تأسس النظام الليبرالي الدولي مع نهاية الحرب العالمية الأولى على أساس عدة قواعد أهمها نهاية عهد الدبلوماسية السرية وسياسات الأحلاف الدفاعية والهجومية القائمة على توازن القوى من خلال بناء أطر الدفاع الجماعي وأهمية المؤسسات الدولية لحل النزاعات. بعد عقود من موقع الولايات المتحدة القيادي لهذا النظام، يأتي تحالف أوكوس AUKUS بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا ليحمل دلالات واسعة على التحولات العميقة في بنية النظام الدولي الذي يشهد اضطرابات منذ نهاية الحرب الباردة، قد تؤدي في النهاية إلى تغير هذه القواعد، والعودة إلى حقب سابقة في النظام الدولي.
بيد أن أخطر ما يعكسه “أوكوس” من تحولات هو مركزية العوامل الجيواقتصادية في تشكيل تفاعلات النظام الدولي. لقد أضحت الحروب التجارية جزء من التنافس الجيوسياسـي والأمني بين القوى الإقليمية والدولية، كما هو الحال بين أستراليا وبقية حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الهندي الباسيفيكي من جهة، والصين من جهة أخرى. ويعزز من هذا الافتراض تماس هذه القوى حول منطقة بحر الصين الجنوبي التـي تمثل أحد أهم معابر التجارة الدولية بين المحيطين الهندي والباسيفيكي، ويمر بها حوالي ٣٠ تريليون دولار من التجارة الدولية سنويًّا. وتعتبر الصين هذه المنطقة خاصرة أمنها القومي، وتحاول الهيمنة عليها في مواجهة القوى المدعومة أمريكيًّا. وإذا ما وضعنا الإعلان عن تحالف “أوكوس” و”التجمع الرباعي، الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان”، ندرك حجم التحول الهائل الذي يشهده النظام الدولي في هذه المنطقة.
الجذور الجيو-اقتصادية لأوكوس
عند الإعلان عن تأسيس “أوكوس،” كانت الصين بمثابة الفيل الذي في الغرفة؛ حيث كان من المفهوم أنه تحالف دفاعي لمواجهة خطط النفوذ أو الهيمنة الصينية في منطقة الهندي- الباسيفيكي. لقد كان هذا النفوذ موضع شكوي أسترالية دائمة، حيث دائمًا ما تم وصف سلوك بيجين بالعدوانية. ومع ذلك، كان لتخلي كانبيرا عن صفقة “الباركودا” الفرنسية واتجاهها للتحالف مع واشنطن ولندن جذور في طبيعة العلاقات الجيواقتصادية الأسترالية الصينية.
طيلة تاريخها الحديث اعتمدت أستراليا في تأمين تجارتها البحرية على القوى الدولية، الإمبراطورية البريطانية أولاً ثم الولايات المتحدة، في تأمين معابرها البحرية إلى شرق آسيا وعبر المحيط الهندي. وهو ما يفسر علاقتها العضوية بهاتين القوتين حتى قبل الإعلان عن “أوكوس”، وكذلك انخراطها في دعم الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة في جنوب شرق آسيا، ثم اشتراكها في التحالف الأمريكي ضد الحرب على الإرهاب.
إلا أن الخيار الأصعب أمام أستراليا يأتي من كون الصين أكبر شريك تجاري لها بحساب الصادرات والواردات، كما أن أستراليا هي سادس أكبر شريك تجاري للصين. ويبلغ حجم التجارة المشتركة بين البلدين 245 بليون دولار. ومن هنا يصعب عليها الاختيار بين شريكها الأمنــي، الولايات المتحدة، وشريكها التجاري، الصين. بيد أن العلاقات الاقتصادية بين كانبيرا وبيجين أصبحت مصدر توتر بين البلدين.
تحظى الصين بأكبر مكاسب هذه العلاقة التجارية إذ أنها تسيطر على حوالي 90% من سوق الواردات في أستراليا، وتمثل الصناعات التحويلية التـي تتراوح بين النسيج ومعدات الاتصال ومعدات الهندسة النصيب الأكبر من هذه الواردات، في المقابل تتمثل الصادرات الأسترالية للصين في المواد الخام والزراعية. ولم تخف أستراليا رغبتها في قلب هذه المعادلة التي تمنح ميزة تنافسية أكبر للصين، وبالتالي تعزز من نفوذها.
