لا يختلف اثنان على عمق الأزمات التي تواجهها مصر في اللحظة الراهنة، فالدولة ذات الـ١٠٠ مليون نسمة أمام مفرق طرق حقيقة لا مجاز. فمن أزمة سد النهضة التي تلقي بظلالها على ملف المياه الحيوي والحاسم في استقرار مصر ومستقبلها، مرورا بالأزمة الاقتصادية المزمنة والمشتبكة مع تداعيات تفشي فيروس كورونا المستجد، وليس انتهاء بمحاولة إعادة بناء الدولة المصرية على أسس جديدة بعد عقد كامل من ثورة يناير، وما جرته من تغيرات عميقة في الوعي المصري، فضلا عن مواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه، تبدو الملفات المكدسة أمام الدولة المصرية في غاية الصعوبة ولا يمكن التصدي لها إلا عبر استدعاء كامل رصيد مصر بمختلف قواها الناعمة والخشنة.
أمام كل هذه المصاعب لم يكن غريبا أن تتعالى الأصوات المطالبة بتوحيد الصفوف والوقوف خلف رجل واحد مع تنحية الخلافات والصراعات السياسية وكل مسببات الأزمات الجانبية، من أجل خلق حالة اصطفاف حقيقي، وحشد قدرات أكبر بلد عربي سكانا للخروج من مأزق خطير يتهدد كل فرد فيه. فهل هذا ممكن؟ وماذا يخبرنا التاريخ عن مثل هذه اللحظات التي مرت بها مصر عبر تاريخها الطويل؟ هل عندما تناغم أداء السلطة السياسية مع أداء طبقات الشعب خرجت البلاد من أزمتها؟ أم أن هذا كان رهنا بالظروف والمناسبات المختلفة؟ وكيف يمكن أن نبني نوعا من الاصطفاف وهل هذا ممكن وسط كل هذا الاستقطاب الذي نعيشه؟
ما هي طبيعة المخاطر والأزمات التي تواجه الدولة المصرية؟
يمكن القول إن الأزمات والمخاطر التي تواجه الدولة المصرية تنقسم إلى قسمين أساسيين، الأول وهو الأزمات المزمنة، والثاني يتعلق بالقضايا الطارئة التي ظهرت في أعقاب التغيرات العميقة التي مرت بها مصر والمنطقة بعد أحداث يناير 2011. فالأزمات المزمنة التي تواجه القاهرة تتلخص أساسا في ضعف بنية الاقتصاد المصري وهو أمر متوارث منذ عقود، في ظل ضعف القدرة التصنيعية للبلاد وزيادة سكانية مرتفعة مع تردي في البنية التحتية، وهي أمور تنتج ضغوطها الاجتماعية وتوفر بيئة خصبة للغضب الشعبي واستمرار حالة الإحباط والشعور بعدم الرضا العام، فضلا عن تكوين بؤر يمكن استغلالها من قبل تيارات وجماعات متطرفة.
ورغم أن الحكومة المصرية تبدو مهمومة بالملف الاقتصادي خلال السنوات الست الماضية، عبر تبنيها لخطة إصلاح اقتصادي صعبة ومرهقة بدعم من المنظمات الاممية المعنية، ورغم الإشادات الدولية بما تحقق في بعض المجالات، ومحاولات إعادة هيكلة الاقتصاد المصري ودفع عجلة الإنتاج للحركة، إلا أن هذه الإجراءات في مجملها كانت سببا في تراجع شعبية الحكومة ، خاصة أن الشرائح الأقل دخلا لا تزال تعاني من فاتورة الإصلاح الاقتصادي، في ظل فشل المنظومة الإعلامية الموالية في ترويج ما تحقق من إنجازات في مجالات مختلفة، وهو أمر اشتكى الرئيس السيسي منه أكثر من مرة علنا.
الأزمة الاقتصادية باعتبارها ثابت في قراءة المشهد المصري، أضيف إليها العديد من الأزمات المستجدة، فمثلا أدى تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19)، إلى تداعيات اقتصادية سلبية على العالم كله، ووجه ضربة قاسية لقطاع السياحة وهو أحد دعائم الاقتصاد المصري الرئيسية، إذ كانت المعدلات في تصاعد مع وصول 13 مليون سائح في 2019، بما يبشر بعودة القطاع إلى سابق عهده قبل 2011، إلا أن الجائحة وضعت حدا للتفاؤل وأدت لانكماش حركة السياحة العالمية، فلم تستقبل المقاصد السياحية المصرية إلا 3.5 مليون سائح في 2020.
