على عكس ما توقعه مراقبين ومحللين، فإن اللقاء الأول بين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد، نفتالي بينت، قد عُقد وبشكل علني مطلع الأسبوع الماضي في مدينة شرم الشيخ المصرية، وليس على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر الجاري كما توقع هؤلاء قياساً على ما حدث مع سلف الأخير، بنيامين نتنياهو. وذلك بعد حوالي شهر من دعوة وجهها رئيس المخابرات العامة المصرية، عباس كامل، لبينيت عقب تشكيله الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي أتت في سياقات داخلية إسرائيلية متعسرة سياسياً وأمنياً، وسياقات إقليمية متعددة قيد التشكل.
ووفق البيانات والتصريحات الرسمية لمسؤولي الجانبين، فإن الزيارة عكست تفاهمات إيجابية متبادلة ذات أبعاد ثنائية وإقليمية، تجاوزت ما كان معتاد في العِقد الماضي من استثنائية التصعيد في غزة والحرب على الإرهاب في سيناء، لتشمل مستويات اقتصادية في القلب منها غاز شرق المتوسط، وعلاقته بشكل خارطة الطاقة المستقبلية في المنطقة، وتوسع ذلك لقطاعات جديدة منها قطاع الطيران، حيث تسيير شركة مصرللطيران – شركة قابضة حكومية- رحلات جوية منتظمة إلى تل أبيب أسبوعياً، بالإضافة إلى عودة السياحة الإسرائيلية لسيناء عبر معبر طابا، والتي كانت قد تراجعت خلال العشر سنوات الماضية.
خلفية وسياقات
وأتت الزيارة كسابقة أولى من نوعها على مستويات متعددة؛ حيث أنها الأولى لرئيس وزراء إسرائيلي منذ 10 سنوات -بشكل رسمي معلن- لمصر منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأيضاً كونه الاجتماع الأول بين مسؤولي البلدين دون داعي طارئ كاشتعال حرب في غزة، وأيضاً كونها الأولى إقليمياً لبينيت بعد توسيع وتطبيع علاقات تل أبيب مع عواصم عربية عدة، وهو ما اعتبره محللين استكمال لمسار تعاطي القاهرة الإيجابي مع حكومة الأخير، الذي وصل لمنصبه عبر تزعمه تحالف معارضة لنتنياهو ونهج سياساته الخارجية خصوصاً في تصدير أزمات إسرائيل لدول الجوار -مصر والأردن-، وما توازى مع ذلك من نمط مساومة اتبعه الأخير حيال توظيف مناخ المنافسة بين عواصم عربية لتطوير علاقاتها مع تل أبيب، واستثمار هذا في سلسلة الانتخابات التي شهدتها الدولة العبرية السنوات الأخيرة.
وحسب تصريحات عدد من وجوه الحكومة الإسرائيلية وعلى رأسهم بينيت، فإن الزيارة هدفت بشكل ثنائي إعادة الاعتبار لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، والتي أعتبرها الأخير “حجر أساس في استراتيجية إسرائيل للانفتاح على دول المنطقة”، وهو ما يشير إلى ربط وتراتبية معينة في إيلاء الحكومة الإسرائيلية الجديدة اهتماماً بتعزيز العلاقات مع مصر كبوابة لتعزيز علاقاتها بدول المنطقة، وليس المساومة عليها ومحاصصتها كما فعل نتنياهو في السنوات الأخيرة، وهو مع عكس قلق متزايد وقتها لدى القاهرة أن تتحول مبادرات نتنياهو الانتخابية في شقها الخارجي لسياسات مستدامة من جانب تل أبيب، تحول نمط العلاقات بين العاصمتين لمستوى تصدير أزمات الأخيرة للأولى، ولاسيما ما يتعلق بقطاع غزة.
وتحتل ملفات متعلقة بقطاع غزة أولوية عاجلة في أجندة هيكلة العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، وهي ملفات تتنوع بين الأمني والاقتصادي على شتى المحاور، ومنها ملف إعادة إعمار القطاع، ومستقبل غاز غزة وموقعه في خارطة طاقة شرق المتوسط، وذلك بعد أقل من 4 أشهر من التهدئة التي توسطت فيها مصر بشكل نشط واستثنائي عبر حزمة مساعدات مصرية بلغت 500 مليون دولار لإعادة إعمار القطاع، وهو ما امتد خلال هذه الشهور القليلة في جهود تثبيت وقف إطلاق النار وبحث العودة لطاولة المفاوضات بين الفرقاء الفلسطينيين واستئناف عملية السلام، وذلك عبر تدرج مرحلي بوابته الأن متمثله في ملف الأسرى، الذي شهد حراكاً بعد الحرب الأخيرة كأحد محاور التهدئة، والتي عظمت حادثة فرار 6 فلسطينيين سجن جلبوع من أهميته، وذلك واشتراط المقاومة في غزة شمول أي صفقة تبادل قادمة لهم.
