لا يكفي الانهيار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان كمحددات توظّفها الطبقة السياسية في إدارة الصراع بين مكوناتها، بل يتضح بمرور الوقت أن الانهيار الذي تسببت به الطبقة نفسها بشكل كبير على مدار عقود، هو البيئة المواتية لتكريس الاستقطاب السياسي والانحدار به إلى مزيد من الشحن والتمترس الطائفي، وذلك أولاً عبر نافذة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي سرعان ما تحوّل منذ الشروع فيه قبل شهور إلى ساحة جديدة للكباش الطائفي المتنامي وبوتيرة متسارعة في الآونة الأخيرة تجلّت عبر سلسلة من حوادث العنف المناطقي والعشائري والسياسي وأخيراً الطائفي، وبلغت ذروتها مع ما حدث من قتل واشتباكات منتصف أكتوبر الماضي في منطقة عين الرمانة/الطيونة، وما جرى بعدها من شدّ للعصب الطائفي مشابه إلى حد كبير بما كان يحدث قبيل الحرب الأهلية اللبنانية، والتي انطلقت شراراتها 1975 من نفس المنطقة.
ويبلغ استغلال مأساة انفجار مرفأ بيروت حدوداً خطرة حتى بمعايير السياسة في لبنان، بل إنّه صار في الأيام الأخيرة مادة من شأنها “تفجير الحرب الأهلية الصامتة التي سادت لبنان منذ عام ١٩٩٠”، وفق رأي عدد من المتابعين الذين يعتبرون أنّ اتفاق الطائف بغطاءاته الإقليمية والدولية رسّخ ما يمكن وصفه ب”السلم الكاذب” بعد أعوام من الاقتتال الداخلي واجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت عام ١٩٨٢. ويقول صحافي لبناني إنّ الوضعية في لبنان كانت “إلى لحظة اغتيال رفيق الحريري عام ٢٠٠٥” محكومة بعبارة المفكّر الفرنسي ميشال فوكو بأنّ السياسة هي استمرارية للحرب وإنّما بوسائل أخرى، مستدركاً “يبدو حالياً أنّ لا ضمانات بعدم العودة إلى ما قبل عام ١٩٩٠، لتنقلب الآية من فوكو إلى نظرة الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيتز الكلاسيكية: الحرب هي استمرارية السياسة وإنّما بوسائل أخرى.
في ضوء ذلك، نستعرض في هذا التحليل تداعيات التصعيد الأخير في لبنان، ومدى ارتباطه بعوامل داخلية وخارجية تحدد أفاقه في المستقبل القريب، وكذلك تداعيات التلويح بالاقتتال الأهلي قبيل انتخابات برلمانية من المفترض أنها ستعيد ترتيب شكل الخارطة السياسية هناك، واستشراف أعادة هيكلة بنية التحالفات والشراكات والاصطفافات السياسية/الطائفية، وعلاقة ذلك بكبح تداعيات الانهيار أو التمادي في توظيفها كما هو المعتاد في الحالة اللبنانية، والأهم علاقة السابق كله بمتغيرات السياسة الإقليمية وخاصة فيما يتعلق بشكل خارطة الطاقة في المدى المتوسط.
ماذا حدث ولماذا؟
بوصول الانهيار في لبنان لأخطر محطاته، الاقتتال الأهلي، الذي باتت عناصر تحققه من شحن طائفي وسلاح منفلت وقتل على أساس الهوية الطائفية أو الاصطفاف السياسي، فإن شبح الحرب الأهلية لم يعد بعيداً عن الشارع اللبناني؛ فحوادث العنف في الشهور القليلة الماضية بمختلف دوافعها في مختلف مناطق بيروت ولبنان، قد عكست نزوع لتطييفها بإخراجها من سياقاتها الفردية، وتكريسها كفاعليات ناتجة عن مناخ الشحن والاستقطاب الطائفي/السياسي، وذلك كتطور لاحق لنمط التأزيم والتضييق المعيشي والاجتماعي، ناهيك عن الاحتقان السياسي، في العامين الماضيين.
