في معركة السويس، التـي دارت رحاها بين يومي 24-25 أكتوبر 1973، بدأت تتشكل مرحلة جديدة في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في حروبها مع العرب. منذ تلك المعركة، لم تعد إسرائيل تحارب جيوشًا نظامية في ميادين مفتوحة، بل أصبحت تحارب قوى غير نظامية في المدن؛ حدث هذا في اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان في 1978، ثم في معركة حصار بيروت 1982، وحرب جنوب لبنان في 2006، وفي المواجهات التالية مع قطاع غزة منذ 2008 حتـى مواجهة هذا العام في غزة أيضاَ.
لقد شكلت معركة السويس، على قصرها، شكلت علامة هامة في تطور نمط حرب المدن في المنطقة. وعلى الرغم من أن إسرائيل قد اختبرت “اقتحام المدن” سابقًا، خاصة مع الاستيلاء على القدس أثناء حرب 1967، إلا أنها في السويس جوبهت بمقاومة باسلة قادتها قوات “شعبية” مدعومة من الجيش المصري؛ في استباق نادر لأنماط الحرب التـي أصبحت سائدة في العقود الأخيرة.
الطريق إلى السويس
استغلت القوات الإسرائيلية بقيادة فرقة أريل شارون المدرعة 143 الثغرة الدفاعية بين الجيشين الثاني والثالث. والتـي عرفت بالدفرسوار. أخذت هذه القوات الإسرائيلية في العبور غرب القناة ليلة 15-16 أكتوبر. واستهدفت هذه المناورة الالتفاف على القوات المصرية في سيناء وحصارها وتعظيم مخاطر الهجوم الممكن على القاهرة، فضلاً عن تدمير محطات الصواريخ المصرية غرب القناة لإفساح المجال للطيران الإسرائيلي للتعمق في الداخل المصري. ولتحقيق هذه الأهداف، كان الاستيلاء على مدينة كبرى، مثل الإسماعيلية أو السويس ضرورة. وحشدت الفرق الإسرائيلية الثلاثة المهاجمة، فرقة كلمان ماجن وإبراهام آدان وآرييل شارون، حوالي 300 دبابة و2000 جندي مظلي، في مقابل اللواء 23 مدرع القادم من القاهرة وكتيبة اللواء 116 مشاة ميكانيكي وعدد من كتائب الصاعقة والمظلات.
فشلت قوات الجنرال ماجن وشارون في الاستيلاء على الإسماعيلية وتصدت لها الدفاعات المصرية في منطقة “أبو عطوة” وألحقت بها خسائر عديدة، كما أخفقت اللواء 401 بقيادة دان شمرون في الاستيلاء على ميناء الأدبية. لذا، استماتت القوات الإسرائيلية للاستيلاء على مدينة السويس التـي كانت تحاصرها فرقة إبراهام آدان بالفعل، بهدف إحكام الخناق على الجيش الثالث الميداني. عجّل من هذا التحرك صدور القرار الأممي 338 يوم 22 أكتوبر والذي ينص على وقف إطلاق النار وإنهاء كافة الأنشطة العسكرية خلال 12 ساعة. وبهذا أصبح الاستيلاء على السويس ضرورة لتحسين الوضع التفاوضـي لإسرائيل.
أثناء حرب الاستنزاف، تم إخلاء السويس من حوالي ربع مليون مواطن من سكانها. لكن عددًا قليلاً، حوالي 5000 مواطن، تبقى كي يشكل فيما بعد مليشيا محلية ستنخرط في التصدي إلى القوات الإسرائيلية، ومع تدمير المواقع الإدارية للجيشين الثاني والثالث بين السويس والإسماعيلية، التحق بهؤلاء عدد من الضباط بالإضافة إلى قوات الشرطة والموظفين المدنيين المحليين. لم تلتزم إسرائيل بقرار وقف إطلاق النار وبدأت في حشد قواتها لاقتحام السويس. وفي 23 أكتوبر بدأت هذه العملية بغارات عنيفة على المدينة وشركات الأسمدة والطرق الموصلة إلى المدينة. كما قامت بقطع مياه ترعة الإسماعلية وتدمير محطة الكهرباء وقطع أسلاك الهاتف لعزل المدينة بشكل كامل، ولتحطيم الروح المعنوية لأية قوة مقاومة. وكان التصور أن هذه التحركات ستجعل من احتلال المدينة أمرًا يسيرًا.