ولا تقتصر الأزمات على الشق الاقتصادي فقط، بل هناك العديد من الملفات الخطيرة والمستجدة، والتي طرحت نفسها بقوة على مصر خلال العشر سنوات الأخيرة، ومن ضمنها ملف مكافحة الإرهاب، الذي دخلت الدولة المصرية في مواجهة شرسة معه منذ 2013، ورغم النجاحات الأمنية العريضة التي قلصت من نشاط الجماعات الإرهابية خصوصا في سيناء إلا أن بعض البؤر الإرهابية لا تزال نشطة، وهو ما ينقلنا إلى ملف الوضع في ليبيا، والذي فرض نفسه هو الآخر على صانع القرار المصري، بعد سقوط الدولة الجارة في الفوضى خلال العشرية السابقة، لكن التحركات السياسية الأخيرة في المشهد الليبي بالتوازي مع الانفتاح المصري على كل أطياف المشهد تبشر بهدوء في هذا الملف الحيوي لمصر.
أما أهم أزمة وجودية تواجه مصر في اللحظة الراهنة، فهي بلا شك أزمة سد النهضة الإثيوبي، ومسألة إدارة النيل الأزرق، في ظل تصريحات إثيوبية تتحدث عن نية واضحة لاحتكار القرار في أعالي النيل، والتحكم الكامل في النيل الأزرق، دون النظر إلى مطالب مصر والسودان بضرورة تقاسم إدارة النهر واحترام الحقوق التاريخية لدولتي المصب في حصصهما من نهر النيل، وهي أزمة خطيرة خاصة إذا علمنا أن مصر تعتمد على النيل في توفير معظم احتياجاتها المائية، إذ تقدر مواردها المائية بحوالي 60 مليار متر مكعب سنويا، تأتي معظمها من مياه النهر، في حين يصل إجمالي الاحتياجات المائية في مصر لحوالي 114 مليار متر مكعب سنويا، أي أن القاهرة تواجه أزمة مائية قبل أن يبدأ السد الإثيوبي في العمل.
أمام كل هذه التحديات والمتغيرات التي تضرب عميقا في المنطقة والعالم، يبدو أن الحديث عن خلق حالة من الاصطفاف الوطني الجامع، من الضروريات والأولويات التي يجب أن تجتمع عقول المصريين حولها من أجل خلق حالة من التوحد في مثل هكذا ظروف خصوصا فيما يتعلق بموضوع سد النهضة، وهنا لا تكون المسؤولية على جانب دون جانب، فالسلطة مطالبة بتبني مشروع جامع يستطيع أن يحتوي جميع الأصوات ويسمح لها بالتعبير عن نفسها لخلق حالة الاصطفاف المطلوبة، وهنا يأتي دور التاريخ الذي يقدم الكثير من الدروس والعبر والنماذج لحالات من كيفية المواجهة لأزمات وجودية واجهت مصر والمصريين وكيف كانت الاستجابة في محطات تاريخية عدة، وهل التناغم بين السلطة والشعب كان مفيدا لمواجهة التحديات؟ أم أن العدائية بينهما كانت فرصة استغلها أعداء الوطن في تحقيق أهدافهم عبر الشقوق في جدار المشهد المصري؟
كيف كانت العلاقة بين السلطة والشعب لمواجهة أخطار وجودية عبر الحقب التاريخية المختلفة؟
قد نعود إلى تاريخ مصر القديم ونرى الكثير من النماذج لخلق حالة من التناغم بين السلطة والشعب، مثلا نموذج المقاومة الذي قادته الأسرة السابعة عشرة لتحرير مصر من احتلال الهكسوس، فكان ملوك هذه الأسرة تعبيرا عن الرغبة الشعبية في طرد المحتل والتمثل الحقيقي لهذه الرغبة وصولا إلى التحرير على يد الملك أحمس والذي أسس أسرة جديدة على كامل الأرض المصرية، هنا نرى التناغم بين الشعب والسلطة في وحدة الهدف، فمقتل سقنن رع ثم ابنه كاموس لم ينل من عزيمة المصريين لأن مطلب التحرير كان محل إجماع واضح فلم تنكسر الإرادة الوطنية حتى مع الهزائم الأولية ومقتل قادة التحرير في الجولات الأولى.
