خلفية
شهدت الأيام الماضية حادثاً ملفتاً، وذلك عندما قام عدد من الرهبان الأثيوبيين باقتحام ساحة دير السلطان بالقدس عشية عيد القيامة.
بدأت الحادثة الأخيرة كاستفزاز روتيني من جانب الرهبان الاثيوبيين يتجدد كل عام خاصة في مواسم الأعياد المسيحية، ولكن الجديد هذا العام هو قيامهم برفع علم بلادهم على باب الدير الرئيسي، ونصب خيام في الساحة المقابلة له كأحد مظاهر “احتفالهم” عشية عيد القيامة، وهو ما دفع الرهبان المصريين بالاعتصام وإزالة العلم من على باب الدير، وهو ما رد عليه الرهبان الأثيوبيين بالاعتداء على الرهبان الأقباط.
ما هو دير السلطان؟
تاريخياً، تعود علاقة الكنيسة القبطية بدير السلطان إلى بدايات إعمار هذا الجزء من بلدة القدس في القرن الثالث الميلادي، إبان عهد الأمبراطور قسطنطين، حيث بدأت والدته الأمبراطورة هيلانة بالإشراف على بناء كنيسة القيامة، وكذلك عدد من الأبنية الدينية بما فيها الكنيسة المسماة على أسمها، وهو ما انخرط فيه الرهبان الأقباط بشكل فاعل وتمركزهم في الممر الرابط بين الكنيستين والذي يعتقد أنه موقع صلب المسيح، ليشكلوا أول تجمع ديني وسكني ما لبث إلى أن تحول إلى حي عُرف بـ”حي النصارى”، وهو ما شكل مرتكز التواجد المسيحي في المدينة طوال القرون التالية وحتى الحملات الصليبية، التي طردت الرهبان الأقباط من الحي وأديرته وكنائسه لما يزيد عن 80 عام، وإعادتهم بعد ذلك على يد صلاح الدين الأيوبي بعد استرداد القدس، وهو ما يرجح أن يكون سبباً في تسميته بدير السلطان نسبة إليه.
أما عن علاقة الرهبان الأثيوبيين والكنيسة الأثيوبية بالدير، فتعود لأواسط القرن السابع عشر الميلادي، حيث لجؤهم إلى أديرة وكنائس تابعة للكنيسة القبطية بعد احداث عنف نتجت عن ضرائب ورسوم فرضها العثمانيين على مختلف الطوائف المسيحية بالمدينة وطردهم من امكان تواجدهم في مختلف أحياء القدس، وتحول هذه الاستضافة بمرور الوقت إلى حق مكتسب من جانب الرهبان الأثيوبيين، ومن ثم نشوء عدة نزاعات مختلفة حول حدود علاقتهم بالدير حتى بعد الحرب العالمية الأولى، والتي تراوحت بين ادعاءهم ملكية الدير، وما بين السماح لهم بالإقامة في بعض من مساحته وفتح بابه وممره الرئيسي أمامهم.
وبعد احتلال إسرائيل للبلدة القديمة 1967، قامت بالتضييق على الرهبان الأقباط ومن ثم انتزاع أجزاء كبيرة من الدير وممراته وتسليم مفاتيحه للرهبان الأثيوبيين، الذين استحوذوا عليه بشكل كامل أواخر 1969، ومقاومة الرهبان المصريين لذلك في العاميين التاليين واستعادة جزء معتبر دعمه إقرار رسمي من لجنة شكلتها المحكمة العليا الإسرائيلية بملكية الدير للكنيسة القبطية، ولكن جاء قرار الحكومة الإسرائيلية منتصف 1971 بإبقاء الوضع كما هو عليه، مما حافظ على تواجد الرهبان الأثيوبيين فيه حتى كتابة هذه السطور، ومن ثم حدوث اعتداءات وصدامات من وقت لأخر وخاصة في أيام الأعياد والمناسبات الدينية كان ابرزها وأعنفها التي حدثت عام 2010 وأدت إلى إصابة عشرات الرهبان.