محاولة السيطرة الفاشلة على السويس
حتـى وهي تحت الحصار، كانت السويس تقوم بدور قاعدة الإمداد إلى القوات شبه المحاصرة شرق القناة، وهي المشكلة التـي عهد لفرقة آدان (الفرقة 162 المدرعة) بحلها. تكونت الفرقة من كتائب قادها يوسـي يوفي وناحوم زاكن. في حرب 1967، استطاعت كتيبة “يوفي” السيطرة على تل الذخيرة في القدس مما مهد السيطرة على المدينة. وفي بداية حرب أكتوبر، استطاعت الكتيبة أن تخرق الحصار المفروض على حصن بودابست في خطر بارليف. وبهذا، تصور رجال يوفي عند علمهم بالمهمة أن بإمكانهم أن يتجهوا رأسًا إلى محافظ المدينة كي يطالبوا تسليمها.
كانت المخابرات الحربية المصرية على علم بتحركات الجيش الإسرائيلي وعزمه احتلال السويس. وهو ما دفع العقيد يوسف فتحي مدير المخابرات الحربية جنوب القناة بتكليف بعض شباب “منظمة سيناء العربية” بالدفاع عن المدينة وزودهم بأسلحة خفيفة، فيما أعد آخرون كمائن على مناطق مختلفة على مداخل المدينة. وخطط للدفاع عن المدينة العميد يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 مشاة ميكانيكية الذي أرسل سرية مقذوفات وطاقم اقتناص دبابات يقوده الملازم عبد الرحيم السيد من اللواء السابع بعد تزويدهم بأسلحة “آر بي جيه” وقنابل مضادة للدبابات.
بدأ الهجوم على السويس بطلعات جوية مكثفة من الساعة السادسة حـتـى التاسعة صباح يوم 24 أكتوبر. وتقدم طابور زاكن من على المحور الواصل بين الطريق مع القاهرة ووسط المدينة. وكان الدخول بلا مقاومة تذكر. حيث ارتكزت خطة المقاومة المصرية على استدراج القوات المهاجمة وإيهامها بخلو المدينة من أية عناصر مقاومة.
ولكن بمجرد التقدم نحو التقاطع الثاني، تعرضت الكتائب المهاجمة لقصف هائل من الشقق السكنية ومن المدرعات ومن الصواريخ المحمولة آر بي جيه من الأحياء المجاورة. طال الهجوم كل قوات المشاة والمدرعات المتقدمة تقريبًا، وقد أصيب كل قادة الدبابات وسرايا المشاة. وقاد تحييد المدرعات الشهيد إبراهيم سليمان أحد أبطال المقاومة الشعبية الذي نجح في دفع بقية طابور المدرعات إلى التراجع عند شارع الجيش.
كان القصف عنيفًا ومفاجئًا بحيث لم تستطع كتيبة زاكن الرد، وهي تتقدم نحو الميدان الرئيس للمدينة، ميدان الأربعين. طالت نيران المقاومة المصرية أيضًا مدرعات نقل الجنود APC التـي حاولت أيضًا نقل الجنود الجرحى.
بحلول الليل، كان آدان قد أمر كافة السرايا المهاجمة بالانسحاب مرة أخرى مع زيادة انكشافهم أمام الصواريخ المحمولة. وكان الانسحاب مقررًا أن يكون باتجاه شاطئ السويس الذي تم إخلاؤه من القوات المصرية. وعندما سرت فى المدينة أنباء النصر خرج أهل السويس جميعا إلى الشوارع ليشاهدوا مدرعات العدو المحطمة التي تناثرت على طول شارع الأربعين، وكان عددها حوالي 15 دبابة وعربة مدرعة نصف جنزير. وخشية أن يفكر الإسرائيليون فى سحبها قام محمود عواد من أبطال المقاومة الشعبية بسكب كميات من البنزين عليها عند منتصف الليل وأشعل فيها النار.
إلا أن قوات “يوفي”، والتي بلغ قوامها حوالي ٩٠ جنديًّا، كانت قد وصلت إلى عمق المدينة وارتكزت في قسم شرطة الأربعين، بمساعدة المظليين بقيادة “ديفيد أميت”، ومع انسحاب قوات “زاكن”، أصبحت تحت حصار المقاومة المصرية، وكان من الصعب أن تستجيب إلى أوامر الانسحاب. ولم يتم إنقاذها من خلال دعم من المظليين عند فجر اليوم الثاني بعد أن تعرضت لخسائر هائلة،، كان من ضمنها إصابة يوفي نفسه إصابة بالغة، وخلافات حول كيفية إخراجها من المدنية.
