وضعت العملية العسكرية أوزارها في فلسطين، إلا أن الشخص الوحيد الذي قد يكون تمنى ألا تنتهي هذه العملية هو الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، حيث انتهاء الحرب قد يؤشر لبدء مرحلة جديدة من نضال الفلسطينيين ليس تجاه الاحتلال الإسرائيلي فقط بل نضالاً سياسياً شعبياً موجهاً ضد أبو مازن نفسه، الذي يراه الفلسطينيون عبء على قضيتهم ورئيس مفيد لإسرائيل.
يرى الفلسطينيون أن النهج الذي يتبعه أبو مازن في إدارة قضيتهم لا يختلف كثيراً عن ذاك النهج الذي تتبعه إسرائيل، للأسباب التالية:
- يضع أبو مازن مصلحته الشخصية في المقام الأول قبل مصلحة البلاد، وهو ما اتضح في التسجيل المسرب لاجتماعه الأخير مع اللجنة المركزية لحركة فتح حيث لم يكن الرجل مهموماً لا بالقدس ولا بقضية بلاده بقدر ما كان مهموماً بمستقبله السياسي. [1]
- الدور الذي يمارسه أبو مازن في تعميق الانقسام الفلسطيني، فالرجل لم يقم باللازم من أجل التصدي للقرار الإسرائيلي بمنع إجراء الانتخابات في القدس المحتلة، وكأن القرار قد جاء له على طبق من ذهب لِعلمه أنه لن يستطيع تحصيل الفوز في الانتخابات[2]، فقام بتفضيل تأجيل الانتخابات دون أدنى جهد منه لإقناع الإسرائيليين ولا المجتمع الدولي بإجراء الانتخابات في القدس، حتى لو أن هذا التأجيل يعني من ضمن ما يعني الإبقاء على الانقسام الفلسطيني، وهو الانقسام الذي كان أبو مازن متواجداً في القلب منه بشكل أضر القضية الفلسطينية طوال الأعوام الستة عشر الفائتة، وسيتسمر هذا الضرر قائماً باستمرار وجود أبو مازن.
- كان موقف أبو مازن من العدوان الإسرائيلي الأخير هو التحول الأكبر الذي أسهم في انفجار الغضب الفلسطيني المكتوم والمتراكم بما دفع الفلسطينيين نحو الهتاف عالياً لأول مرة (الشعب يريد إسقاط النظام). وطرد مفتي السلطة الفلسطينية من على منبر المسجد الأقصى أثناء ترديد هتاف (السلطة برا برا)[3]. ومن راقب هتافات الفلسطينيين في داخل المسجد الأقصى أو في المدن الفلسطينية التي اندلعت فيها التظاهرات الرافضة والمنددة بأبومازن سيلحظ أن هناك غضباً مكتوماً قد وجد له متنفساً بانتهاء العدوان، وبضعف الدور الذي قام به الرئيس الفلسطيني أثناء هذا العدوان بشكل وصفه المقدسيين بالخيانة. ومن المحتمل أن يظل هذا الغضب مشتعلاً في الجهة التي لا يود لا الإسرائيليين ولا أبو مازن أن يظل مشتعلاً فيها، أي في جهة الضفة والقدس، وهما هنا – أي أبو مازن وإسرائيل- يتشاركان سوياً للمرة الثالثة نفس القلق ونفس الأهداف.
بالإشارة إلى ما سبق، فإننا أمام سلطة فلسطينية لا تستطيع إطلاقاً قيادة زمام القضية الفلسطينية، بل باتت تمثل عبء على هذه القضية التي لا تؤثر فقط على مستقبل فلسطين بل على مستقبل المنطقة كلها، وهو ما يمكن تأكيده في التالي:
- أن كافة الأطراف الدولية والإقليمية التي تفاعلت وتوسطت أثناء الحرب الأخيرة قد فتحت لها خطوط اتصال مع حماس وليس مع السلطة الرسمية. هذا القفز الدولي والإقليمي على مهام السلطة الفلسطينية لم يكن من فراغ، حيث جاء انطلاقاً من خبرة السنين الماضية منذ رحيل الرئيس عرفات، وهي الخبرة التي تقول إن أي تواصل مع أبو مازن ليس سوى مجرد مضيعة للوقت والأرواح، ولقيمة القضية الفلسطينية، فالرجل يُركز على المكسب الشخصي قبل العام، وعلى التنظيمي قبل الوطني، ولا يملك أي أدوات تُمكنه من دعم جهود الوسطاء الدوليين أو الإقليميين، أو الضغط على الإسرائيليين. لذلك فإن تل أبيب تفضل دائماً أن يكون التواصل من خلال أبو مازن كونها تستفيد من الرجل وضعفه وسهولة السيطرة عليه وبالتالي على مسار القضية الفلسطينية، عِوضاَ عن أنها تدرك أن تطلعاته شخصية وحزبية غير وطنية، وبالتالي تستطيع تمرير ما يُرضيه بغض النظر عن أي ضرر قد يطال القضية الفلسطينية. لذلك لم يكن مستغرباً قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “إيهود أولمرت” بوصف أبو مازن في إحدى مقابلاته مع محطة روسيا اليوم الفضائية قائلاً ( لا يمكن أن يكون هناك عدو أفضل من أبو مازن) [4]. فالرجل لم يعمق الانقسام الفلسطيني فقط بل كان السبب في انقسام حركة فتح نفسها التي دخلت الانتخابات بـ3 قوائم. ما يعني أن سياسات أبو مازن لم يترتب عليها ظهور حالة تشتت على مستوى فتح بل أن الرجل حتى لو رحل فإنه سيترك من خلفه إرثاً من التفسخ والصراع داخل أهم حركات التحرر الفلسطينية، بما سيجعل هذه الحركة تغوص لفترة طويلة في مستنقع من الخلاف على القيادة، بما سيؤثر سلباً على إدارة القضية الفلسطينية بالتبعية لبعض من الوقت.[5]
- المتابع للإعلام الدولي سيكتشف أن الجميع كان حاضراً في قلب تغطية الصحف والمؤسسات الإعلامية العالمية للعملية العسكرية الأخيرة، سواء الفلسطينيين كشعب أو الفصائل الفلسطينية. إلا أن الغائب الوحيد أثناء هذه التغطية كان الرئيس الفلسطيني نفسه. ومن المؤكد أن هذه الصحف لم تتعمد تغافل الحديث عن الرئيس الفلسطيني بقدر ما أنها تعاملت مع أمر واقع يُفيد عدم حضوره وفاعليته وانعدام قيامه بالدور المطلوب في إدارة قضية بلاده أو القيام بكل ما من شأنه صد العدوان. فالواقع يقول إن من عرض شروط وقف إطلاق النار من الجانب الفلسطيني لم يكن الرئيس، ومن استعرض مآسي الفلسطينيين أثناء العدوان لم يكن الرئيس، ومن خاطب المجتمع الدولي أثناء العدوان لم يكن الرئيس، ولما أراد المجتمع الدولي نفسه التواصل مع الفلسطينيين فإنهم تواصلوا عبر وسيط مثل مصر.
