خبر
وصل إلى بغداد الإسبوع الماضي، الرئيس عبدالفتاح السيسي، والعاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، لعقد قمة ثلاثية بمشاركة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وذلك للتباحث في عدة محاور ركيزتها ما سُميَ إعلامياً بمشروع “الشام الجديد“، وهو المشروع الاقتصادي الضخم الذي يصفه البعض بالتحول الجيوسياسي الأبرز في المنطقة منذ عقود.
ومن ضمن محاور هذا التلاقي الثلاثي ومخرجاته، بحث سُبل وقف التدخلات الإقليمية في الدول العربية، وعلى رأسها التدخلات التركية في كل من العراق وسوريا وليبيا وغيرها، وهو ما دفع بأن يكون هذا المحور ضمن أولويات القمة الوشيكة، خاصة مع ازدياد وتيرة الانتهاكات التركية للحدود العراقية بشكل منهجي.
وتشن القوات التركية عملية عسكرية شمال العراق منذ حوالي شهرين نتج عنها تهجير سكان أكثر من 70 قرية في مناطق متفرقة في العمق العراقي وليس فقط المناطق الحدودية، وهي العمليات العسكرية التي تأتي ضمن منهجية تركيا في اتباع سياسة قضم متواصلة للأراضي العراقية، وما أعقب ذلك من تعزيز لتواجد أنقرة العسكري والسياسي والاجتماعي والثقافي في هذه الأراضي التي يصفها ساسة ومسؤولين أتراك بـ”مناطق رمادية”.
ويأتي هذا في سياق ربط مصر وتيرة حوارها التدريجي مع تركيا البادئ منذ أواخر العام الماضي، بسياسات الأخيرة الإقليمية خاصة في ليبيا؛ حيث ارجئت القاهرة التقدم في جولات حوارها الاستكشافي مع أنقرة عقب محاولات الأخيرة الالتفاف على التفاهمات المتعددة ثنائياً واقليمياً ودولياً المرتبطة بالشأن الليبي، والتي كان أخرها محاولة استثناء خروج قواتها من ليبيا ضمن بيان مؤتمر برلين2 الختامي.
وكانت الجلسة الختامية لمؤتمر برلين2 قد شهدت محاولة الوفد التركي تعديل البيان الختامي وتحديداً الفقرة الخامسة المتعلقة بخروج المرتزقة والقوات الأجنبية، وذلك بحذف عبارة “القوات الأجنبية”، وهو ما اعترضت عليه الوفد المصري وتبعه باقي الوفود، والاكتفاء بإصدار البيان مع تحفظ الوفد التركي على ذات الفقرة.
خلفية
ومنذ مطلع الشهر ذاته عمدت أنقرة إلى خطوات في كل من ليبيا والعراق اعتبرتها مصر التفافاً على التفاهمات الحاكمة لحوارهما التدريجي، وكذلك تصاعد لهجة بعض المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم مستشار الرئيس التركي، ياسين اقطاي، الذي شن هجوم ضد الإدارة المصرية بعد حكم قضائي على عدد من جماعة الإخوان المسلمين.
وتُصر القاهرة على محددات رئيسية في حوارها مع أنقرة على المستويين الثنائي والإقليمي، وخاصة فيما يتعلق بسياسات الإدارة التركية في دول جوارها العربي، سوريا والعراق، وكذلك في ليبيا حيث ارتباطها بالأمن القومي المصر، والتي شهدت عاصمتها زيارة مفاجئة غير معلن عنها وغير رسمية لوزير الدفاع التركي مطلع الشهر الجاري، حيث زار مقرات ومواقع تمركز القوات التركية هناك والمليشيات التابعة لها، وهو ما يُعد خرقاً لحزمة التفاهمات الخاصة باستعادة شكل وسيادة الدولة في ليبيا كأحد المحطات الرئيسية في خارطة طريق تسوية الأزمة الليبية.
