(إن البحث عن سبل جديدة للمستقبل في الشرق الأوسط بات يجري من خارجه بلا شك)
كانت تلك وجهة نظر المؤرخ البريطاني “جايمس بار” الواردة في كتابه الثري (خط في الرمال.. بريطانيا وفرنسا والصراع الذي يشكل الشرق الأوسط) وذلك في معرض حديثه عن دور كل من بريطانيا وفرنسا في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط إبان الثورة العربية الكبرى واتفاق سايكس-بيكو عام 1916، وذلك عند التدليل على زاوية مهمة مفادها أن سياسات ومستقبل الشرق الأوسط عادة ما يتم تجهيزها خارج الشرق الأوسط وعلى يد قادة من خارج هذه المنطقة. بيد أننا أمام وضع مختلف في الحالة المصرية الإماراتية مؤخراً.
على طول تاريخ الدولتين، اتسمت العلاقات المصرية الإماراتية بأنها كانت تجد دائماً نقاط التقاء وتشارك، حيث لم يسجل تاريخ هذه العلاقات أي محطات تصادم، وهو أمر لافت للنظر على عكس مسار العلاقات المصرية مع القوة الرئيسية الأخرى بالخليج، أي المملكة العربية السعودية حيث مر البلدان ببعض محطات التصادم التي تم تجاوزها لاحقاً.
كيف تم وضع أساسات التحالف الاستراتيجي بين مصر والإمارات؟
تعمل أدبيات العلاقات الدولية على تقسيم مستويات العلاقات بين الدول إلى مستويين رئيسيين وهما: (تكتيكي)؛ قائم على المراوحة صعوداً وهبوطاً حسب الوضع القائم، والأخر؛ (استراتيجي)، وهو أعلى مستويات التفاعل بين طرفين على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق الأهداف المنشودة، وعادة لا يتم الوصول إلى هذا المستوى إلا في ظل توافر مجموعة من الأهداف المشتركة في الاتجاهات السياسية والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية.
بالإشارة إلى ذلك، سجل عام 2014 نقطة تحول رئيسية في العلاقات المصرية الإماراتية، باعتباره العام الذي أخذ بها نحو مستوى (العلاقات الاستراتيجية) بعد أن عبرت مصر مرحلة عصيبة من تاريخها جراء العديد من التقلبات اللاحقة لثورة يناير، ثم وصول تنظيم الإخوان المسلمون إلى السلطة وما رافق هذا الوصول من إبعاد أطراف إقليمية صديقة خارج الدائرة المصرية واستجلاب أطراف أخرى أقرب إلى التنظيم الحاكم دون الوضع في الاعتبار المصلحة الأوسع للبلاد.
ففي يونيو 2014 قام الشيخ محمد بن زايد بزيارته الأولى إلى مصر، وذلك أثناء تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيساً لجمهورية مصر العربية. وكانت زيارته الثانية لمصر في سبتمبر من نفس العام. ليقوم الرئيس السيسي بزيارته الأولى للإمارات في يناير 2015. وإذا ما تم تِعداد الزيارات المتبادلة بين مصر والإمارات سيمكن ملاحظة أنها تتميز بحالة من السيولة والدورية بشكل لا يمكن رصده بين أي دولتين حول العالم، حيث بلغ عدد الزيارات المتبادلة بين مصر والإمارات 24 زيارة في 7 سنوات. ومن المهم في نفس الإطار التقاط السياق العام وراء تلك الزيارات والتي سيكون لها دلالات مهمة في نمط العلاقات الذي تقوم الدولتين بتشكيله. وهو ما يمكن استخلاصه بتحليل بعض من هذه الزيارات:
- دعم الشرعية الدولية للرئيس المصري الجديد: أتت تلبية الشيخ محمد بن زايد لحضور حفل تنصيب الرئيس المصري ضمن المسعى الإماراتي لدعم مظهر شرعية الرئيس المصري الجديد إقليمياً ودولياً، ذلك أن الرئيس السيسي كان قد حاز السلطة في ظروف قد شابها بعض الرفض الإقليمي والدولي.