أما ما يتجاوز العلاقات الثنائية، فهناك إشارات متزايدة عن مُعامل مستجد للعلاقات المصرية الإسرائيلية، يتمثل في إرساء نمط طبيعي/براجماتي في التعاطي مع التحديات التي يواجهها كل جانب، خاصة في ظل تموضعات واشنطن الإقليمية والدولية المستجدة، واختلاف أولويات ومحددات الأخيرة وفق معايير الانكماش الذي وصل ذروته في مشهد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وتداعياته على المنطقة، سواء فيما يتعلق بسيناريوهات تداعيات العودة للاتفاق النووي، أو ما يتعلق بمستقبل خارطة الطاقة والملاحة في المنطقة، وارتباط ملف سد النهضة بأمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
دلالات
وبخلاف التصريحات الإيجابية من الجانبين المصري والإسرائيلي عقب الزيارة التي تضمنت اجتماع قد شمل عدد من المسؤولين الأمنيين والدبلوماسيين، فإن الحيثية الأهم لها حسب محللين إسرائيليين هي تراتبية جولات بينيت الخارجية، فأتت مصر كمحطة ثانية له بعد واشنطن قبل نحو 3 أسابيع، وهو ما اعتبره هؤلاء المحللين دلالة على استكمال رئيس الوزراء الجديد وتحالفه الحاكم للعمل وفق أولويات إقليمية معاكسة تماماً لنهج سلفه نتنياهو، من حيث إعادة الاعتبار لتوطيد العلاقات مع كل من القاهرة وتل أبيب لدواعي الكفاءة والفاعلية فيما يتعلق بملفات أمنية واقتصادية حساسة ليست محصورة على قطاع غزة.
ويدل هذا على محاولات إثبات الائتلاف الحاكم الجديد في إسرائيل على تسيير ملفات إقليمية بعد أكثر من 10 سنوات من حكومات نتنياهو المتتالية، وهو ما يمثل تحدي لكل من بينيت وشريكه وزير الخارجية، يائير لابيد، في اعتماد المقاربات التي اجترحتها التيارات والتحالفات الممثلين لها كشعارات في جولات الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وتضفيرها مع أولويات أمنية واستراتيجية للمؤسسات العسكرية والأمنية في إسرائيل، وتكريسها على المستوى الخارجي في ظل متغيرات كبرى ليس أقلها الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتداعياته على المنطقة، بما يجنب تل أبيب ما أسماه بينيت في وقت سابق بـ”المقامرات الانتخابية لنتنياهو”، والتي كان آخرها جولة التصعيد الأمني والعسكري في القدس وغزة مايو الماضي، وما تبعها من دور محوري للقاهرة على مستويات أمنية واقتصادية متعلقة بمستقبل القطاع والعودة للمفاوضات عبر صفقة تبادل قيد التبلور.
وأعتبر مراقبين ومحللين أن السابق يشكل خطوة متقدمة في سبيل إرساء نمط جديد للعلاقات بين القاهرة وتل أبيب قائم على تبادل وتقاطع المصالح، سواء بشكله المعتاد فيما يخص العلاقة مع واشنطن وخاصة فيما يتعلق بالملاحة وأمن إسرائيل وعملية السلام، أو مستجد متمثل فيما تستطيع حكومة بينيت/لابيد إنجازه من دور فيما يتعلق بسد النهضة بشكل يتوازى من حيث التوقيت والفاعلية مع ما تقوم به مصر فيما يتعلق بملفات قطاع غزة المتعددة، وما يتجاوزها في المستقبل المنظور من حيث تقاطعات ملفات الطاقة على مختلف الاتجاهات؛ سواء متعلقة بمشروع الشام الجديد، أو إيصال الغاز المصري إلى لبنان عبر سوريا والأردن بضوء أخضر أميركي في الوقت الضائع، وعلاقة ذلك بتفادي اشتعال حرب على جبهة إسرائيل الشمالية.
وكمحصلة للصورة العامة، تشكل هذه الزيارة اللافتة بكافة سياقاتها ودلالاتها محطة هامة في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب على مستوى متغيرات العشر سنوات الماضي في كل من الدولتين، وما تمثله اتفاقية السلام بينهم كمحدد هام لمستقبل السياسات الاقليمية، وكذلك فيما يمكن اعتباره اختباراً لمدى جدية بينيت في اختلافه عن نهج سلفه نتنياهو من حيث مأسسة السياسات على مدى طويل، وليس تغييرها حسب دواعي انتخابية.