ومثّل هذا النمط كُرة النار يتلاقفها ساسة لبنان فيما بينهم، والتي جاءت ذروة اشتعالها الخميس قبل الماضي، حيث سقوط 7 قتلى بمنطقة عين الرمانة/الطيونة، وذلك إثر إطلاق النار من أسلحة متوسطة وخفيفة خلال مظاهرة دعت لها قوى سياسية متنوعة عابرة للاستقطاب السياسي اللبناني المعتاد، للاعتراض على لائحة الاستدعاء والتحقيق التي حددها قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، طارق البيطار، والذي بات بشخصه وعمله موضوع للخلاف بين الفرقاء اللبنانيين؛ حيث الاستثمار السياسي واعتبار التحقيق وكواليسه فرصة تنعش بعض القوى السياسية اللبنانية المأزومة وخاصة التي نشأت وعاشت على الصراعات، وكذلك الحشد للانتخابات القادمة مطلع العام، وأخيراً شد العصب الطائفي لدرجة غير مسبوقة منذ الحرب الأهلية.
واستنفرت استدعاءات وقرارات البيطار في مدى شهور عمله القليلة، مختلف القوى السياسية اللبنانية المتنافرين فيما بينهم؛ فمن الحصانات النيابية والوزارية والوظيفية/الطائفية التي شكلت عقبة في طريق التحقيق خاصة مع سلف البيطار، القاضي فادي صوان، إلى اتهامات بتسيس الأول لمسار التحقيق، وهي الاتهامات التي تشابه موقف الفرقاء اللبنانيين تجاهها، وذلك لشمول لائحة المساءلة والتحقيق لأسماء نواب ووزراء ومسؤولين تنفيذيين وأمنيين من مختلف القوى السياسية اللبنانية، فيما اقتصرت لائحة الاستدعاء على وزراء ونواب ومسؤولين محسوبين على التيار الوطني الحر وحركة أمل وتيار المردة، أي حلفاء حزب الله. بالإضافة لنهاد المشنوق، المنشق مؤخراً عن تيار المستقبل، وهو ما دفع منتقدي بيطار بالقول بتسيس التحقيق لتحقيق أهداف سياسية وانتخابية، خاصة مع محاولات مستمرة من بعض القوى اللبنانية كالحزب التقدمي الاشتراكي وحزب القوات، من استخدام حادثة المرفأ والتحقيق فيها كذريعة للتصويب على خصومهم باسم الشارع وضحايا الحادث.
وإذا كانت جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية، وكذلك متغيرات الاستراتيجية الأميركية وانعكاساتها على المنطقة والعالم، قد انعكسا في شكل مقاربات وتفاهمات اضطرارية بين القوى الإقليمية والدولية؛ حيث كانت صراعاتهم في الماضي القريب تنعكس على لبنان على مستويات متعددة، فإن سلوك الطبقة السياسية هناك في السنوات الأخيرة، أتى انطلاقاً من هاجس فقدان أدوار وظيفية كانوا قد اكتسبوها باطراد تحت مظلات القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان.
هذه القوى وعلى اختلاف أولوياتها، فإن واقع “المحادثات الإيجابية” الذي عجلت به كورونا وتداعياتها الاقتصادية ناهيك عن متغيرات استراتيجية واشنطن بالمنطقة، قلص الحاجة للاستمرار في نمط حروب الوكالة التي تفشت بالمنطقة بالسنوات العشر الماضية بحد أدنى، وما كان يتبع ذلك بتوظيف -أو حتى خلق- أحداث لبنان وتوظيفه في صراعاتهم؛ فمثلاً بالتوازي مع أجواء حوار إيجابيه بين السعودية وإيران مؤخراً، أسوأ سيناريوهاتها حال انهيارها والعودة للمربع صفر، ستكون اليمن أو العراق مسرحاً لاستئناف الصراع، وليس حقل الألغام اللبناني، الذي تنأى الرياض بنفسها عنه، شريطة أن لا يتم استغلال الفراغ الذي خلفته هناك ضدها، وهو ما يفسر تقلص الفعل السعودي تجاه لبنان من رعاية اتفاق الطائف 1990، إلى التصعيد الإعلامي والدبلوماسي السعودي/الخليجي بسبب تصريحات قديمة لوزير الإعلام هناك، جورج قرداحي، حول حرب اليمن.