- التعاون في نزع شرعية الإرهاب: مع بداية موجة الإرهاب التي ضربت مصر بعد الإطاحة بتنظيم الإخوان المسلمين فإن بعض الزيارات الإماراتية للقاهرة رفيعة المستوى إنما كانت تأتي لاحقة لعملية إرهابية كبيرة، خصوصاً في فترة موجة الإرهاب الكبرى(2014- 2017) لتضع الزيارة على جدول الأعمال هدفاً رئيسياً هو دعم الجهود المصرية في التصدي للتنظيمات الإرهابية والأفكار المتطرفة ونزع الشرعية عن هذه التنظيمات وعلى رأسها الإخوان المسلمين في وقت كانت أطراف إقليمية ودولية أخرى تعمل على شرعنة وغسل سمعة التطرف وتبرير الأفعال الإرهابية التي طالت مصر. خصوصاً أن البلدين لا يخفيان أن لديهما مشروع مشترك وهو مكافحة الأفكار المتطرفة وكافة التنظيمات التي تمارس أعمالاً إرهابية بما يضر بأمن واستقرار المنطقة.
- التلويح بمتانة وعمق العلاقة: عادة ما تلجأ الدول إلى ما يمكن تسميته بــ“السلوكيات الدبلوماسية” للتأكيد على وتمرير رسالة تفيد بمتانة العلاقات مع هذا الشريك الدولي أو ذاك. وهو السلوك الذي كان حاضراً في زيارات كِلا الطرفين لبعضهما البعض. ففي نوفمبر 2019 قام الشيخ محمد بن زايد بتقليد الرئيس السيسي ” وسام زايد” [1]أرفع الأوسمة الإماراتية وذلك أثناء زيارة الأخير للإمارات. فيما كان الشيخ محمد بن زايد الحاضر الدائم إلى جوار الرئيس المصري في منصة العرض الرئيسية وفي سيارة العرض المكشوف الجوالة أثناء افتتاحات القواعد العسكرية المصرية في قاعدة (برنيس) بتاريخ يناير 2020 بمحافظة البحر الأحمر، وقاعدة “3 يوليو” غرب مصر في يوليو 2021. ومن المؤكد أن الرسائل المتضمنة لهذا السلوك قد وصلت للكافة بأن علاقات بين القاهرة وأبو ظبي قد ارتقت إلى مستوى التحالف الاستراتيجي.
هذه العلاقة متعددة الاتجاهات (دعم شرعية الرئيس الجديد- والتعاون في نزع شرعية الإرهاب) كانت جميعها محاولة ناجحة لتخليق أدوات سياسية استباقية في داخل الشرق الأوسط، لمواجهة كافة الإجراءات المضادة التي قد يتم اتخاذها من خارج هذه المنطقة ضد مصر، المتمثلة في حالة من التردد الدولي بالاعتراف بشرعية مخرجات ثورة 30 يونيو سواء على مستوى الأمم المتحدة أو حتى الرئيس أوباما، والاتحاد الأفريقي الذي علق عضوية مصر، أو حتى التلويح بفرض عقوبات وشطب عضويات أممية. لنكون أمام المظهر الأول من صنع السياسات داخل الشرق الأوسط في حدود الممكن وليس الوقوع تحت سطوة ما قد يُفرض من خارجه، كما جرت العادة سابقاً.
التحالف المصري الإماراتي يُثبت جديته
واجهت مصر العديد من التحديات الاقتصادية والأمنية بعد عام 2013، وهو ما وفر فرصة جيدة لاختبار متانة وجدية التحالف الاستراتيجي بين مصر والإمارات. ففي الوقت الذي أخذت فيه مصر على عاتقها مواجهة تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان يحمل في جعبته العديد من مسببات عدم الاستقرار ليس لمصر وحدها، بل للمنطقة كلها باعتباره تمثيلاً بشكل أو بأخر لكافة خطايا الإقليم القائمة في ذاك الحين سواء الفورة الجهادية الحاصلة، أو كونه تكراراً للنموذج الإيراني في نسخته السُنية بما يُهدد مستقبل أي بلد قد يصل لحكمه في المنطقة مهما كان بلداً قد أخذ نصيبه من التحضر ولنا في إيران نموذجاّ قبل سيطرة مخرجات الثورة الإسلامية على هذا البلد. ورغم أن الإطاحة بالإخوان المسلمين في مصر تصب في المقام الأول في المصلحة المصرية إلا أنها في نفس الوقت تصب في مصلحة الإمارات التي تتبنى نفس النهج الذي أعلن عنه الرئيس المصري الجديد بشأن عدم السماح للتنظيمات الإرهابية والأفكار المتطرفة بالسيطرة أو بالتمدد في مصر، وهو ما تمثل في الإجراء الأكبر الذي تم اتخاذه في الثالث من يوليو 2013 بعزل الرئيس المصري محمد مرسي عضو مكتب الإرشاد التابع لجماعة الإخوان المسلمون.
