أخبار من تونس
مع ختام الأسبوع الثالث على قرارات الرئيس التونسي، قيس سعيد، والتي أدخلت تونس مرحلة جديدة في تاريخها الحديث، لا سيما منذ 2011، جاءت تصريحات القوى السياسية والاجتماعية متماشية مع حجم التحديات التي تشهدها هذه البلد بوتيرة متسارعة على مستويات أمنية وصحية وبالطبع اقتصادية، وأخرها موجة الحرائق التي أتت كخلفية دراماتيكية للمشهد السياسي المحتقن هناك.
أبرز هذه التصريحات كانت من نصيب زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، الذي كان قد صرح خلال الأيام القليلة الماضية بما هو عكس ما قد صرح به عشية قرارات بن سعيد؛ فالغنوشي الذي بات يرفض خلال الأسبوع الأخير وصف قرارات سعيد بـ”الانقلاب”، وهو التوصيف الذي تمسك به خلال الاسبوعيين الماضيين، بات الأن منفتح على ما أسماه بـ”مراجعات جذرية” على ضوء “دعم الرئيس قيس سعيد والحفاظ على استقرار البلاد”.
أتت ثاني أبرز هذه المواقف والتصريحات من جانب الاتحاد العام التونسي للشغل، والذي بات ميله لتأييد قرارات بن سعيد أمر واقع، وتطوير هذا التأييد نحو خطوات تغيير عبر خارطة طريق قد تشمل سيناريوهات عديدة، يستعد لها الاتحاد حسب بيان له عقب اجتماع قياداته وممثليه مع سعيد أواخر الأسبوع الماضي، بما في ذلك حل البرلمان وتعديل الدستور، وهو ما يتطلب استمرار الدعم والتأييد الشعبي لسعيد وقراراته، وموقع الاتحاد العام من هذه المعادلة التي قد تتطلب تفويض شعبي قد يكون التنظيم العمالي والنقابي الأكبر في البلاد حامله الأبرز.
أما تصريحات بن سعيد على مدار الأسبوعيين الماضيين، فكان أبرزها فيما يخص مسألة المحاسبات والتحقيقيات في جرائم فساد متنوعة، لاسيما ما يتعلق بالحملات الانتخابية والمال السياسي الخارجي؛ حيث عبر سعيد عن “عدم ثقته” بالأطر السياسية والحزبية والتنفيذية التي أدخلت تونس في أزمتها البادئة منذ عامين، والتي فاقم من أثرها مناخ الاستقطاب والإفساد، ملمحاً في الوقت ذاته لما يتجاوز مسألة رفع الحصانات البرلمانية إلى ما يصفه البعض بـ”تطهير المشهد السياسي التونسي”.
خلفية
خارجياً، كان من اللافت تراجع بوادر التحفظ التركي على قرارات بن سعيد وتداعياتها، ليتحول مؤخراً وبشكل رسمي إلى دعم للرئاسة التونسية عبر قنوات دبلوماسية وسياسية حدها الأدنى استبيان ما سيحدث بعد مُهلة الشهر التي تحددها المادة 80 من الدستور التونسي كسقف لتجميد عمل البرلمان.
ويمتد السابق لمجمل مواقف القوى الإقليمية والدولية البارزة وعلى رأسها مصر والسعودية وفرنسا والولايات المتحدة، مع تمايز الدعم الفرنسي ليتخطى مسألة لقاحات كورونا إلى ما أسماه بيان الإليزية “دعم فرنسا الكامل لتونس في مجمل التحديات الصحية والاقتصادية والأمنية”.
أما واشنطن، فحمل نائب مستشار أمنها القومي لشؤون شمال أفريقيا، جون فاينر، رسالة من الرئيس الأميركي جون بايدن لنظيره التونسي، أكد فيها على دعم واشنطن لـ”العودة لمسار الديموقراطية البرلمانية قريباً”، وذلك في اجتماع شهدته العاصمة التونسية أمس.
وتجدر الإشارة أن موقف واشنطن مما يحدث في تونس تدرج من رفض وصف ما حدث هناك بالإنقلاب، إلى دعم مشروط بخارطة طريق سياسية واضحة المعالم والتوقيت للعودة لنظام برلماني وليس رئاسي، وهو ما رد عليه سعيد في اجتماع أمس بأن قراراته أتت بشرعية دستورية وتأييد شعبي.
السابق يأتي بموازاة نجاح بن سعيد وخلال أسابيع في اتخاذ وتنفيذ حزمة إجراءات متعددة المستويات سرعان ما اعتبرتها القوى الإقليمية والدولية إدارة جيدة للأزمة التونسية بشرعية انتخابية ودستورية، خاصة فيما يتعلق بحملة التلقيح القياسية ضد كورونا وخاصة في مدن الجنوب التونسي حيث عدد الإصابات الأعلى والأقل حظاً من المساعدات والخدمات الطبية، لتسجل هذه الحملة رقم قياسي حوالي مليون مواطن في أقل من أسبوع.