أدت المعركة إلى مقتل 80 جندي إسرائيلي وجرح 120 آخرين وتدمير 40 دبابة، وهي نسبة عالية بالنسبة لحجم القوات المهاجمة. لم تتمكن القوات من دخول المدينة، ففرضت عليها حصارًا امتد شمالاً على بعد 6 أميال وجنوبًا حتـى المنطقة الزراعية. مع سريان وقف إطلاق النار وفقًا للقرار الأممي الجديد ٣٣٩، حاولت القوات الإسرائيلية اقتحام المدينة مرة أخرى يومي ٢٥ أكتوبر و٢٨ أكتوبر، إلا أنها فشلت مجددًا وهو ما أقنع القيادة الإسرائيلية باستحالة الحصول على ورقة مفاوضة كبيرة واضطرها لقبول وقف إطلاق النار. إلا أن هذا لم يعن لكلا الطرفين وقف الحركة فاستمرت المناوشات بين القوات الإسرائيلية والمقاومة الشعبية والمشاة المصريين داخل المدنية.
معركة السويس في إطار حرب المدن
كانت معركة مدينة السويس بمثابة اختبارًا لتطور عمليات MOUT الإسرائيلية أي الحرب في ميدان المدن Military Operation in Urbanized Terrain. تعرف عمليات “مووت” بأنها أية أعمال عسكرية تتم في سياق على أرض معقدة ومبنية من خلال البشر. أو أي حقل عمليات اصطناعي مركب من مباني ومصالح ومدنيين، وهو نقطة تجمع مركزية للبيئة المحيطة.
يقسم مبدأ “مووت” المناطق المبنية إلى أربعة فئات: المنطقة الشريطية، والمنطقة الحضرية المبنية على طريق واحد والقرى (التـي يبلغ عدد سكانها أقل من 3000)، والمناطق الزراعية المكتفية بذاتها، والمدن الصغيرة التـي يتراوح عدد سكانها بين 3000 و10000 نسمة. بما في ذلك الضواحي التـي قد تغطيها المدينة الكبرى على دائرة تصل إلى 100 ألف ميل مربع.
بالنسبة للإسرائيليين، كانت خطة الهجوم بسيطة وتتشكل من تكتيكات حرب مدن سابقة قام الإسرائيليون بخوضها. وأثبتت هذه التكتيكات نجاعة في معارك جيش الدفاع السابقة في غزة 1956 وفي نابلس ورام الله وجنين في 1967. وتشابهت هذه التكتيكات مع التكتيكات السوفياتية والتـي كانت تستدعي الدبابات ومراكب حمل الجنود واستخدام تكتيكات صادمة لخرق الدفاعات والسيطرة على بعض النقاط الحيوية داخل المدن. فقد كان الهجوم الذي قاده الماريشال جوكوف على برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية يمثل النموذج المثالي لاستخدام هذه التكتيكات للوصول إلى الغاية الاستراتيجية المرغوبة.
مثلت معركة السويس واحدة من أكثر الإخفاقات المذلة في تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية والمعركة. وهي من المعارك الرئيسة في التأثير على مسار “حروب المدن”؛ حيث تعرض المهاجم الإسرائيلي صاحب التفوق الهائل في التدريع للفشل في السيطرة على المدينة التـي غادرها أغلب سكانها. ويمكن تفسير هذا الإخفاق بثلاثة عوامل:
- تلقى القواد المهاجمون معلومات استخباراتية خاطئة حول تسليح ومواقع المقاومين في المدينة؛ والتـي فاجأت إبراهام آدان وقواده بشكل كامل.
- فشل تكتيك الصدمة المدرعة بدون الاعتماد على المشاة والتحرك سريعًا داخل مدينة معدة للمقاومة. وبالتالي، تصور الإسرائيليون أن نجاح نفس التكتيك في حالات سابقة، دون الاعتماد على قوات مشتركة مدرعات ومشاة كفيل بتحقيق نجاح الهجوم. وبالتالي أخفقت الدراسة الإسرائيلية لتجربة السوفيات في الحرب العالمية الثانية في استيعاب الوجه الآخر لمعادلة “مووت” السوفياتية؛ وهي القوات المقاومة.
