خبر
تتسارع وتيرة الأحداث في تونس في الأسابيع الأخيرة على كافة المستويات، لتأتي ذروتها السياسية عبر حزمة القرارات التي أعلنها الرئيس التونسي، قيس بن سعيد، على مدار اليوميين الماضيين، والتي كان أبرزها تجميد عمل البرلمان لمدة شهر ورفع الحصانة عن اعضاءه تمهيداً لفتح تحقيقات حول شبهات فساد ملياريه على مدار السنوات الماضية، وكذلك إقالة حكومة هشام المشيشي الائتلافية، وإعلان تعطيل العمل بالمؤسسات الرسمية لمدة يومين وكذلك حظر التجوال لمدة شهر، وإعفاء عدد من المسؤولين بينهم مسؤولين أمنيين وعسكريين على رأسهم وزير الدفاع، والأهم توليه بصفته رئيس للجمهورية التونسية رئاسة النيابة العمومية للبدء في التحقيق مع متهمين بقضايا فساد في مختلف قطاعات الدولة، وكذلك أحزاب تونسية على رأسها حزب النهضة.
وتأتي هذه القرارات وفق الدستور التونسي، حيث تتيح المادة 80 لرئيس الجمهورية تجميد وظائف وصلاحيات البرلمان حال تعرض البلاد لـ”خطر داهم”، لمدة 30 يوم، دون حل البرلمان أو تجديد فترة التجميد من قِبل رئيس الجمهورية واستمرار انعقاده بشكل دائم خلال نفس المدة، وهي النقطة الخلافية التي يفصل في تفسيرها المحكمة الدستورية التي عطلت حركة النهضة/الإخوان المسلمين تشكيلها منذ عهد الرئيس التونسي السابق، باجي قايد السبسي، والتي لم تُشكل حتى كتابة هذه السطور ومثلت أحد أبرز محاور الخلافات بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والبرلمان في تونس خلال الفترة الأخيرة، والتي شهدت بدورها تدهور اقتصادي واجتماعي واحتقان سياسي غير مسبوق، فاقم من أثرهم انهيار القطاع الصحي في البلاد وتسجيل رقم وفيات قياسي ناتج عن تفشي وباء كورونا.
وأصدر رئيس الحكومة المُقال، هشام المشيشي، بياناً مساء أمس الأول، أقر فيه بفحوى ما جاء في تصريحات وبيانات بن سعيد الخاصة باستشراء الفساد والمخاطر الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تعرضت لها تونس وأبرزها تداعيات أزمة كورونا وخطر إفلاس الدولة، وإعلان المشيشي استعداده لتسليم مهامه وسلطته لمن يختاره الرئيس، معلناً الاصطفاف مع ما أسماه بـ”إرادة التونسيين”.
ردود فعل
وبخلاف بيان المشيشي، أتت ردود فعل كتلة النهضة وقلب تونس معترضة على قرارات بن سعيد، واصفة إياها بـ”الانقلابية” والمخالفة للدستور، وهو ما انعكس في دعوة رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة، لأنصاره بالحشد المضاد للحشود التي خرجت بشوارع مختلف المدن التونسية مرحبة بقرارات الرئيس التونسي، والتي ذهب بعضها للهجوم على مقرات النهضة، وبداية اعتصام في محيط مقر البرلمان، وهو ما سرعان ما أنفض عقب انسحاب الغنوشي منه عقب منعه من قبل قوات حماية البرلمان من الدخول إلى مقره ليلة أمس الأول، ويعلن رئيس أمس استعداده للمشاركة في حوار وطني والقبول باحتمالية انتخابات تشريعية مبكرة.
بالمقابل، بدت الاستجابة لدعوات التظاهر والاعتصام التي دعا لها حزب النهضة متواضعة بجانب الميّل الغالب لمختلف القطاعات النخبوية والشعبية مع قرارات قيس بن سعيد، لا سيما مع تفاقم الأزمة الصحية والاقتصادية الناتجة عن حالة الاحتقان والجمود الدائرة في تونس منذ أواخر العام الماضي، والتي لم تفلح في حلحلتها على مدى الشهور القليلة الماضية المساعي والاتصالات الداخلية والخارجية، والتي كان أخرها حزم مساعدات متنوعة قدرها البعض بحوالي مليار ونصف دولار أميركي، شابت طرق صرفها شبهات فساد ومحاباة من وزراء ومسؤولين ونواب شعب تحصنوا بحصانتهم البرلمانية.