بالتالي نحن أمام هدف مشترك ساهم في خلق بيئة عمل مشتركة إلا أنها تتطلب دعماً وقيام كل طرف بالدور الممكن في حدود ما تتوفر له من إمكانيات، وقد قامت الإمارات بذلك بالفعل عندما أخذت على عاتقها عدم السماح للدولة الجديدة في مصر أن تنهار أمام التحديات الاقتصادية التي قد تواجه قرارات مصيرية مثل الإطاحة بتنظيم الإخوان المسلمين المرتبط في الأساس بشبكة علاقات دولية ستنتفض من أجل التنظيم. ذلك أن الحليف المصري في أشد الحاجة للدعم الاقتصادي بعد هكذا قرار لمواجهة ما سيترتب عليه على المستويين الداخلي والخارجي.
ولن نكون هنا بصدد استعراض لكامل سلسلة الدعم الإماراتي للحليف المصري منذ عام 2014 حتى اللحظة بقدر ما سنكون بصدد تحليل السياق المحفز والدافع وراء هذا الدعم الذي كان من شأنه تقديم الإسناد ليس فقط للاقتصاد المصري بل لتفويت أي فرصة على خلخلة نموذج الدولة الجديدة في مصر، بشكل جعل الاقتصاد في هذه الحالة رديفاً للسياسة:
- تفويت الفرصة على أطراف داخلية ودولية لتثوير الشارع: إذا كنا نتحدث عن أن إيران إذا أرادت معاقبة العراق فإنها تقوم بإيقاف خطوط المد الكهربائي لغرض تثوير الشارع ضد نظام الحكم في العراق. فإن ما حدث في مصر كان العكس، حيث قامت الإمارات بتقديم الدعم للحكومة المصرية لغرض إدارة أزمة الوقود اللازم لمحطات السيارات والكهرباء الحاصلة بعد عام 2013 عبر ضخ مليار دولار على شكل مشتقات بترولية، خصوصاً أنها أزمة مرتبطة بشكل مباشر بالاحتياجات اليومية للمواطنين الذين قد يفقدوا الثقة في الحكومة الجديدة ما قد يزيد من أعباء الحليف المصري ويوفر فرصة لأي طرف إقليمي بتهديد مخرجات عام 2013 عبر تثوير الشارع في وقت كانت التظاهرات اليومية التي ينظمها تنظيم الإخوان المسلمين تخرج في الشوارع المصرية، وفي وقت كان الدعم الدولي متردداً ولا يزال يُقيم الموقف في مصر.