وتداولت وسائل إعلام عربية وتركية وأجنبية أنباء عن تعليق المحادثات بين مصر وتركيا لأجل غير مسمى، وذلك على خلفية خطوات الأخيرة السابق ذكرها، والتي عكست توجهاً مفاده تعجل أنقرة الوصول إلى تفاهمات مع القاهرة خاصة بغاز شرق المتوسط، ورهن هذا بالمضي قدماً في تنفيذ خارطة الطريق في ليبيا، وهو الأمر الذي لم تتعاطى معه الأخيرة كونه نهج تركي معتاد في قلب طاولة الحوار وإعادته وفق محددات تتناسب مع أولويات الإدارة التركية وكذلك حساباتها الداخلية.
وباستثناء أقطاي والإخوان، فإن تصريحات المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تعكس تودد مفرط تجاه مصر، ولكن على أرضية ملفات ثنائية مثل التعاون الاقتصادي بين البلدين الذي يشهد طفرة خلال الأعوام القليلة الماضية، وهو ما يعكس رغبة تركيا في أن تعدل الإدارة المصرية من محددات الحوار معها، وذلك عبر تخفيف القاهرة لموقفها الصلب تجاه سياسات التدخل التركي في الدول العربية وكذلك دول حوض المتوسط مثل اليونان وقبرص، وتوقفها بشكل مستدام كمطلب أساسي لاستئناف ومن ثم تطوير الحوار بين العاصمتين.
خُلاصة واستشراف
تعكس مجريات الأحداث الأخيرة، وعلى مختلف الأصعدة والملفات، بين مصر وتركيا أن دفع الأخيرة بالإسراع في إنفاذ استدارتها الإيجابية تجاه الأولى، بالترغيب والتودد تارة، وبالتهديد بقلب طاولة الحوار وتفجير الوضع في ليبيا تارة أخرى، أن الإدارة التركية لاتزال مستمرة في سياسة مفادها استخدام ورهن ليبيا كورقة متعددة الاستخدامات في محاور سياساتها الخارجية على مستوى إقليمي ودولي، وكذلك علاقاتها مع واشنطن وموسكو وعواصم أوربية وازنة مثل باريس، بينما تضع القاهرة استعادة الدولة وتكريس الاستقرار في ليبيا كأحد توجهاتها الخارجية النابعة من محددات أمنها القومي، وليس كطموح توسعي يستهدف استدامة حالة الفوضى واللادولة التي تعاني منها ليبيا ومن ثم توظيفها على النحو السابق.
وتدل ردة فعل مصر تجاه خطوات تركيا الأخيرة في ليبيا أنها تسير وفق أولوياتها وتوقيتها وليس توقيت الأولى أو غيرها، وهو ما يعني أن تجميد الحوار مع الإدارة التركية يحمل رسالة ضمنية لأنقرة وغيرها من العواصم الفاعلة إقليمياً وكذلك واشنطن، مفادها أن القاهرة تستطيع إدارة اتجاهات سياساتها الخارجية المتعددة والصعبة من سد النهضة والبحر الأحمر، إلى غزة وشرق المتوسط– بتمكن وقدرة تمكنها من تضفير قفزاتها المستحدثة، مثل مشروع الشام الجديد، بأولويات ومحددات أمنها ومصالحها، سواء كان ذلك بشكل منفرد، أو عبر تحالفات مرنة ومستحدثة تشكل قاطرة للسياسات الإقليمية في المستقبل المنظور.
ويتجلى السابق في قدرة نفاذ مصر لساحات وملفات مثل خطوط الطاقة وإعادة الإعمار وإدارة وتقاسم النفوذ في المناطق الرخوة كشمال سوريا والعراق، عبر تفاهمات وتحالفات متعددة الاتجاهات أحد ركائزها تقويض جموح تركيا وانهاء سياساتها الخارجية التوسعية ونتائجها الكارثية على مدار العقد الماضي؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر وكأحد تفرعات مشروع الشام الجديد، يمثل خط أنابيب البصرة-العقبة-نويبع وتطويره ضربة لطموح تركي في التحكم ببترول العراق، حيث تصديره شمالاً عبر خط انابيب واصل من كركوك لميناء جيهان، وهو ما يعني في الصورة العامة استحداث القاهرة لأوراق قوة وتفاوض إقليمية جديدة في حوارها مع أنقرة.