إذا انتقلنا إلى العصور الوسطى، سنجد المشهد الافتتاحي لدخول العرب مصر، وهي واقعة ما كانت لتحدث بالسهولة التي يتمكن من خلالها نحو 12 ألف مجند عربي من السيطرة على إقليم يتجاوز المليوني نسمة، إلا بسبب انهيار الجبهة الداخلية، فالوقائع التاريخية تثبت أن المجتمع المصري بقيادة الكنيسة القبطية كان في مرحلة عداء مع كنيسة الإمبراطورية البيزنطية التي دخلت في صراع مع الشعب المصري لإجباره على اعتناق مذهب الدولة الرسمي، هذا الصراع دمر الجبهة الداخلية فلم يجد المصريون أي غضاضة في تسليم البلاد للعرب لأنهم قدموا شروطا أفضل للحكم، وهذا ما يفسر سهولة الفتح العربي لمصر، والذي ما كان ليتحقق لولا هذا الصراع الذي شهده المجتمع المصري من داخله عشية الدخول العربي.
وسنجد النموذج الأوضح في مواجهة الغزو المغولي، فالسلطة ممثلة في طبقة المماليك لم يكن من الممكن أن تواجه الخطر المغولي إلا من خلال واقع مجتمعي يشعر بالخطر وينحاز لخيار الدفاع عن الأرض عبر تقديم موارد مصر لتجهيز الجيش، ولكي يستطيع السلطان قطز الحصول على الدعم الشعبي لخيار الحرب كان ولا بد من تقديم تنازلات حقيقية أمام طبقات الشعب، فاستجاب لمطالب علماء الدين وفي مقدمتهم الشيخ العز بن عبد السلام، وتنازل عن ضرائب كان سيفرضها على الشعب لتجهيز الجيش، وأجبر أمراء المماليك على تقديم أموالهم وممتلكاتهم لتجهيز الجيش، وهي استجابة أتت مفعولها سريعا بالانتصار الكبير في عين جالوت الذي لم يكن ليتحقق لولا حشد موارد مصر وشعبها.
في المقابل، تبدو عدم الاستجابة لخطورة الأزمة كاشفة، وهنا أيضا يبدو نموذج من نهاية عصر المماليك، فالسلطان الغوري لم يستطع خلق حالة من الاصطفاف الداخلي قبل الذهاب لمواجهة العثمانيين في الشام، بل أن المصادر المعاصرة تحدثت صراحة عن انفلات المماليك وتجبرهم على الناس فكان العامة يدعون بزوال دولة المماليك، فضلا عن أن السلطان نفسه عرف بالبخل والجشع وحب جمع المال من الرعية بطرق غير شرعية أرهقتهم فتنموا زوال سلطنة الغوري، بل أن تردي الأوضاع الداخلية لم يمنع الغوري من فرض الضرائب الباهظة التي خلقت عازلا بين السلطة وطبقات الشعب، التي لم تجد أي مبرر في الدفاع عن دولة لا تمثلهم فكانت النتيجة الهزيمة في مرج دابق.
إذا انتقلنا إلى تجارب تاريخية أقرب عهدا، فنرى كيف استجابت القيادة السياسية ممثلة في رئيس حزب الوفد مصطفى النحاس للمد الشعبي الرافض للاحتلال الإنجليزي، وأعلن في العام 1951 إلغاء معاهدة 1936، استجابة لتيار شعبي جارف تمثل في نضال طلاب الجامعات والعمال، فضلا عن الفدائيين ضد قوات الاحتلال، فهنا كان القرار انحيازا صريحا للمزاج الشعبي الراغب في الحصول على الاستقلال التام، وهو ما تجلى بعد أشهر قليلة في تحرك الضباط الأحرار في يوليو 1952، والذي حظى بدوره بدعم شعبي انتهى بجلاء الاحتلال البريطاني.
وسنجد في مشهد هزيمة 1967، واحدا من أهم اللحظات في تاريخ مصر المعاصرة. هنا السلطة المهزومة هزيمة ساحقة تجد الدعم من مختلف طبقات الشعب، الذي خرج عن بكرة أبيه بصورة لا يمكن أن تكون مدبرة، لإعطاء السلطة السياسية ممثلة في الرئيس جمال عبد الناصر دفعة جديدة من أجل هدف واحد وهو مواصلة القتال والاستعداد للجولة المقبلة من الحرب، هنا نحن أمام استجابة شعبية تجاوزت الانكسار وقادت الدفة ومنعت الدولة من الانهيار، لأنها استوعبت خطورة اللحظة بشكل جمعي تجاوز حتى وعي عبد الناصر وكل من في السلطة، ولولا هذه الإرادة الشعبية ما تمكنت السلطة من إعادة بناء الجيش وتحقيق الانتصارات في سنوات حرب الاستنزاف، بل نستطيع أن نقول إن منظومة الريف المنتجة استطاعت أن توفر الحماية الغذائية للمجتمع المصري كله ومنعته من الانهيار وقتذاك.