وتصب الاستثمارات الإماراتية بشكل غير مباشر في نفس الاتجاه من حيث دورها في خفض معدلات البطالة في مصر، فمشاريع شركة الفطيم على سبيل المثال من شأنها توفير 124 ألف وظيفة، بينما توفر مشاريع شركة اللولو ستوفر 12 ألف وظيفة التي تعمل في مصر من خلال هيئة أبوظبي للاستثمار، ومشروع (سكاي أبوظبي) في العاصمة الإدارية بإجمالي استثمارات 15 مليار جنية والذي من شأنه توفير 270 ألف فرصة عمل بشكل مباشر، ومشروع (الخليج للسكر) في صعيد مصر الذي من شأنه توفير 3000 فرصة عمل بشكل مباشر ودعم نحو 60 ألف من المزارعين [2]
- دعم القرارات المصيرية: استهدف الدعم الإماراتي لمصر اللحاق بكافة أشكال الضرر التي قد تنتج عن ظروف التحول اللاحق لعام 2013 جراء بعض القرارات السياسية والاقتصادية المصيرية التي سيترك اتخاذها صدى صوت في الاقتصاد المصري على المستويين الداخلي والخارجي، مثل القرار المصيري بالإطاحة بالإخوان المسلمين عام 2013 ثم قرار فض اعتصام رابعة العدوية عام 2014. ولذلك نجد أن اللحاق الإماراتي بمخرجات هذه القرارات المصيرية من الجانب الاقتصادي قد تمثل في سد ثغرة نقص العملة الأجنبية اللازمة للاستيراد عبر إيداع 3 مليار دولار في البنك المركزي المصري خلال أعوام 2015 و2016 والتي تم استخدام جزء منها لسداد ودائع قصيرة وطويلة الأمد من السندات كانت قد طالبت بها قطر عند استحقاقها[3]. ليبلغ إجمالي الودائع طويلة الأجل التي منحتها الإمارات لمصر 5.9 مليار دولار بنسبة فائدة طويلة تبلغ إجمالي 525 مليون دولار عن المبلغ[4] . وقرار شركة موانئ دبي في ميناء العين السخنة عام 2016 بإلغاء الدفع بالدولار على كافة الخدمات الأرضية والتعامل بالجنية المصري للمتعاملين مع البضائع التي تتعامل معها الشركة عقب قرار تعويم الجنية المصري.
- الاستثمارات كوسيلة للطمأنة الدولية: تأتي الإمارات على رأس قائمة الدول العربية التي تستثمر في مصر بنحو 15 مليار دولار ، بما يتجاوز 13% من إجمالي الاستثمار الأجنبي العالمي في نهاية عام 2020 ، وهو الرهان الذي يبدو أن مصر قد ربحته، حيث كانت مصر قد اعتمدت على استثمارات الحليف الإماراتي في تحريك الاقتصاد المصري ومواجهة انسحاب الاستثمارات الأجنبية من مصر في ظل حالة عدم الاستقرار التي كانت حاصلة في البلاد، عوضاَ عن الفائدة المرجوة في زاوية العلاقات العامة الدولية من حيث كون هذه الاستثمارات الإماراتية وسيلة لطمأنة المستثمرين الأجانب في العودة إلى مصر.
وكانت زيارات كبار رجال دولة الإمارات للمشاريع الجديدة التي تم الترويج لاحتمالات فشلها عند طرحها أمراً من شأنه التعظيم من مكانة هذه المشاريع ومنحها ختم ثقة دولية، وهي المشاريع التي يبدو أنها تستدعي ذاكرة دولة الإمارات عند نشأتها وفي الحاضر كذلك، باعتبار أن غالبية المشاريع المصرية الجديدة كالعاصمة الإدارية والعلمين الجديدة كانت منذ 4 سنوات عبارة عن صحاري تحولت لمدن عملاقة على أعلى مستوى فيما يشبه تلك النقلة التي حدثت لدبي وأبوظبي منذ السبعينات حتى اللحظة.
ففي عام 2015 اطلع الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبي، والشيخ عبد الله بن زايد وزير الخارجية، والدكتور سلطان الجابر وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، ورجل الأعمال الإماراتي محمد العبار على مخططات(ماكيت) العاصمة الإدارية بصحبة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وذلك عندما كانت مجرد فكرة مطروحة عام 2015 قوبلت حينها بالاستهجان والاستخفاف وتأكيدات الفشل من البعض. وفي العام اللاحق 2016 كان الشيخ محمد بن زايد قد قام بزيارة إلى أحد مواقع العاصمة الإدارية بصحبة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عندما كانت لا تزال أيضاَ مجرد مخططات على الورق.