وقد شهدت العلاقة التجارية بين البلدين تدهورًا مع تصاعد التوتر الأمنـي في المنقطة. وضعت بيجين مؤخرًا قيودًا على الواردات الأسترالية من المواد الخام والخمور والفحم والسياحة وغيرها. أدت هذه السياسة الحمائية إلى تقديم كانبيرا شكوى ضد الصين في منظمة التجارة العالمية في يونيو 2021. وسبق هذا التطور تصعيد دبلوماسـي وتجاري بين البلدين شمل انتقادات من رئيس الوزراء موريسون لما أطلق عليه سياسة الإكراه التجاري الصينية، ودعوة حكومة لتحقيق دولي مستقل في أسباب تفشـي جائحة كورونا، وهو ما رأته الصين دعوة للتدخل في شؤونها. أدى هذا إلى إعلان الصين رسميًّا توجهها لفرض عقوبات تجارية على الصين محتجة بمكاسب الحكومة الأسترالية من التجارة مع الصين في الوقت الذي تقوم فيه بتشويه سمعتها عالميًّا. وبالطبع لم تكن المصالح الأمريكية بعيدًا عن هذه الحرب التجارية، إذا اتهمت كانبيرا بتصعيد الخلاف مع بيجين كمخلب قط لواشنطن. وبالتالي، أضحى الخيار واضحًا أمام حكومة “موريسون”؛ التحالف مع واشنطن في مواجهة الصين.
دوافع الولايات المتحدة الجيو-اقتصادية في “أوكوس”
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن “أوكوس” يمثل فرصة ملائمة لتأكيد توجهها نحو منطقة آسيا-الباسيفيكي، بعد تعرض مكانتها الدولية للتآكل بسبب الحرب على الإرهاب في أفغانستان والعراق. وكذلك، يمثل التحالف خطوة لردع السلوك التوكيدي الصيني في منطقة الهندي-الباسيفيكي. إلا أن الأمر أيضًا لا يخلو من البحث عن مكاسب اقتصادية من خلال الاستثمار في التنافس الجيوسياسـي في المنطقة.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الحلف وصفقة الغواصات الأسترالية تمثل استثمارًا هائلاً في قطاع الدفاع الأمريكي. لن تشهد أستراليا صناعة أي غواصة من المتفق عليهم. لكن سيتم استثمار حوالي 100 مليار دولار أسترالي في جعبة الشركات الأمريكية، مع العلم أن تكلفة صناعة الغواصة الواحدة ستبلغ أكثر من 2 مليار دولار، وفي بعض الطرز مثل فيرجينيا كلاس-بلوك 4 4.4 مليار دولار.
ولا تشمل هذه التكاليف الإنفاق على الصيانة وقطع الغيار ومعدات التسليح والتعديل والإصلاح، فضلاً عن التدريب. ولا تتوقف الشراكة الأمنية خلال “أوكوس” على الغواصات الأسترالية، فقد تمتد أيضًا إعادة تسليح قطع الأسطول الأسترالي، وتحديث سلاح الجو وغيره. وقبل عقد الحلف، سبق وأن وافقت وزارة الدفاع الأمريكية على بيع 29 طائرة هليكوبتر أباتشـي لأستراليا بقيمة 3.5 مليار دولار. فضلاً عن المكاسب الهائلة من هذا الصفقة، من المحتمل أن تمنح الصفقة موقعًا عسكريًّا أفضل في المنطقة نظرًا لهيمنة واشنطن على عمليات التشغيل والتحديث والتدريب وتأسيس البنية التحتية للغواصات النووية التي لا تمتلكها أستراليا.
الأمر نفسه، بدرجة أقل ينطبق تفسير التواجد البريطاني في التحالف. بالنسبة للندن، فإن هذا التحالف جزء من الاستراتيجية العالمية لمرحلة ما بعد البريكست؛ سواء لتعزيز العلاقة التاريخية الخاصة مع الولايات المتحدة، أو لتعزيز مصالحها في منطقة الهندي الباسيفيكي، بما يعوض خسائر الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ويعزز قطاع الدفاع الذي تأمل لندن أن يحل محل فرنسا في ترتيب القوى العالمية المصدرة للسلاح بعد الولايات المتحدة، وروسيا. وقد حاولت لندن إظهار اهتمامها بالمنطقة في مايو الماضـي مع تسيير مظاهرة بحرية مجموعة الحاملات البحرية في المنطقة للمرة الأولى منذ الحرب الكورية، وهو ما اعتبرته الصين عملاً عدائيًّا وتدخلاً في الشؤون الإقليمية تحت دعوة حرية الملاحة الدولية في بحر الصين الجنوبي.