- أصبح المقدسيين أكثر وعياً بحقيقة أن أبو مازن يستغل قضيتهم بنفس الدرجة التي تستغلها إسرائيل، وأنهم باتوا أشبه بــ”الشماعة” التي يُعلق عليها أبو مازن إخفاقاته.[6] ولذلك لم يكن مستغرباً تصاعد الرفض الشعبي في القدس لسلطة أبو مازن ومفتي السلطة الفلسطينية. فالمقدسين كانوا متطلعين لإنهاء سلطة أبو مازن عبر الانتخابات التي كان من المقرر عقدها، وهو الأمر الذي كان على مشارف التحقق بالفعل لولا قيام أبو مازن باستغلال قضية المقدسيين كونها مدينة محتلة وكون إسرائيل قد رفضت اجراء الانتخابات فيها، وبالتالي قرر أبو مازن تأجيل الانتخابات حتى لو على حساب أجساد المقدسيين وتطلعاتهم لقدوم حكومة فلسطينية لحل وضعهم المعقد وتفسخهم ما بين أنانية السلطة الفلسطينية وسوءات الاحتلال. في الوقت الذي لم يستمع فيه أبو مازن لأي مقترح من المقدسيين كان شانه خلق بدائل لاستمرار الانتخابات بأي شكل كان، كوضع صناديق اقتراع في أزقة البلدة القديمة، أو إجراء تصويت إلكتروني[7]. خصوصاً أن العدد القليل جداً من الناخبين الفلسطينيين الذين يحتاجون لإذناً اسرائيلياً قبل التصويت لن يكون لحجم أصواتهم تأثيراً سلبياً على التصويت. ليُثبت أبو مازن مع كل تحرك أو قرار يتخذه أنه ليس سوى عبء على شعبه وقضية بلاده.
مظهر الاختلاف هذه المرة وجود ترجمة للغضب المكتوم في الشارع الفلسطيني عموماً والمقدسي خصوصاً تجاه سلطوية أبو مازن وتدميره للقضية الفلسطينية وتحوله لرديف مفيد لإسرائيل من حيث كونه الرئيس الفلسطيني الذي يُعبد مسار الانقسام ويفرشه بالورود، وكونه الرئيس الفلسطيني أيضاَ الذي يقوم بتقزيم القضية الفلسطينية في شخصه، وهي القضية التي كانت يوماً ما الشغل الشاغل لشعوب وحكومات المنطقة والعالم، ومن حيث كونه الرجل الذي جعل فلسطين بلا دولة مؤسسات بما أثر على علاقات فلسطين الإقليمية والدولية، وبالتبعية على مسار القضية وإدارتها حيث لم يعد هناك طرف قوى يمثلها. ولسان حال الساعين إلى حل القضية هو (في حالة رغبتنا مخاطبة الفلسطينيين فمع من نتواصل)؟
مراجع
[1] تسريب صوتي لأبو مازن أثناء اجتماع اللجنة المركزية لحركة فتح https://www.youtube.com/watch?v=c_11IF2DIPI
[2] Analysis | Postponing of Palestinian Election Proves Abbas Is Closer to Israel’s Interests Than His Own People ، صحيفة هاارتس الإسرائيلية، https://www.haaretz.com/middle-east-news/.premium.HIGHLIGHT-postponing-of-election-proves-abbas-is-closer-to-israel-s-interests-1.9763003
[3] متظاهرين يطردون مفتي السلطة الفلسطينية من المسجد الأقصى https://www.youtube.com/watch?v=85Zfwx8PTTI
[4] لقاء إيهود أولمرت مع فضائية روسيا اليوم https://www.youtube.com/watch?v=xn9i0bTIrn0
[5] “The Day After” Abu Mazen is Already Here معهد بيجين- السادات، https://www.inss.org.il/publication/the-day-after-abbas/
[6] Implications of Postponing Palestinian Elections، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدني، https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/vote-or-not-vote-implications-postponing-palestinian-elections
[7] بدائل يمكن للمقدسيين أن يصوتوا من خلالها، وكالة قدس للأنباء ، https://www.qudspress.com/index.php?page=show&id=68110