فيما اجتمع الشيخ طحنون بن زايد مستشار الأمن الوطني مع الرئيس السيسي في العلمين الجديدة بتاريخ 10 أغسطس 2021 للتباحث حول مستقبل الاستثمارات بهذه المنطقة الواعدة القريبة من الحدود الليبية في نفس التوقيت الذي كان المشير خليفة حفتر يزور القاهرة. بما يجعلنا لا نتجاهل بأي حال من الأحوال الفائدة الأمنية التي ستتحقق جراء هذه المشاريع، فقاعدة (3 يوليو) العسكرية ومدينة عالمية تنبض بالحياة أي (العلمين الجديدة) على حدود مصر الغربية تعني تجفيف لبيئة عمل الإرهاب وتهريب الأسلحة وحصار لميادين القتال المحتملة التي قد تستخدمها هذه التنظيمات للانتشار في نمط (حروب العصابات) المُرهقة. خصوصاً أن الاهتمام بالجناح الغربي البعيد عن المركز الجغرافي للدولة المصرية سوف ينتج عنه بالتبعية عملية احتواء للقبائل المصرية في هذه المنطقة عبر المشاريع الاستثمارية والخدمية التي يتم تشييدها هناك، باعتبار أن هذه المشاريع تتم ترجمتها بشكل أو بأخر بأنها اهتماماً حكومياً بالمصريين في الأطراف بعد طول غياب وإهمال. الإمارات كانت حاضرة في القلب من استراتيجية احتواء القبائل المصرية وحتى الليبية، ذلك أن اتحاد الإمارات لسباقات الهجن قد عمل على رعاية وتنظيم (سباق العلمين للهجن المصري) في يوليو 2021 بحضور الشيخ محمد بن زايد والرئيس عبد الفتاح السيسي[5]. بدا أننا أمام جهود لإعادة إحياء البيئات الأصلية للمناطق النائية وجعلها أقرب للدولة بدلاً من أن يتم دفعها دفعاً لأن تدير أمورها خارج المنظومة الرسمية وما قد يحمله ذلك من مخاطر أمنية.
التحالف المصري الإماراتي يصنع سياسات الشرق الأوسط
كان على التحالف المصري الإماراتي أن يتعامل مع عدة ملفات وأزمات إقليمية. وكانت العادة قد جرت أن يتم استدعاء الدعم من الخارج في إدارة أزمات منطقة الشرق الأوسط، إلا أننا بصدد تحول جديد مفاده إدارة الأزمات والسياسات من الداخل.
- في الحالة السورية: كان هناك بيئة عمل وأهداف مشتركة بين مصر والإمارات، على رأسها إعادة النظر في السياسات التي تسببت في منح التنظيمات الإرهابية والقوى الدولية الفرصة للسيطرة على مناطق نفوذ وسيطرة بشكل وصل حد الاستعمار في سوريا كتركيا وإيران. ولذلك عملت الإمارات على دعم عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وأعادت فتح سفارة دمشق في أبو ظبي. وهو نفس المسار الذي تلاقى مع مسار القاهرة التي اعتبرت عودة سوريا للحاضنة العربية أمر حيوي من أجل صيانة الأمن القومي العربي. ما جعلنا أمام إعادة تشكيل للسياسات تجاه الملف السوري، بشكل قد يحفز أطراف أخرى كالمملكة العربية السعودية للاشتراك في جهود حل الأزمة السورية من داخل الشرق الأوسط. فوزير السياحة السوري كان قد زار السعودية خلال شهر مايو 2021 بعد أن زار مسؤولاً سعودياً دمشق والتقي رئيس مكتب الأمن الوطني السوري على مملوك. ويمكن القول أنه لولا هذا الاستنفار المصري الإماراتي وتجاوز حساسية إعادة النظر في المسألة السورية لم يكن أي طرف عربي أخر ليفكر أن يدخل على خط إعادة الحل. ما يجعلنا نقول إن التحفيز لحل المسألة السورية بدأ من الشرق الأوسط، حتى لو احتاج تدخلاً دولياً باعتبار أن هذه المسألة بالذات تم تدويلها منذ زمن.
- في الحالة الليبية: تحولت ليبيا التي تتشارك نحو 1100 كيلومتر من الحدود مع مصر إلى ميدان عمل مشترك لكل من التنظيمات الإرهابية والقوى الدولية المناوئة لمصر. ولم يتوقف الرئيس المصري في كافة لقاءاته التلفزيونية عن التأكيد على حق مصر في الدفاع عن أمنها القومي والتصدي لكافة التهديدات القادمة من ليبيا. ولأن الإمارات تتشارك مع مصر نفس المخاوف والموقف من التنظيمات الإرهابية الجوالة والقوى الدولية التي تقوم بتشغيل هذه التنظيمات، فإنها عملت على دعم مصر في كل ما تتخذه من إجراءات لحماية أمنها واستقرارها من تداعيات التطورات المقلقة في ليبيا، ودعمت كل مشاريع العمل التي تبنتها مصر مثل (إعلان القاهرة) عام 2020 الداعي لوضع حل للازمة [6].