الأمر ذاته امتد إلى ما قبل حرب أكتوبر 1973، فالتأييد الشعبي للرئيس أنور السادات كان على أمل تحقيق حلم الحرب وتحرير الأرض المحتلة في سيناء، وهنا نرى أن الرأي العام كان مع خيار الحرب منذ البداية، بل أنه مارس الضغط على القيادة السياسية من أجل الدخول في الحرب سريعا، وهنا كانت القيادة السياسية تلجأ إلى خيار التأجيل عاما تلو الآخر على أمل الانتهاء من الاستعدادات الحربية ما يعرضها لمزيد من الضغوط الشعبية، بل يمكن القول إن هذه الضغوط الشعبية التي أعطت السادات تفويضا مفتوحا لدخول الحرب، تم استثمارها في خطة الخداع الاستراتيجي لإقناع العدو الإسرائيلي أن القاهرة لا ترغب في الحرب على المستوى الرسمي، وهو ما تكلل بنجاح خطة حرب أكتوبر التي أظهرت التناغم بين السلطة والشعب في تحقيق ملحمة العبور والانتصار.
وتحقق مثل هذا الاصطفاف في قضية استرداد طابا من الاحتلال الإسرائيلي، فهنا ظهر التكاتف بين مختلف الكفاءات المصرية بالتوازي مع السلطة السياسية التي تمسكت باسترداد آخر شبر من الأرض المصرية، فلأول مرة نرى رجال الدبلوماسية يعملون مع خبراء في القانون والتاريخ والجغرافية والعسكريين من أجل إثبات الحق المصري في طابا، وهو ما تجلى في إعداد ملف يضم جهود مختلف التخصصات المصرية وضع أمام المحكمة الدولية التي جاء حكمها النهائي بأحقية مصر بطابا العام 1989، وهنا تحقق الانتصار القانوني بعد عملية بحث معمقة شاركت فيها مختلف كفاءات مصر لجمع الوثائق والخرائط المحفوظة في أرشيف الدولة المصرية، وسط دعم شعبي كاسح مؤمن بقضية تحرير الأرض.
كيف نخلق الاصطفاف باعتباره ضرورة تاريخية في مواجهة الأزمات الحالية؟
كل النماذج التاريخية السابقة تكشف عن أن النجاح في لملمة النسيج المصري عبر التنسيق بين السلطة وطبقات الشعب المختلفة الضمانة الحقيقية للخروج من الأزمات والانتصار عليها، كاستجابة ناجحة للتحدي، وعلى العكس عندما تفشل السلطة في فهم التحديات التي تواجهها وتخلق مساحة من العداء مع الشعب، تكون النتيجة استجابة فاشلة تؤدي إلى كارثة على مسار التاريخ المصري.
ولكي يكون التاريخ مفيدا في قراءة الحاضر والمستقبل، يمكن لنا القول إن اللحظة التي تعيشها مصر حاليا لا تقل في خطورتها عن الكثير من اللحظات التاريخية التي تعرضنا لها، وهنا أصبح البحث عن الاصطفاف وتوحيد الصفوف والحفاظ على النسيج المصري موحدا ضرورة باعتباره الحل الوحيد لمواجهة الأزمات التي تعصف بمصر حاليا، خاصة أنه العلاج المجرب والناجع في مختلف الأزمات التي عصفت بالبلاد في مختلف حقبها التاريخية.
هنا على عموم الشعب تحمل مسؤولية اللحظة الفاصلة في تاريخ البلاد، والوعي بحجم المخططات التي تحاك لاستهداف أمن مصر واستقرارها، من أجل الالتفاف حول القيادة السياسية لمواجهة مخاطر من حجم أزمة سد النهضة، والأهم هو أن تعي السلطات خطورة اللحظة بأن يكون هناك مشروع جامع يلتف حوله الجميع، وتقليص مساحة الخلاف في القضايا الممكنة، وتكثيف خطب إعلامي رشيد يقوم على شرح الحقائق للناس ولا يعتمد تضليلهم، من أجل توصيل رسالة واضحة حول حجم المخاطر التي تواجه البلاد.
فرغم المصاعب التي تواجه مصر حاليا فإن دروس التاريخ تقول إنه إذا ما تم إدارة المشهد ببراعة وكفاءة ستخرج البلاد من أزماتها بانتصارات حقيقة، لكن هذا سيظل مرهونا بإيجاد المعادلة الذهبية لحشد قدرات مصر واستدعاء قواها، وخلق حالة من التعاون بين السلطات والشعب.