وعلى المنوال نفسه، فإن حملة المحاسبات والتحقيقات في الفساد المالي والإداري والسياسي التي أطلقها سعيد منذ أسبوعين، قد حققت في هذا الوقت القصير تقدم فيما يخص رفع الحصانات البرلمانية عن نواب فاسدين، وسط دعوات من قوى سياسية لحل البرلمان وتنظيم انتخابات نيابية جديدة، وكذلك تحديد قوائم منع من السفر وتجميد أرصدة، ومصاحبة ذلك بشفافية عن مجريات هذه المحاسبات القضائية والالتزام بالدستور والقانون التونسي.
دلالات
الدلالة الأبرز لتطورات الأحداث في تونس على مستوى الداخل، أن هذه الإجراءات والقرارات لا تنطلق من أرضية استقطابية مقصود بها اقصاء وتقويض حركة النهضة وقلب تونس فقط، ولكن تفكيك شبكات ومنابع نفوذهم الاقتصادي والاجتماعي وليس السياسي فقط، وهو ما اعتبره عدد من المختصين والمتابعين للشأن التونسي بأنه سبب رئيسي في تغير الغنوشي لموقفه؛ حيث كسب بن سعيد لقواعد جماهيرية كانت محسوبة على حركة النهضة حتى وقت قريب، وهو ما يرجعه البعض إلى استشفاف هذه القواعد لجدية بن سعيد فيما يطرحه ويصرح به، بالإضافة إلى ضعف وهزال النهضة على مدار العاميين الماضيين، واعتمادهم على نمط خلق الازمات والاستثمار فيها، والتي حولت علاقة النهضة بهذه القواعد الشعبية لعلاقة زبونية تصل ذروتها وقت الانتخابات فقط.
تتضح النقطة السابقة بتتبع تصريحات وتحولات مواقف الغنوشي على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية، التي يستدل منها على أن التيار الغالب داخل حركة النهضة بات يميل للقبول بالأمر الواقع من أجل البقاء، وضمان موقع في المشهد السياسي التونسي في المستقبل حتى وإن كان هامشياً ومتواضعاً، عكس مسار الصدام الذي سيفضي في الغالب لاجتثاث الإخوان المسلمين من الاجتماع السياسي التونسي مثلما حدث في مصر.
ومن المرجح أن الغنوشي أقدم على هذا التحول ليس لدوافع البقاء فحسب، ولكن أيضاً لكبح وتيرة انهيار الحركة وتقليص الخلافات داخلها، خاصة مع موجة انشقاقات داخل الحركة/الحزب، سواء متعلقة بتطورات الأسابيع الماضية أو تراكمات ترجع لـ2011، والأهم هو عدم نجاح الغنوشي وحزبه على إيجاد حامل إقليمي ودولي لسرديته التي وصفت قرارات بن سعيد بالانقلابية، وهو ما ينسحب على موقف رسمي من الدوحة وأنقرة، الذي انحصر على التحوط انطلاقاً أرضية الحفاظ على الدولة التونسية من التفكك على غرار جارتها الليبية، أو الانهيار على نسق الأزمة اللبنانية.
جدير بالذكر هنا أن تفاعل ورد بن سعيد ومعسكره على تحولات الغنوشي والنهضة، قد أنطلق من أرضية التشكيك في جدية وصدق هذه المواقف المستجدة بناء على خبرة الماضي، وأيضاً كونها تأتي كتكتيك انتظار اضطراري لمداراة عجز في التعاطي مع الغضب الشعبي الجارف ضد النهضة وانشقاقات بداخلها واخفاق في جلب دعم خارجي، ولذلك جاءت تصريحات الرئيس التونسي معبرة عن التمسك والتشديد على مسألة التحقيقات والمحاسبات القضائية وما يشمل ذلك من تتبع المال السياسي الخارجي وتمويل النهضة خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما يعني احتمالية حظر حزب حركة النهضة من المشهد السياسي التونسي مستقبلاً.
في الصورة العامة، فإن مواقف مجمل القوى السياسية والاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، تشير وبقوة إلى أن هناك توافق على التغيير انطلاقاً من تأييد بن سعيد في إجراءات الإصلاح والمحاسبة، مع اشتراط خارطة طريق سياسية ملزمة ستكون هي محور الجدل السياسي الداخلي في تونس في المستقبل القريب، وليس جدلية ثورة وثورة مضادة التي اعتاشت عليها حركة النهضة/الإخوان المسلمين منذ 2011.
أما على المدى المتوسط، فإن مسألة تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي في تونس باتت في حكم التحقق أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يشكل ركيزة الحوار الداخلي بين مختلف القوى السياسة والرئاسة التونسية، من حيث التدرج والكيفية، خاصة وأن هذه المسألة كانت هي ركيزة الخلافات بين النهضة وسعيد على مدار العام السابق مع اغلبية برلمانية للأولى، وهو ما يجعلها الأن بين خيار التقزيم وتمرير التحولات الكبرى دون صدام، أو التصعيد ومن ثم استناد سعيد بتفويض شعبي في رسم خارطة طريق تتضمن استفتاء دستوري كخطوة أساسية نحو نظام رئاسي، بدون حركة النهضة.