التنسيق في الحالة الليبية كان قابلاً للتطوير بتطور الأحداث هناك، وهذا ملمح مهم يفسر نقطة مهمة في مسار العلاقات وهي المرونة بشأن قبول تقييم الحليف للأوضاع والمشاركة في تنفيذ سياسات جديدة بشكل أفضى إلى اختيار السلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا بقيادة السيد محمد المنفي الذي ترأس المجلس الرئاسي، الذي كانت أولى زياراته الخارجية إلى القاهرة في تأكيد على أهمية الفاعل المصري في مسار حل الأزمة الليبية. ما يعني أن مبادرة الحل الليبي يتم صناعتها في الشرق الأوسط بقيادة مصرية وتفاعل إماراتي عالي المستوى ثقة في الحليف المصري خصوصاً في ظل تشابه أهداف هذا الحلف، وهي:( قطع الطريق على التنظيمات الإرهابية- قطع الطريق على القوى الدولية التي تستثمر في التنظيمات الإسلامية- تعبيد الطريق أمام مشاريع الاستثمار العملاقة التي تحقق مكاسب كافة الأطراف) .
- في الحالة الفلسطينية- الإسرائيلية: مر عام على اتفاق تطبيع العلاقات الإماراتية-الإسرائيلية، العام الذي كان مليء بالكثير من الزخم والتقدير الخاطئ بوجود رغبة إماراتية بالقفز على الترتيب المُتبع لإدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وخصوصاً فيما يخص الدور المصري، إلا أن الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة كانت بمثابة اختبار لأدوار التحالف المصري الإماراتي والقبول بما قد اتفق عليه تاريخياً من حيث كون مصر هي الأكثر تفاعلاً مع هذا الصراع وهي من تملك مفاتيحه وأن الاستراتيجية المصرية لا تزال هي الفاعلة في أمور التهدئة. وقد كانت نتائج الاختبار مُرضية، فعلى عكس الظنون بأن الحرب الأخيرة قد تضع الإمارات في مأزق كونها تأتي في وقت قريب من اتفاق التطبيع، بما قد يجعلها أقرب إلى إسرائيل منها إلى فلسطين، فإن الإمارات تفاعلت بشكل إيجابي مع الطريقة المصرية في التهدئة ووضع حد للحرب القائمة، مع تأكيد أبوظبي على خيار (حل الدولتين) كحل أساسي ، خصوصاً أن أبو ظبي تعلم أن القاهرة في حاجة للاستثمار في هذه الأزمة لإثبات أنها لا تزال مهمة لاستقرار الشرق الأوسط لدى الولايات المتحدة الأمريكية، حتى لو كانت كلفة هذا الاستثمار ضخ 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة بعد العدوان.
- في حالة الإخوان المسلمون: يُعرف تنظيم الإخوان المسلمون بأنه تنظيم مصري بالأساس، وبالتالي فإن أي مسعى لأي دولة حول العالم لغرض مكافحة هذا التنظيم يجب أن يبدأ من مركزه المصري. وفي حين أن مصر نفسها قد اتخذت قراراً واضحاَ منذ عام 2013 بالقضاء على التنظيم وعلى كافة تشكلاته وهياكله السياسية والمالية والاجتماعية، فإن ميدان عمل مشترك كان جاهزاً لمسيرة العلاقات المصرية الإماراتية.
فالإمارات لديها مشروع واضح مفاده مكافحة التنظيمات الإرهابية والأفكار المتطرفة التي تهدد استقرار المنطقة وتأخذ بيدها خطوات للخلف في بيئة دولية محمومة بالمنافسة ولن يمكن لأي دولة أن تتمكن من استكمال مسيرة نهضتها في الوقت الذي يوجد تنظيم متطرف على عتبتها، ولهذا السبب فإن الإمارات أدرجت الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً عام 2014 .