شكل السابق الظرف الموضوعي لتعاطي الطبقة السياسية في لبنان مع الانهيار وتبعاته؛ فأصبح حادث تفجير مرفأ بيروت وموضوع التحقيق فيه الحامل السياسي/الطائفي، وكذلك الظرف الذاتي لاندفاع كيانات سياسية لبنانية نحو التلويح بسيناريو الحرب الأهلية، حيث انحدار الاستقطاب السياسي لكباش طائفي، يوظف انتخابياً في انتخابات برلمانية فاصلة، من المفترض أن تتم مطلع العام القادم، والتي من شأنها إعادة ترتيب ليس المحاصصة الطائفية المحصنة باتفاق الطائف -التي لم تفلح هبّة/انتفاضة 17 تشرين في إسقاطه- بل شكل ومحددات التحالفات والشراكات بين مختلف القوى السياسية/الطائفية، حيث لم تعد اصطفافات السنوات التالية لـ2005 وحتى استقالة الحريري 2019، صالحة للتعاطي مع متغيرات الخارج وأهمها تقلص وشح المال السياسي في موسم انتخابات تجرى في انهيار اقتصادي، والاهم متغيرات الداخل من حيث تغير تأثير ونفوذ الأطر السياسية الممثلة لمكونات الاجتماع السياسي والطائفي اللبناني، وارتداد ذلك على معادلات الشراكات والتحالفات بين الفرقاء اللبنانيين.
إعادة هيكلة الطائفية السياسية عبر الانتخابات أم الحرب الأهلية؟
يشير الأداء السياسي والإعلامي لمعظم الفرقاء اللبنانيين قبيل وعشية حادث عين الرمانة الأخير، إلى استمرارهم في توظيف الحادث وتبعاته بلا سقف ولا خطوط حمراء، وذلك كانعكاس لأزمات متراكمة مزمنة تخص تركيبة الطائف السياسية التي تحكم لبنان منذ 1990، والتي يشكل مهربهم الوحيد منها إحداث مزيد من الأزمات حتى وإن كانت مثل الحادث الأخير من حيث وضع لبنان ككل على شفير الاقتتال الأهلي، ولو من باب تذكير اللبنانيين بالحرب الأهلية اللبنانية كآلية للحشد الانتخابي وشد العصب الطائفي والسياسي، وتوظيف مخاوف الناس وحشدهم انتخابياً انطلاقاً من أرضية اقتتال أهلي بعناوين طائفية، خاصة مع شح المال السياسي الداخلي والخارجي المعتاد عند كل موسم انتخابي.
ويمكن ملاحظة أن حوادث العنف الممنهج المتواترة في الفترة الأخيرة في لبنان قد حملت في طياتها حسابات مناطقية وانتخابية، ليس فقط من منطلق تحديد مناطق التواجد والنفوذ وعلاقتها بقانون الانتخابات، ولكن أيضاً لضبط التراتبية الهرمية داخل كل تنظيم سياسي في كل طائفة، وذلك كمعالجة صادمة وسريعة للتشظي والضعف الذي اعترى البُنى التنظيمية في مختلف الأطر السياسية/الطائفية على مدار السنوات الماضية، والتي فاقمها الانهيار وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية وجعل منها فرصة لمناخ قضم متبادل بين مختلف هذه القوى حتى داخل الطائفة الواحدة والتيار السياسي الواحد، وليس فقط بين الطوائف والتيارات السياسية واستقطابها المعتاد.
هنا نجد أن خطورة حادثة عين الرمانة 2 يكمن في أنها الأولى التي تأتي كتقاطع بين سياقات سياسية وطائفية تُرجع اللعبة السياسية والتركيبة الاجتماعية/المناطقية لبيروت إلى منطق خطوط التماس انتخابياً وأمنياً، وكذلك كضربة قاصمة لمحاولات كبح جماح آثار الانهيار الاقتصادي، باعتبار أن حكومة ميقاتي بمثابة حكومة انقاذ تعبر عن ضرورة حتمية لتجنب الأسوأ الذي حدث بالفعل، ولكن من باب موضوع التحقيق في انفجار المرفأ، ورهن استمرار هذه الحكومة والترتيبات التي وقعت على عاتقها مثل آليات المساعدات الدولية ومشاريع البُنى التحتية والطاقة وغيرها من جهود كبح الانهيار، بمسار التحقيق واستمرار البيطار في عمله.