- كان تدريع الدبابات الإسرائيلية عائقًا لها في خفة الحركة في مواجهة القوات الخفيفة المضادة للمدرعات. وبالتالي تضاءل معدل بقاء الدبابات. في المقابل كان المشاة المصريين مسلحين بأنواع جديدة من الصواريخ المضادة للدبابات الموجهة “ساجر” عالية الدقة وواسعة المدى والتدميرية، حيث كان الواحد من صواريخ AT-3 ساجر قادر على خرق درع الدبابة الواحدة الذي يبلغ 400 ملميتر بطبقاته المصفحة بالرصاص.
- كشفت محاولة اقتحام مدينة السويس والسيطرة عليها أن القوات الإسرائيلية لم تمتلك المعلومات الكافية خاصة الخرائط عن المدينة. يوضح هذا رفض الكولونيل يوفي المبدئي لفكرة اقتحام المدنية، وهو ما عجل بوقوع كتيبة “زاكن” في الفخ المصري الذي نصبته المقاومة. كذلك، رفض بعض قادة كتائب المظليين الخطة التـي وضعها شموئيل جونين قائد المنطقة الجنوبية لإنقاذ كتيبة “يوفي” المحاصرة داخل قسم الأربعين نظرًا لاعتمادها على صورة جوية عامة لمدنية السويس.
بسبب طبيعة المواجهات السابقة مع الجيش الإسرائيلي، لم تطور القوات المسلحة المصرية بدورها مبدأ لحرب المدن. إلا أن حرب الاستنزاف ومناوشات ما قبل حرب أكتوبر، قد عززت أهمية القتال “الهجين” في الصراع مع العدو. وشجعت القيادة العسكرية السياسية المصرية إبان الاستنزاف بناء تنظيمات للمقاومة الشعبية داخل سيناء وفي مدن القناة بهدف تقويض سيطرة القوات الإسرائيلية.
وكان من أبرز المنظمات التـي شاركت في العمليات النوعية ضد الاحتلال “منظمة سيناء العربية” والتي كانت مزيجًا من الفدائيين المدنيين من سكان سيناء ومدن القناة والعسكريين خاصة المجموعة “٣٩ قتال.” برز اسم المنظمة في الدفاع عن السويس، وأدركت القيادة العسكرية المنوط بها الدفاع عن المدينة ضرورة الاعتماد بشكل كامل على الفدائيين المحليين، واستغلال مزايا معرفتهم الخاصة بجغرافيا المدينة شبه المدمرة وخفة تحركاتهم لمباغتة العدو. ويتضح من روايات القتال داخل المدينة مدى “التناغم” بين التخطيط العسكري اللامركزي، والمقاومة المدنية.
كانت معركة السويس آخر معركة كبرى في حرب أكتوبر. وبعد التقدم الذي حققته القوات الإسرائيلية عقب أحداث الثغرة في غربي القناة، تصورت “فرقة آدان” أن دخول السويس سيكون أقرب إلى استعراض عسكري دون وجود جماهير أو أعلام. إلا أن الاقتحام تحول إلى كارثة نهائية للجيش الإسرائيلي، على الرغم من استمرار حصار المدينة حتى ٣١ يناير ١٩٧٤، مع تنفيذ اتفاق فض الاشتباك بين القوات، وهو اتفاق “الكيلو ١٠١” الذي أعاد فتح الطريق إلى القاهرة ورفع الحصار عن الجيش الثالث الميداني.
قبل السويس 1973، اقتحمت القوات الإسرائيلية العديد من المدن، وفيما لم تنجح في الوصول إلى مشارف الإسماعيلية، كانت السويس أول مدينة تصدها. ولاحقًا تكرر نمط الاقتحام المقاومة في العديد من المدن الفلسطينية واللبنانية التـي حاولت إسرائيل “إخضاعها” بالقوة. وبقدر ما أثبتت إسرائيل قوة آلتها العسكرية في التعامل مع المدن العربية، من خلال تكثيف عمليات القصف والتدمير وتقويض البنية التحتية، بقدر ما أثبتت المدن العربية جدارة قدرتها على المقاومة وردع الاحتلال عن محاولة التدخل في مناطق معقدة سكانيًّا.