وتراوحت مواقف الداخل التونسي ما بين التأييد المطلق وبين التماهي المشروط بخارطة طريق وسقف زمني للإجراءات الاستثنائية التي اتخذها بن سعيد والوقف مسافة وسط بينه وبين النهضة وقلب تونس، لا سيما بعد أن عقد الأخير سلسلة من الاجتماعات مع مختلف القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في تونس، وعلى رأسها الاتحاد العام للشغل، الذي طالب في بيان بعد الاجتماع بـ”ضمانات دستورية” لعدم تمديد فترة تجميد البرلمان لما يزيد عن 30 يوم، وهو السمت العام الذي تدور حوله مختلف المواقف في الداخل التونسي بخلاف اعتراض النهضة وقلب تونس -الذي يترأسه نبيل القروي منافس بن سعيد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة- على القرارات الأخيرة ومن يدور في فلكهم من أحزاب أقل.
خارجياً، شرعت الخارجية التونسية بإجراء اتصالات على مختلف الاتجاهات شملت الجامعة العربية والاتحاد الافريقي والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بالإضافة للاتحاد الأوربي الذي دعا في بيان مساء أمس إلى “المحافظة على المكتسبات الديموقراطية واستقرار البلاد كأولوية قصوى”، والدعوة لاستئناف النشاط البرلماني في أقرب وقت.
وأصدرت الخارجية التونسية بيانات متواترة عن مجمل الاتصالات والمشاورات التي أجريت خلال اليومين الماضيين، والتي أتت بهدف توضيح تطورات الأحداث والقرارات الأخيرة، وكذلك التشاور حول سُبل الدعم الممكنة لتجاوز تونس لأزمتها، وخاصة مع مصر والسعودية والكويت وتركيا، التي عبر وزير خارجيتها عن دعمه للاستقرار في تونس وتغليب مصالح الشعب التونسي فيما يخص الأزمات العاجلة التي يمر بها وعلى رأسها أزمة كورونا.
وأتت ردود الفعل الدولية على تطور الأحداث الأخيرة في تونس لتتراوح بين الترقب الحذر وبين الدعم لقرارات الرئيس التونسي، لا سيما مع دخول واشنطن على خط الأزمة، واعتبار الخارجية الأميركية وعدد من العواصم الأوربية على رأسها باريس وبرلين، أن ما يحدث في تونس “ليس انقلابا”، داعيين في الوقت ذاته للحفاظ على الديموقراطية واستمرار الحوار بين الفرقاء التونسيين.
استشراف ودلالات
وحسب مراقبين ومتخصصين بالشأن التونسي وشمال أفريقيا، فإن هذا المسار الذي بدأ بقرارات بن سعيد الأخير والتي ركزت جُل السلطات في يده، يمهد -نظرياً- للاستفتاء على تعديل دستوري يختص بإنشاء وتنظيم المحكمة الدستورية، وتعديل صلاحيات رئيس الجمهورية والبرلمان وكذلك رئيس الوزراء، ثم تعديل قانون الانتخابات ثم اجراء انتخابات برلمانية جديدة، تفضي بدورها إلى تشكيل حكومة جديدة بدلاً من حكومة تصريف الأعمال التي من المفترض أن يتولاها سعيد كبديل عن حكومة المشيشي، وهو ما يعني خارطة طريق بسقف زمني 30 وهي المهلة التي يقرها الدستور التونسي لتجميد صلاحيات البرلمان.
وتؤكد ردود الأفعال الخارجية إقليماً ودولياً أن هناك اتفاق تجاه الحيلولة دون تحول تونس لدولة فاشلة على غرار ما حدث في ليبيا، وأن لا تسير التجربة الديموقراطية في تونس وفق اعتبارات هوياتية وجهوية على غرار ديموقراطية لبنان الطائفية وضعف الدولة ومؤسساتها، ومن ثم فقدان تونس الحديثة لأحد أهم الأسس التي قامت عليها منذ مؤتمر المجلس القومي التأسيسي المؤتمر عشية الجلاء الفرنسي 1956، وهو ان تكون مستقلة في قرارها الداخلي بعيداً عن الاستقطابات الخارجية وانعكاساتها الداخلية، وليس شبه دوله تستباح من قوى إقليمية ودولية استغلالا لمناخ الاستقطاب المزمن الذي دفعت نحوه الطبقة السياسية الحالية بكل تركيبتها وعلى رأسهم حركة النهضة، التي باتت بعد ما يقارب من 10 سنوات في السلطة تتراجع من حيث الشعبية، وذلك لإخفاقها في إدارة أزمات تونس بعيداً عن التجاذبات الاستقطابية والهوياتيه خاصة في ظل أزمات اقتصادية وصحية لم تشهدها تونس منذ أواخر القرن ال19.
وبشكل عام، سيتضح خلال السقف الزمني المحدد بـ30 يوم المسار الذي ستسلكه التطورات القادمة في تونس، لا سيما عزم بن سعيد البدء في مرحلة محاسبة شاملة على كافة المستويات التنفيذية والتشريعية والحزبية، وما يصاحب ذلك من قرارات وتغيرات ضمن خارطة طريق تستهدف التسوية وحل أزمات البلاد العاجلة، ومدى تعاطي النهضة وقلب تونس مع السابق بالتصعيد أو التهدئة.