خبر
تدل أخر حلقات التلاسن الإعلامي بين فرنسا والجزائر، أن مسؤولي البلدين وعلى مختلف المستويات والمجالات، باتا مشتبكين في حرب إعلامية مفتوحة، أحد أغراض الاستمرار فيها هو رسم أفق وسقف للكباش بين باريس والجزائر العاصمة، وتحديد النقاط الخلافية للجلوس على مائدة تفاوض مستقبلية.
أخر حلقات هذا التصعيد الإعلامي الذي يدخل أسبوعه الرابع على التوالي، ما جرى من تصرحات وردود متبادلة بين الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، ووزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، حول تصريحات سابقة لهم تخص مسألة اتفاقيات الهجرة والتأشيرات والإقامة بين البلدين، والتي أتت في سياق تبلور هذه المسألة كنقطة خلاف رئيسية بين البلدين خلال الفترة الماضية.
وأعلن تبون في مؤتمر إعلامي أمس الأول، عن ما أسماه بـ”شروط بلاده” لعودة السفير الجزائري إلى باريس، ملمحاً في نفس السياق إلى “على فرنسا أن تنسى أن الجزائر كانت مستعمرة” حسبما ذكر في معرض إجابته عن تساؤل بخصوص تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الأسبوع الماضي حول إنهاء ما أسماه “الخلاف الدبلوماسي”.
وعكست تصريحات ماكرون الخاصة بسياسة بلاده الخارجية تجاه أفريقيا، تراتبية أولويات سياسة الإليزيه الخارجية، ومدى تفاعلها كذلك مع متغيرات السياسة الخارجية الأميركية الكبرى وانعكاسها على المنطقة والعالم ككل، وذلك على هامش لقاء جمع ماكرون بوزير الخارجية الأميركي، انتوني بلينكن، الأسبوع الماضي في باريس، والذي أتي في إطار ما سُميَ إعلامياً بـ”ترميم العلاقات بين البلدين”، وذلك عقب الأزمة الأخيرة المعنونة بـ”الغواصات الاسترالية“.
ويلقي هذا التلاسن بظلاله على المستقبل القريب لعلاقة فرنسا بدول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، وذلك بالتوازي مع متغيرات استراتيجية واشنطن الخارجية، ومدى تأثير إعادة التموضع/الانكماش الأميركي بمناطق النفوذ الفرنسي في أفريقيا شمال وجنوب الصحراء، وذلك بموازاة أجواء توتر بين باريس وعدد من عواصم هذه الدول وعلى رأسها الجزائر؛ حيث بلغت وتيرة التلاسن الإعلامي والرسمي وغير الرسمي بين البلدين على مختلف الاتجاهات، مستوى جديد تمثل في قرار الأخيرة مطلع الأسبوع الماضي، غلق مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية العاملة في أفريقيا، وذلك بعد أيام من استدعاء الجزائر لسفيرها من باريس، وذلك بموازاة تهديد مستمر من الجانبين بأن يستمر تحول التلاسن الإعلامي لإجراءات متعددة تشمل جوانب اقتصادية، اخرها مقاطعة تكتل شركات جزائرية لمنتجات 500 شركة فرنسية، وتهديد زعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، بقطع مليار ونصف المليار يورو، هي قيمة التحويلات المالية من فرنسا للجزائر سنوياً، وكذلك منع إصدار تأشيرات للجزائريين، وذلك حال فوزها بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
خلفية
شهدت الأسابيع القليلة الماضية تصاعد الخطاب الإعلامي وصولاً للرسمي بين الجزائر وفرنسا، وذلك عبر إجراءات منها تخفيض الخارجية الفرنسية عدد تأشيرات الدخول المخصصة لدول المغرب العربي، وهي الخطوة التي بررتها باريس بأنها تستهدف “طبقة” المسؤولين وذويهم في هذه الدول، وكذلك تكريم الرئيس الفرنسي لعدد من أسماء “الحركي”/”الأقدام السوداء”، وهم المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي إبان ثورة التحرير الجزائرية، وتجاوز عددهم وقتها 150 ألف وقتها، وما تبع هذا التكريم من تصريحات فرنسية بشأن رد الاعتبار لأسمائهم، حيث تعتبرهم الجزائر حتى كتابة هذه السطور بمثابة خونة وعملاء.
أما ذروة التصعيد ودخوله لمرحلة الكباش بين باريس والجزائر العاصمة، فتمثلت في تساؤل استنكاري لماكرون حول “ما إذا كان هنا ما يسمى بالأمة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر”، وذلك في معرض إجابته عن تساؤلات حول جرائم الاستعمار الفرنسي وطرق التعويض عنها على غرار تكريم الحركي.
ويعد السابق واجهة دائمة تعكس استجابة دول المغرب العربي والجزائر خصوصاُ تموضعات ومتغيرات السياسة الفرنسية في جنوب المتوسط وأفريقيا، والتي باتت في السنوات القليلة الأخيرة تتخذ دور أكثر فاعلية لا يقتصر على تعويض غياب/انكماش مؤقت واستثنائي أميركي، ولكن فيما يشبه عودة لباريس لممارسة نفوذ “طبيعي” في جغرافية مستعمراتها السابقة امتداداً إلى ليبيا وشرق المتوسط، وارتباط هذه الجغرافيا بملفات وأزمات سياسية وأمنية لم تعد تقتصر على مواجهة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، بل ظهور هذه المشكلات كعوارض لخلافات أعمق ترتبط بتوزيع الأدوار دولياً وإقليماً وفق تموضعات واشنطن الجديدة والتي كان أخر حلقات انعكاساتها الإقليمية ما حدث بينها وبين باريس عقب اتفاقية الغواصات الأسترالية، ومدى توافق وخلاف القوى الإقليمية والدولية حول أولويات الاستفادة منها، وموقع دول مثل الجزائر بكل أزماتها الداخلية والخارجية في إيجاد هامش تحرك يضمن مصالحها وأولوياتها الاستراتيجية والتي يعد ملف الطاقة أحد مرتكزاته.