تأكل الشراكات الاقتصادية لصالح الأحلاف العسكرية؟
كان توقيع الولايات المتحدة للشراكة العابرة للأطلسـي محاولة من إدارة أوباما السابقة في 2016 لبناء تحالف تجاري ومنطقة حرة مواجهة للصين. إلا أن انسحاب إدارة دونالد ترامب منها في العام التالي، منح الصين فرصة لممارسة سياسة تجارية أكثر هجومية أو حمائية في المنطقة. وهو ما دفع بقية دول الاتفاقية لمراجعتها وبناء شراكة جديدة تحت عنوان “الاتفاقية العامة والتقديمة للشراكة عبر الباسيفيكي CP-TPP” والتـي تضم كندا واليابان وأستراليا ونيوزيلاندا وسنغافورا وفييتنام والمكسيك، ومن المتوقع أن تنضم إليها أيضًا بيرو وتشيلي وماليزيا وسلطنة بروناي.
وعلى الرغم من أن “أوكوس” يعكس امتدادًا لسياسة واشنطن التحالفية في المنطقة، إلا أنه يحمل أيضًا إشارات متضاربة حول مستقبل “الشراكة عبر الباسيفيكي.” مع تخوف دول المنطقة من استبدال واشنطن سياسة “الشراكة” بالأحلاف العسكرية؛ خاصة أن إدارة بايدن لم تحاول حتـى الآن العودة إلى هذه الشراكة أو تأكيد أهميتها، في الوقت الذي تقدمت فيه بيجين رسميًّا بتقديم طلب للانضمام إلى CP-TPP بعد يومين فقط من الإعلان عن أوكوس، سواء لتعزيز وضعها الاقتصادي أو لإحراج الموقف الأمريكي.
فضلاً عن هذا، لم تخفِ دول المنطقة، مثل أندونيسيا وماليزيا، بل وسنغافورة أقرب حلفاء أستراليا، لم تخف قلقها الصفقة التـي قد تشعل سباق التسلح في منطقة جنوب شرق آسيا على نحو قد يؤدي إلى صدام مباشر سيتجاوز بالتأكيد الدول المتصارعة. كذلك، تتخوف بعض القوى من أن تؤدي الصفقة إلى خرق التفاهم بين دول جنوب شرق آسيا حول حماية المنطقة من أسلحة الدمار الشامل في الإطار المتفق عليه في 1995؛ فوجود غواصات نووية في المنطقة قد يمهد السبيل إلى وجود أسلحة نووية في المستقبل.
في أستراليا، تعارض بعض الأصوات ااتفاقية على خلفية توقيعها على اتفاقية حظر الانتشار النووي في العام ١٩٧٣، والاتفاقية الشاملة لمنع الاختبارات النووية في ١٩٩٨، على الرغم من تأكيد موريسون عدم سعي أستراليا لامتلاك أية أسلحة نووية. إلا أن هناك معارضة اقتصادية للاتفاق مع الولايات المتحدة. فما زال الاقتصاد الأسترالي يعاني من تداعيات جائحة كورونا المستمرة، والتـي اتضحت في وصول الدين العام إلى ما يقدر ب٨٤٥.٩ مليار دولار، فضلاً عن التعويضات التـي سيكون على كانبيرا دفعها لباريس، كما دفعتها قبل ذلك لليابان على إثر إلغاء صفقة غواصات يابانية تم عقدها في ٢٠٠٩.