هل هناك علاقة بين اقتحام الرهبان الإثيوبيين للدير وأزمة سد النهضة؟
الربط بين اقتحام ساحة دير السلطان بالقدس، من جانب عدد من الرهبان الأثيوبيين عشية عيد القيامة، وبين احتدام الخلافات بين القاهرة وأديس أبابا فيما يتعلق بملف سد النهضة، قد يبدو منطقياً في سياقات سياسية تجمع العاصمتين السابقيتين وكذلك تل أبيب، وخاصة أنه للمرة الأولى في سلسلة اعتداءات وتجاوزات تعرض لها الدير ورهبانه الأقباط، أن تكون تحت شعار “دنيوي” سياسي يتمثل في رفع العلم الأثيوبي بدلاً من المصري على أسوار الدير، وهو الامر الذي شكل المشهد الرئيسي في الحادثة، والذي جعلها ليست مجرد احتكاك ناتج عن خلافات دينية أو تاريخية تتعلق بحيازة وملكية الدير وتبعيته للكنيسة المصرية، ومحاولات الكنيسة الاثيوبية مؤخراً، لدوافع كثيرة، الاتجاه لطرد الرهبان الأقباط منه برعاية إسرائيل، بعدما اقتصر في الماضي على ادعائها تبعيته وملكيتها له.
اللافت أيضاً هذه المرة هو حضور الشق السياسي المتعلق بماء النيل والخلاف بين مصر وأثيوبيا عليه في هذه الحادثة، وهو ما يعد طفرة في سلسلة الصدامات والاحتكاكات التي حدثت بين الطرفين والتي كانت في معظمها على خلفية تاريخية من حيث التنازع حول تبعية الدير وملكيته لأحد الكنيسيتين، وليس كأحد تجليات الصراع السياسي بين الدولتين.
وعلى الرغم من الادعاءات الاثيوبية المدعومة بأشكال رسمية إسرائيلية وصلت إلى حد اعتداء الأمن الإسرائيلي على رهبان مصريين في 2018، تنطلق من مسألة ملكية وتبعية دير السلطان لهم وليس للكنيسة القبطية المصرية، فإن تسيس الحادثة الأخيرة على خلفية من الاحتقان السياسي بين القاهرة وأديس أبابا أضاف بعداً جديداً لهكذا أزمة مستدامة متعلقة بدير السلطان، سواء كونها تأتي كطفرة في سلسلة حوادث الاعتداء والاقتحام بين الأحباش والأقباط، تجعل منها رافداً للخلافات بين العاصمتين، وأيضاً محاولة تل أبيب التحلل من مسؤوليتها عن أحداث العنف الممنهج الذي تمارسه في مدينة القدس بشكل عام.
السابق يأتي في سياق سلسلة من الأحداث تشي بنمط تعتمده الحكومة الإسرائيلية فيما يخص مقدسات البلدة القديمة بالقدس، وهو ما يمكن تلخيصه في تصدير تناقضات الاحتلال الإسرائيلي للبلدة للخارج، وتصوير الأحداث المشابهة على أنها ناتجه عن خلافات تاريخية مزمنة فاقمها مثلا الخلاف بين مصر وأثيوبيا وليس سياسات التضييق والعزل والعسف الممنهج الذي تمارسه إسرائيل في القدس ضد الجميع، كون أن الحادثة السابقة تأتي في سياق سلسلة حوادث عنف ومصادمات في القدس على مدار الأسابيع الماضية، أخرها اجلاء سكان حي الشيخ جراح، والذي تبرره إسرائيل بكونه أحد نتائج تعقيدات مسألة إشراف الأردن على المقدسات الإسلامية في القدس، وليس كما هو الواقع ناتج عن سياساتها الاحتلالية التعسفية.