بالنظر إلى نمط هندسة الأزمات المتتالية في لبنان عبر السنوات القليلة الماضية، والتلويح مؤخراً بدفعها نحو مسارات صفرية كالاقتتال الأهلي، مهما كانت فاعليات هذه الأزمات على أرض الواقع -خلافات فردية مشاجرات مناطقية- فإنه هذا قد يُفسر في سياقه الاستقطابي اللبناني، على أنه محاولة التعجيل بـ”فوضى خلاقة” تعيد هيكلة الطبقة السياسية في لبنان على مستويات تتلاءم مع متغيرات الداخل والخارج، وانتظار تصديق الانتخابات القادمة عليها، وخاصة مع استشراء أنماط قضم وتحوط انتخابي مبكر، جاء هذه المرة عبر الباب الواسع المتمثل في موضوع التحقيق في انفجار المرفأ، الذي يشكل في ذاته مولداً لأزمات متتالية ومركبة ومستمرة في المدى القريب، وسحبه بالتدريج لأرضية طائفية ومناطقية، بل وحتى ثورية، كأثر بعد عين لما تبقى من 17 تشرين.
وأتت التطورات الأخيرة في لبنان مع حلول الذكرى الثانية لخروج عشرات الآلاف من اللبنانيين في مختلف المدن هناك، بعناوين وشعارات خارجه عن المعتاد طائفياً، إلا ولأسباب كثيرة لا تتسع المساحة لذكرها، فإن نظام الطائف بمختلف تكويناته وتحالفاته، قد نجح في احتواء/تدجين هذه “الانتفاضة”، وإعادة منطلقاتها لمربع الاستقطاب الطائفي والمناطقي، وذلك عبر شغل الفراغ الذي خلفه هذا الحراك الذي بدأ عابراً للطوائف باستدعاء الماضي الدموي، والاستثمار في خطابات الشحن والتمترس الطائفي لدواعي مختلفة أقلها قرب الانتخابات النيابية القادمة، وتحويل حادثة انفجار مرفأ بيروت والتحقيق في ملابساته، لمادة استقطاب انتخابي وورقة ضغط متبادلة بين الفرقاء اللبنانيين.
هنا أتى حادث تفجير الميناء ومسألة التحقيق فيه، وتداعيات كل منهما، كطوق نجاة لهذه المكونات السياسية والطائفية، مكنهم من تجاوز واحتواء محاولات إعادة هيكلة اتفاق الطائف التي وصلت ذروتها في 17تشرين 2019، والشروع في محاولات إعادة انتاجه وفق أولويات متضاربة لمختلف الفرقاء اللبنانيين، تتنوع بين الشخصي والتنظيمي والطائفي، وذلك بخلاف المتغيرات التي طرأت على دواعي شراكات وتحالفات اعتبرت حتى وقت قريب عصية على التجاوز أو التغيير.
محصلة واستشراف
يمكن رصد متغيرات فارقة في هذا السياق من خلال متابعة التعاطي السياسي والإعلامي للفرقاء اللبنانيين مع تطورات الأسابيع الأخيرة في لبنان؛ فعُزلة حزب القوات اللبنانية على مستويات سياسية/انتخابية وحتى طائفية، قد تكرست بشكل أكبر بعد التصعيد الأخير، الذي أتى على أرضية اقتتال أهلي/مناطقي وليس استقطاب سياسي معتاد مهما بلغت حدته، وهو ما يعتبر خروج عن قواعد الطائف والرجوع لفوضى الحرب الأهلية؛ فحتى وإن كان الهدف من التصعيد الأخير هو قضم أصوات من الأغلبية المسيحية للتيار الوطني الحر -حليف حزب الله- والبحث عن شراكات انتخابية جديدة مع المنشقين من مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، فإن ما جرى في الطيونة/عين الرمانة وتوابعه حال التماهي معه كنموذج للتصعيد في المستقبل القريب، يعني ارتداده على باقي الأحزاب والتيارات لمعظم الطوائف اللبنانية، سواء في علاقات التحالف والشراكة بتدرجاتها من الجامعة وحتى البرلمان، أو حتى على مستوى استقرار بنية هذه الأطر السياسية/الطائفية التنظيمية الداخلية، وذلك مع قرب انتخابات بات اجراءها بسلاسة في موعدها أمراً مشكوك فيه إذا تم ربطها بمجريات وتداعيات تحقيق انفجار مرفأ بيروت.