عودة الدبلوماسية السرية؟
لعل أخطر تداعيات إعلان الأوكوس هو الدبلوماسية السرية التـي أحاطت بالاتفاقية الأمريكية الأسترالية. لقد تطور النظام الدولي في القرن العشرين القصير، بين نهاية الحرب العالمية الأولى والحرب الباردة، على أساس الاحتفاء بالدبلوماسية العلنية و البعيدة عن الترتيبات السرية، ومن خلال الإطار المؤسسـي الاقتصادي والسياسـي. إلا أن ما أشرت عليه اتفاقية الغواصات الأسترالية هو إمكانية عودة الدبلوماسية السرية إلى الواجهة بعيدًا عن القواعد الدولية المعمول بها. من المؤكد أن هناك قصورًا استخباراتيًّا فرنسيًّا؛ حيث اطمأنت باريس إلى تأكيدات كانبيرا في المحادثات التـي تمت خلال الشهور الماضية وقبلها على أهمية صفقة ٢٠١٦ للبلدين. وبالتالي أخفقت في اكتشاف المفاوضات الجارية بين أطراف أوكوس الثلاثة، خلال الأشهر الست الأخيرة على الأقل.
بيد أن دلالة التوتر الذي خلقته الأزمة بشكل أكبر تتمثل في كونها مرتبطة بتداعي الثقة بين الحلفاء التقليديين، وما يحمله هذا من تداعيات عن رؤية الإدارة الديمقراطية الحالية لإعادة قواعد النظام الدولي. حيث جاءت إدارة بايدن الحالية بوعود لإصلاح العلاقة العابرة للمتوسط بين الولايات المتحدة وأوروبا والتـي تضررت بسبب سياسات وخطاب إدارة دونالد ترامب. ومن المعروف أن الالتزام بالأطر التعددية الدولية والقواعد أحد ما يميز الخطاب الديمقراطي في مقابل الخطاب الجمهوري الداعي إلى تصرف الولايات المتحدة وفقًا لمصالحها فقط التـي ربما لا تتقاطع مع مصالح حلفائها. كما أن الدبلوماسية السرية قد شهدت ازدهارًا في فترة ترامب أكثر من سابقيه، كما حدث في التمهيد لمحادثاته غير المتوقعة مع كوريا الشمالية.
إلا أن الأمر لا يتعلق فقط بالسلوك الأمريكي، حيث ترى أصوات في واشنطن أن حلفاءها في أوروبا قد سعوا أيضًا إلى عقد تفاهمات وصفقات مع أطراف دولية خارج مقتضيات التحالف الغربي، وعلى رأسهم روسيا. على سبيل المثال، كانت فرنسا قد توصلت إلى اتفاق مع روسيا في ٢٠١٤؛ لبيع حاملتـي الطائرات المروحية الميسترال. دفعت هذه الصفقة إدارة أوباما للتدخل، على خلفية التدخل الروسـي في أوكرانيا وضم القرم، وهو ما أدى بعد تردد فرنسـي إلى إلغاء الصفقة التـى وصلت قيمتها ١.٤ مليار دولار. وقبل ذلك، في ٢٠٠٩، سعت فرنسا أيضًا إلى تزويد البرازيل بغواصة نووية، وهو ما أثار قلق بريطانيا على توازن القوى في جنوب الأطلسـي؛ حيث دعمت البرازيل سابقًا مطالب الأرجنتين في جزر الفوكلاند. إلا أن هذا الاحتجاج لم يمنع فرنسا من مساعدة البرازيل في بناء الغواصة النووية “ألفارو ألبرتو” الـتـي تبلغ قيمة إنشائها ٧.٤ مليار دولار والمزعم الانتهاء منها بحلول ٢٠٣٤.
لا تمثل هذه الحالات السابقة “دبلوماسية سرية” بقدر ما تعبر عن تحول أعضاء التحالف الذي تشكل أثناء الحرب الباردة نحو التملص النسبـي من مقتضيات التحالف، خاصة مع تبدل الظروف جذريًّا عن مرحلة الحرب الباردة وآلياتها. لذا، يبقى التخوف الأساسـي من أن طرق تعامل الإدارة الأمريكية الحالية مع الحلفاء، كما اتضح في الانسحاب المنفرد وغير المنظم من أفغانستان، ثم في ملف أمن منطقة الهندي-الباسيفيكي، من خلال الدبلوماسية السرية، قد يدعو بقية الأطراف الدولية إلى التحرر من القواعد المعمول بها سواء في إدارة الخلافات أو التعاون، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى تشكل نظام دولي أكثر سيولة، ويعيد إنتاج الظروف التـي أدت إلي اندلاع الصراعات الكبرى السابقة.