد مرحلة جديدة في علاقتها بالمنطقة ربما سيكون عليها الابتعاد فيها عن مبدأ الحياد الاستراتيجي وإبقاء مسافة واحدة مع الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في ترتيبات أمن المنطقة وصراعاتها.
من ناحية أخرى، يواكب إطلاق هذا المنتدى عودة “المنتدى الرباعي حول أمن الباسيفيكي- الهندي” بعضوية الهند واليابان وأستراليا والولايات المتحدة، والموجه بالأساس لمواجهة التمدد والنفوذ الصيني في المنطقة، وهو أحد أكبر التحديات التي تشكل التوجهات العالمية الجديدة لنيودلهي. يشير هذا إلى استعداد الصين للقيام بدور أمنـي في إطار المواجهة الأوسع بين الولايات المتحدة والصين، أولاً في الهندي- الباسيفيكي كساحة صراع رئيسة، ثم في الشرق الأوسط كساحة تالية. الأهم من هذا، أن الهند قد تجد نفسها في الفترة القادمة مقبلة على مراجعة سياسة “التوجه غربًا” بحيث تبتعد بشكل أكبر عن “إيران” كشريك اقتصادي واستراتيجي في مواجهة باكستان لتنحاز بشكل أكبر إلى الاعتبارات الإسرائيلية والأمريكية.
الممر العربي المتوسطي كركيزة اقتصادية للدور الهندي الجديد
يعبر مشروع الممر الاقتصادي العربي-المتوسطي الذي تطرحه الهند حاليًّا عن تغير في توجهات نيودلهي الجيو-اقتصادية تجاه المنطقة. يحاول هذا الممر التجاري أن يعالج أزمة تعثر تنفيذ ممر آسيا الجنوب الشمال الذي كان يستهدف بناء خط تجاري يمتد من مومباي إلى سان بطرسبرغ عبر إيران والقوقاز. وينطلق هذا الممر التجاري من الهند عبر الخليج العربي، الإمارات والسعودية وصولاً لأوروبا عبر الأردن وإسرائيل وشرق المتوسط.
يتأسس هذا المشروع الاقتصادي على عدة حقائق جيوسياسية، أهمها رغبة نيودلهي في الإفادة من تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، خاصة في الخليج؛ والتقارب المتصاعد في العقود الأخيرة بين الهند وإسرائيل؛ و اتجاه الهند لموازنة التواجد الاقتصادي للصين في جنوب آسيا (من خلال الممر التجاري بين الصين وباكستان وصولاً إلى بحر العرب) والشرق الأوسط (من خلال امتدادات مبادرة الحزام والطريق)؛ وأخيرًا اتجاه الهند في تعزيز وجودها الاقتصادي في الشرق الأوسط للإفادة من ممراته وبنيته التحتية التجارية، وتصاعد الحاجة المستقبلية إلى المزيد من واردات الغذاء والمتوقع أن تشهد أزمة ضاغطة في عموم الشرق الأوسط في الآونة المقبلة بسبب تصاعد تأثير التغير المناخي على المنطقة.
تحاول الهند رسم خريطة استراتيجية جديدة، وبناء نموذج جديد متعدد يتمثل في ممر تجاري يمر من خلال بحر العرب والجزيرة العربية وصولاً إلى شرق المتوسط، وبالتالي يعيد تعريف طرق التجارة بين جنوب آسيا والشرق الأوسط وأوروبا. ويعتبر أحد نتائج اتفاقات التطبيع هو بناء طرق سكك حديدية تمر عبر السعودية ووصولاً إلى الأردن ومنها إلى إسرائيل (ميناء حيفا وصولًا إلى ميناء “بيرايوس” باليونان). ومن المتوقع أن تصل الميناء اليوناني بوسط أوروبا من خلال خطوط سكك حديدية تمر البلقان. وبالتالي، ستضمن السلع الهندية طريقها إلى أسواق وسط أوروبا في التشيك والنمسا خلال عشرة أيام، أسرع 40% من عمليات النقل خلال قناة السويس.
إلا أن طرح هذا المخطط يستدعي من الهند التوسع في دورها الاقتصادي في المناطق التـي يمر بها الممر، ليتجاوز مجرد الشريك التجاري. يعني هذا ضرورة تمكن الهند من الاستثمار في عدة مشروعات تؤسس لسلسلة من القيم الاقتصادية بداية من مراكز إنتاجها مرورًا بالشرق الأوسط حتـى أوروبا. كذلك، سيكون على نيودلهي بناء شراكات مع الدول المشاركة في هذا الممر. وفي هذا السياق، تبرز أهمية صناعة الأغذية الموجهة للشرق الأوسط. ومدى اتجاه السعودية والإمارات على وجه التحديد في الاستثمار في البنية التحتية المشكلة لهذا المشروع. حتـى الآن، هناك شراكة بين هاتين الحكومتين والهند في مجال الطاقة وتصنيع البترو-كيماويات، حيث توجد سلسلة قيم بها استثمارات بمليارات الدولار.
يتضح من هذا أن الهند قد تواجه مزيجًا من التحديات الاقتصادية والاستراتيجية التـي قد تحول دون إتمام هذا المخطط. يتمثل أول هذه التحديات أن الهند لا تمتلك القوة الاستثمارية الضخمة التـي تمتلكها الصين في عمليات إنشاء وإدارة الموانئ الكبرى، والطرق الاستراتيجية السريعة. وهو ما يتطلب بناء تفاهم مع دول الخليج العربي لتأمين وضخ هذه الاستثمارات. وفي هذا الصدد، فإن مخطط الهند إنما يعتمد على طبيعة العلاقات الحالية بين إسرائيل والدول العربية، وهي علاقة قد تتعرض للتقلب وتشهد مزيدًا من المعوقات، خاصة مع تردد الإدارة الأمريكية في الضغط على إسرائيل لإحراز تقدم في عملية السلام. كذلك هناك العديد من المعوقات التـي قد تحول دون ربط خطوط التجارة بين الهند والخليج بخطوط السكك الحديدية عبر السعودية، فضلاً عن وجود مخاطر أمنية تتمثل في استمرار حرب اليمن، فضلًا عن استمرار التهديدات المتعلقة بأمن التجارة في الخليج.