أيضاً من المتغيرات الهامة والتي لها أبعاد خارجية، تبدل الأداء السياسي لحزب الله في احتواء وإدارة ما حدث مؤخراً، فبعد تعثر في استيعاب 17 تشرين وتصدره وقتها كمدافع عن طبقة سياسية فاسدة، وحلفاء تسببوا في انهيار اقتصادي ومستفيدين من استمراره، أصبح هناك دلائل متعددة لتصدير نفسه، خارجياً وداخلياً، كصمام أمان اضطراري للطائف وللغالبية من مسيحي لبنان والاجتماع السياسي اللبناني على عواره ككل، وتفويته الفرصة على تصدير التصعيد الأخير بوجه طائفي -مسلمين ضد مسيحيين- وإرجاعه إلى حدود الخصومة السياسية، حتى وإن بصيغة أكثر حدة مثل التي بين الحزب والقوات، وذلك من خلال فرض ما يمكن تسميته برادع لبقاء منظومة الطائف، التي يعاد انتاجها حالياً كبديل واقعي وشبه وحيد للحرب الأهلية.
هذا المتغير استند، وربما لأول مرة في سياق الداخل اللبناني منذ أيار 2008، على القوة العسكرية الكبيرة التي يمتلكها الحزب، والتي كانت بمعزل عن معادلات الكباش الداخلي في لبنان من حيث تفعيلها في اتجاه إسرائيل والجماعات الإرهابية وليس الداخل اللبناني، مع بقاء السلاح كقضية استقطابية من ناحية إشكالية “إخضاعه” لسلطة الدولة اللبنانية. لكن الأن ومع تطورات الأوضاع الراهنة على مستويات داخلية وخارجية، فإن قوة حزب الله العسكرية لا يمكن القفز عليها بموازاة التلويح بسيناريوهات اقتتال أهلي، خاصة بعد الإعلان لأول مرة عن “الـ100 ألف مقاتل تابعين للحزب في لبنان فقط”.
الإعلان السابق وإن جاء في سياق داخلي، فإنه حمل رسائل خارجية لأطراف متعددة معنية ليس فقط بلبنان، ولكن بمسارات الغاز والطاقة في شرق المتوسط، والأهم بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، حيث التلميح بقوة أنه حال وقوع المحظور واندلاع حرب أهلية في لبنان، فإن المستفيد الأول هو من يمتلك الجهوزية العسكرية الأكبر، والتي لا يمكن النظر إليها لاعتبارات الحجم والتأثير في نطاق توازنات القوى بين مكونات الاجتماع اللبناني، ولكن على مستوى إقليمي أكبر لارتباطه بمحددات إقليمية مركبة تتقزم بجوارها حسابات الانتخابات اللبنانية محلياً، وهو ما يتجسد في اتصالات وزيارات من وإلى لبنان أتت في خلفية الأحداث الأخيرة، أخرها الأسبوع الماضي، حيث مباحثات الوسيط الأميركي بشأن ترسيم الحدود البحرية ومناطق التنقيب عن الغاز بين بيروت وتل أبيب، وما سبق ذلك على مدار الشهور القليلة الماضية في سياق إيصال الغاز المصري لهناك عبر الأردن وسوريا بعد حلحلة الاعتراض الأميركي طيلة العامين الماضيين، واستخدام ورقة ناقلات الوقود الإيرانية للتسريع بذلك.
وفي نفس السياق الخارجي، فإنه وباستثناء إمكانية تأثير ما يحدث في لبنان على ترتيبات وتفاهمات الطاقة والغاز شرق المتوسط، وتمسك عواصم مثل باريس والقاهرة بالتعاطي مع ما يحدث هناك عبر مظاهر الدولة اللبنانية ومؤسساتها والحيلولة دون تلاشيها وتحول البلد إلى بؤرة جاذبة للصراعات بأنواعها، وكذلك ما يتعلق بإسرائيل من ناحية ترسيم الحدود البحرية وحقول النفط المشتركة مع لبنان واحتمالات مواجهة عسكرية مع حزب الله لهذا السبب أو غيره، فإن مظلات القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان لم تعد تميل بشكل كبير إلى استئناف صراعاتها عبر بيروت لتغير الدواعي والمحددات اقليمياً ودولياً، وذلك بحصر الحفاظ على سقف الاشتباك الداخلي الحالي في حدود المعتاد لبنانياً منذ خروج القوات السورية 2005 بحد أقصى، ولكن ليس استئناف صراعات/حروب الوكالة ومفاعيل الاستقطاب الإقليمي بأنواعه وتدرجاته، وهو ما انتقص من أهمية معظم مكونات الطبقة السياسية هناك، وأفقدها أحد أهم مصادر ودواعي استمرارهم بنفس الدور الوظيفي.