ولا يمكن عزل تصاعد الخلافات بين الجزائر والمغرب من سياق التحدي والاستجابة السابق، حيث تثوير الخلافات التقليدية بين الجارتين، وتطور محدداتها وفق المتغيرات سابقة الذكر، وتأثير ذلك على ملفات الطاقة والأمن، والأهم تراتبية أولويات دول المغرب العربي بالنسبة في اعتبارات القوى الدولية والإقليمية، وهو ما يمكن اعتباره الهاجس الرئيسي للمنظومة الحاكمة في الجزائر حالياً. إدراك مكوناتها العسكرية والدبلوماسية لمدى الأضرار التي نتجت وستنتج عن “تجاهل” الجزائر في معادلة متغيرات جنوب المتوسط وشمال أفريقيا، والتي تعد أضرار متبادلة، لاسيما مع دخول أنقرة وموسكو على خط أزمات شمال أفريقيا بشكل أكثر من فاعل، وأخرها التفاعل الإعلامي -الاقتصادي مع الكباش الأخير بين باريس والجزائر العاصمة، وامتداد انعكاسات ذلك على الأزمة الليبية وملف غاز المتوسط، حيث تعتمد الجزائر بشكل كبير على مبيعات الغاز اقتصادياً، وكذلك كورقة لإدارة خلافها/تحالفاتها مع مختلف الأطراف بجانب باريس.
دلالات
يعكس التدهور السريع الذي وصلت إيه العلاقات بين فرنسا والجزائر على مدار الأسابيع القليلة الماضية، احتمالية أن يكون شمال إفريقيا المسرح الجديد لممارسة الخلافات والصراعات الاقليمية، وأن الفارق عن ما حدث في المشرق العربي خلال السنوات العشر الماضية هو ضبط أفق هذا الخلاف وإدارته تحت سقف الصدام المباشر بين أطرافه، خاصة وإذا كانت محاوره تمتد لتشمل ليس فقط ملفات وقضايا شمال أفريقيا وجنوب المتوسط المتشعبة والمزمنة، ولكن أيضاً جنوب الصحراء ووسط أفريقيا وعلى رأسها تمدد التنظيمات الإرهابية هناك، والخشية من انفلات وتفشي هذه التنظيمات من جديد، كأحد أدوات الصراع بين مكوناته الإقليمية والدولية.
ومن هنا يمكن تفسير تصعيد باريس للهجتها العدائية كنوع من الإعلان عن استعادة توازنها على مستوى الخارج وبشكل تكتيكي في أعقاب أزمة اوكوس والغواصات الاسترالية، وكذلك كإعلان عن دور جديد أكثر فاعلية في شمال أفريقيا والمتوسط بشكل استراتيجي، وهو ما يرتبط بشكل وثيق بضبط بوصلة وأولويات الاتحاد الأوربي الخارجية على ضوء المتغيرات الأميركية الراهنة.
ويشكل هذا تفسيراً لتراجع ماكرون عن لهجته التصعيدية تجاه دول شمال أفريقيا وعلى رأسها الجزائر، وهو ما أتت إشاراته إبان مؤتمره الإعلامي مع بلينكن، حيث تمنيه انتهاء ما أسماه بـ”التوترات الدبلوماسية”، وهو ما يعكس إدراك باريس لمدى الضرر الذي قد تشكله الجزائر باستراتيجية فرنسا المستقبلية في أفريقيا، والتي كان ابرزها تلويح الأولى بورقة غلق المجال الجوي عسكرياً، وتأثير ذلك البالغ على أهداف الأخيرة في جنوب الصحراء.
ويمكن اعتبار مجريات التصعيد الأخير بين البلدين بمثابة نموذج يمكن القياس عليه لطرق ومنهجية تعاطي الأطراف الإقليمية والدولية مع أزمات وملفات المتوسط وشمال افريقيا، والتي في جزء منها تعد امتداداً لسياسة الخطوط الحمراء التي شرعت فيها القاهرة مؤخراً، والتي اثبتت نجاح في تحقيق استدارة وفق أولويات الأخيرة وتوقيتاتها الداخلية والخارجية.
وبشكل عام فإن سلوك وخطاب الإليزيه في المستقبل القريب سيرسم أفق وسقف الكباش الممكن، والحيلولة دون تحوله لخلاف يؤثر على استراتيجية فرنسا في شمال وجنوب الصحراء الكبرى، والذي في شقه الجزائري لم يتخطى حتى كتابة هذه السطور رحلة بحث عن منهجية جديدة لإدارة العلاقات بين باريس والمنظومة السياسية الجديدة في الجزائر، دون الاستغراق في استخدام وتوظيف الماضي لتحقيق مصالح المستقبل المشتركة، والتي لا يمكن تصورها في شمال أفريقيا بدون دور إقليمي وظيفي للجزائر يتقاطع مع مصالح باريس/الاتحاد الأوربي.