وقد سهلت هذه الإجراءات من ملاحقة التنظيم وتضييق الخناق على أعضائه وحركة أمواله. إلا أن مظهر الأهمية في هذا التعاون المشترك لمكافحة الإخوان المسلمين أنها المرة الأولى التي تتلاحم فيها دولتان بالشرق الأوسط لمكافحة التنظيم العالمي الذي كان يضغط على دول المنطقة عبر استدعاء القوى الدولية من نافذة (حقوق الإنسان والديمقراطية)، إلا أن القرار المصري الإماراتي شكل سابقة شجاعة تمت صياغتها في الشرق الأوسط بشأن إدارة تهديد قائم تجاه المنطقة، والدولتين في هذا الشأن قد تجاهلتا أي ضغوطات دولية ممكنة، ولسان حالها في ذاك الشأن ( أن الدول الداعمة للتنظيم لا يطالها الضرر الذي يطالنا في هذه المنطقة وبالتالي فإننا سنقوم بمكافحته مهما كان موقف هذه القوى). أو كما تم ترجمة هذا النهج إماراتياً في الخطاب الذي ألقاه وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد في (القمة العربية الإسلامية الأمريكية) مايو 2017 بالقول، (أن القيادات العربية والإسلامية أكثر حرصاً من الأوروبيين والغربيين في مكافحة الإرهاب، وأن هناك دول تود استمرار الفوضى في منطقتنا) [7] وهي نفس الرسالة التي وجهها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للقادة الأوروبيين الحاضرين القمة العربية الأوروبية في شرم الشيخ فبراير 2019 بالقول ( أن مدينة شرم الشيخ محل لقائنا هذا تتوقف تماماً إذا ما تم شن عملية إرهابية)[8] مشيراً أن الأوروبيين لا يحسنوا إدراك ذلك، وهو ما دفع دول بالمنطقة مثل مصر والإمارات لأخذ زمام المبادرة وصناعة قرار في الشرق الأوسط بمواجهة كافة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة وعلى رأسها الإخوان المسلمين، دون الرضوخ للضغوطات الأجنبية القادمة من خارج الشرق الأوسط، وهو القرار الذي مر عبر جهود مصرية إماراتية مشتركة بما ترتب عليه نتائج ممتازة بشأن تجفيف مصادر الدعم الشعبي والمالي والفكري للجماعة وبما دفع بها نحو طور الفناء التدريجي بما يصب في مصلحة هذه المنطقة من العالم. وهي نفس الجهود التي كان لها صدى في الحالة السودانية كذلك.
بدا أننا أمام نموذج للعلاقات المصرية الإماراتية قد يصح وصفه بالمصطلح الدارج (الرفاق في السلاح Brothers in Arms ) والذي يعني من ضمن ما يعني أن الطرفين يقاتلان على جبهة واحدة، وكل منهما يقدم الإسناد للأخر بالاعتماد على ما يتوافر له من إمكانيات، وبما يستطيع أن يصل له مستخدماً ما يتوافر له من نفوذ. وأمام حالة من المرونة التي تملك القدرة على تجاوز المعادلات الصفرية نحو الحلول الواقعية وإعادة الضبط المستمر حسب المستجد من التحولات المفاجئة، خصوصاً إذا توافرت أرضية من الثقة المتبادلة والمصلحة الاقتصادية المشتركة التي تجعل الفِكاك من التحالف أمراً صعباً، بل تجعل مستوى المراوغة فيه شبه معدوم.
مراجع
[1] محمد بن زايد يقلد الرئيس المصري ” وسام زايد”، https://bityl.co/8EH1
[2] خبراء ومختصون: 6 قطاعات تقود الاستثمارات الإماراتية في مصر خلال السنوات الخمس المقبلة hhttps://bityl.co/8EK1
[3] https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/CHHJ8102-Egypt-and-Gulf-RP-WEB_0.pdf
[4] https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/CHHJ8102-Egypt-and-Gulf-RP-WEB_0.pdf
[5] محمد بن زايد يشهد مهرجان العلمين للهجن، https://bityl.co/8EK2
[6] رسائل دعم من الإمارات والسعودية للموقف المصري بشأن ليبيا https://bityl.co/8EK4
[7] الشيخ عبدالله بن زايد: الدول العربية أكثر حرصا من الأوروبيين لمواجهة التطرف والإرهاب، https://www.youtube.com/watch?v=SiITyM0LFgY
[8] كلمة السيسي في ختام القمة العربية الأوروبية، https://www.youtube.com/watch?v=y3QZS7Kl1qM