يأتي رد فعل السعودية الأخير تجاه تصريحات قرداحي، كدلالة على السابق، من حيث فصله عن سياق المحادثات مع إيران، وارتباطها أكثر بمسلسل تحلل المملكة من علاقاتها بلبنان الطائف، البادئ في السنوات القليلة الماضية بشكل فعلي، والأن بشكل رسمي بذريعة تصريحات إعلامية قديمة لوزير في حكومة إنقاذ، وهو ما يأتي في سياق رسائل للبيت الأبيض، قد تجعل بايدن يتراجع عن سياسة التجاهل التي يتبعها تجاه الرياض، وذلك بالتلويح بقدرة الأخيرة على تعطيل التفاهمات الأميركية-الفرنسية عبر إسقاط حكومة ميقاتي، وأن الفراغ الذي خلفته السعودية في لبنان خلال الأعوام الأخيرة، واستثمر فيه الخصم والحليف، من اليسير عليها وعبر إجماع خليجي أن يصبح مناخ تعطيل مزمن، حال تجاهل أولوياتها أميركياً على مستوى ثنائي أو إقليمي متعلق باليمن وتداعيات الاتفاق النووي والانسحاب من أفغانستان ومستقبل الأوضاع في سوريا والعراق، أو حتى على مستوى الداخل اللبناني في عملية إعادة هيكلة الطائف الجارية الأن.
مراجع
- “ميني حرب لبنانية”.. أين جعجع والجيش وحزب الله؟
- التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في مهبّ “الشارع”
- “اشتباكات الطيّونة”… حرب صغيرة في بيروت
- انهيار لبنان: ماذا يعني وكيف يحدث وماهي آفاقه؟
- انفجار بيروت: من هو القاضي اللبناني طارق بيطار المكلف بالتحقيق ومن يسعى لتنحيته؟
- هآرتس: حنفية الغاز إلى لبنان موجودة في إسرائيل!
- قاضي التحقيق بانفجار مرفأ بيروت يجدد طلب استدعاء وزيرين سابقين أحدهما حليف لـ”حزب الله”
- وزير الخارجية السعودي يقول إن المحادثات مع إيران كانت ودية ووصف المفاوضات بالاستكشافية
- بينما تنغمس واشنطن في النقاش، تواصل إيران تحقيق تقدم نووي
- استثمار في حقل ألغام.. كيف تسعى تركيا لتعزيز نفوذها في لبنان؟
- حسن نصر الله: سنتصرف في الوقت المناسب عندما يكون نفط لبنان في خطر
- الغاز المصري إلى لبنان.. تفاصيل «الاتفاق الرباعي» وآلية رفع العقوبات الأمريكية على سوريا
- تل أبيب تحتفي بهوكستاين: الوقت ليس لصالح لبنان!
- لبنان يتوقع بدء المفاوضات مع صندوق النقد في نوفمبر
- عقوبات أميركا و”ثقب” مرفأ بيروت.. والمصارف!
- نصرالله “يُحاكم” جعجع.. والإنتخابات في مهب الإشتباك!
- هوكستاين في بيروت: “إغراءات” وخط بحري جديد.. متعرج؟
- “باخرة السيد” الدقيقة.. و”منظومة شيا” النظرية!
- لـ”17 تشرين المرحوم”.. “تعيش وتاكل غيرها”!
- موقف أمريكي “صادم” من القرار السعودي بشأن لبنان وحكومته
- Lebanon’s Hezbollah Chief Says Group Is Stronger Than Ever
- Analysis | Lebanon Won’t Care Its Energy Has Israeli Fingerprints on It
- Analysis | Iran’s Syria Project Begins to Stutter
- Factbox: What is the Lebanese Forces party?
- What may look like Lebanon’s civil war replay isn’t