لا ريب أن هناك عودة روسية إلى الشرق الأوسط. هذا ما أسفرت عنه الصراعات والتحولات الدائرة في المنطقة؛ حيث أثبتت روسيا قدرتها على تحريك موازين القوى في سوريا، وليبيا والمتوسط، في مقابل تشتت السياسات الغربية وإعادة الولايات المتحدة تموضعها في الإقليم من خلال الانسحاب من صراعاته.
لقد استطاعت موسكو بعد تحقق أهداف تدخلها العسكري في سوريا أن تفرض عملية التهدئة في مختلف أنحاء سوريا من خلال عملية الأستانة، وأن تمنح نفسها مساحة أكبر للتفاوض بين مختلف الأطراف في سوريا، بين النظام والأكراد ودمشق وأنقرة، وأن تنصب نفسها ضامنًا لحالة اللا حرب بين دمشق، وحلفائها، وتل أبيب. وفي ليبيا، تمكنت موسكو من إيجاد مساحة متساوية ومشتركة بين أطراف الصراع الداخلي من ناحية، وبين الأطراف الإقليمية الداعمة لها، تركيا ومصر والإمارات، من ناحية أخرى. وقبل التوصل لوقف إطلاق النار في ليبيا، تمكنت موسكو من بناء اتفاق لتوزيع عوائد النفط بين شرقي وغربي البلاد.
من المؤكد أن النجاح النسبـي لهذه الجهود قد تشجع موسكو على المشاركة بشكل أوسع في التفاوض على إدارة وحل نزاعات المنطقة؛ مثل أزمة سد النهضة المستعصية بين مصر والسودان وأثيوبيا، والحرب في اليمن، أو الملف النووي الإيراني. ومع ذلك، تبدو موسكو أكثر حرصًا على عدم الاندفاع في التورط في أزمات المنطقة، سواء باستخدام أدوات الحرب أم الدبلوماسية؛ فهي أكثر إدراكًا لحدود قوتها، وعدم رغبتها في الارتباط الزائد عن الحد بأزمات المنطقة، على الرغم من حيويتها لدور روسيا العالمي.
وعلى العكس من التصور السائد حول دور روسيا في المنطقة باعتباره إعادة إنتاج لقواعد الحرب الباردة في المنطقة، إلا أن هذه المرحلة قد ولت إلى غير رجعة والمنطقة، كما العالم، مقبل، على تعددية قطبية سائلة قد يستغرق الأمر سنوات أو تحولات حتـى تتخذ شكلاً نهائيًّا. لذا، تبقى الدبلوماسية الروسية أكثر حذرًا في أحلام العودة إلى المنطقة.
التفاوض على السلام في سوريا
كان التدخل العسكري الروسـي في سوريا في العام ٢٠١٥ نقطة تحول بالنسبة للحرب الأهلية في سوريا، وكذلك بالنسبة للدور الروسـي في المنطقة؛ حيث أثبتت موسكو قدرتها على استخدام الأداة العسكرية لتثبيت أركان النظام السوري الحليف والحفاظ على مصالحها في غير النطاق المباشر لأمنها القومي، وكذلك عودتها إلى المنطقة بعد فترة غياب خيم عليها انهيار الإرث السوفيياتي.
لم تتطمح موسكو إلى تسجيل نصر نهائي أو كامل في الحرب السورية، فالوضع أعقد من استخدام أدوات عسكرية محدودة ارتكزت على العمليات الجوية والتدريب والدعم للقوات المقاتلة على الأرض، الجيش السوري وحلفائه، فضلاً عن اكتظاظ سوريا بالعمليات العسكرية والاستخباراتية الأخرى، ضد داعش والأكراد والمتمردين.
لذا كان من الضروري أن تكمل موسكو تحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا بعملية سياسية. وعلى الرغم من مشاركتها في مباحثات جنيف برعاية الأمم المتحدة، إلا أنها ارتأت ضرورة بناء مسار تفاوضـي أكثر “واقعية” بدلاً من ذلك الذي يرتكز على تغيير النظام الحاكم في دمشق، وفقًا للرؤية الغربية.
فور تصفية بؤرة المتمردين في شرقي حلب في نهاية ٢٠١٦، وهي الخطوة التـي مثلت تحقق سيطرة النظام السوري على “سوريا الهامة”، بدأت موسكو في رعاية عملية تسوية إقليمية بالشراكة مع إيران وتركيا باعتبارهما القوتين الإقليميتين صاحبتي المصالح المباشرة والأدوات المؤثرة في سوريا. كذلك تقاسمت أنقرة وطهران مع موسكو الرغبة في الالتفاف على الاحتكار الغربي لمباحثات التسوية في سوريا. بناء على هذا التوافق، بدأت موسكو رعاية عملية “الأستانة” التـي ارتكزت على خلق مناطق للتهدئة على امتداد سوريا، وإطلاق مسار لإعادة كتابة الدستور السوري، فضلاً عن قضايا إعادة الإعمار.
نجح مسار الأستانة إلى حد بعيد في تحقيق تهدئة نسبية وإعادة بناء سيطرة دمشق على قطاع كبير من البلاد، في الوقت الذي ما زال مسار جنيف الغربي متعثرًا بسبب إصرار القوى الغربية على رحيل نظام الأسد. من ناحية أخرى، تسعى موسكو إلى توسيع الصفة الإقليمية لمسار الأستانة من خلال بناء تفاهمات غير مباشرة حول إنهاء الحرب في سوريا مع لبنان -اقتراح لجنة ثلاثية سورية لبنانية روسية لبحث إعادة توطين اللاجئين السوريين-، والعراق ومصر الطامحتين لاستعادة دورهما الإقليمي، وكذلك الإمارات التـي سارعت بإعادة بناء علاقات أمنية ودبلوماسية مع النظام السوري، وأخيرًا قطر حليفة تركيا والعائدة مؤخرًا إلى الإطار العام للسياسة الخليجية حول المنطقة.
لا يعنـي هذا أن موسكو قد نجحت في بناء “تكتل” إقليمي، فما زال هناك خلاف عميق حول “مستقبل سوريا” نفسها. على سبيل المثال، ترى موسكو ضرورة تمتع سوريا بالسيادة الكافية لإعادة الاستقرار، في الوقت الذي ترى فيه طهران أن سوريا ما بعد الحرب ينبغي أن تكون “ساحة” أوسع من لبنان في المواجهة بين إيران وإسرائيل، أي تكرار السيناريو العراقي في سوريا. ينعكس هذا الخلاف في محاولة موسكو تخفيف الضغط الإيراني على ملف إصلاح قطاع الأمن السوري.
في المقابل، ما زالت هناك شكوك روسية حيال جدية تركيا فيما يتعلق بإعادة الشريط المحتل إلى دمشق، وتصفية جيب “هيئة تحرير الشام” في إدلب والذي تَضمن أنقرة إدارته وفقًا لاتفاق سوشـي مع روسيا. كذلك، ما زالت المسألة الكردية عالقة بين الطرفين، مع استمرار دعم موسكو لقوات سوريا الديمقراطية، ورعايتها لمفاوضات بين الكرد ودمشق على إدارة مناطق الحكم الذاتي.
هذا فضلاً عن وجود خلاف مستمر بين موسكو ونظام الأسد حول الإطار العام لإدارة ملف الانتقال السياسـي وإعادة الإعمار الذي يستخدمه النظام لعقاب قطاعات ومكافآت قطاعات أخرى. وربما تكون محاولة موسكو جذب مزيد من الأطراف الإقليمية لمسار الأستانة هي محاولة لإدارة هذه الخلافات العميقة خاصة في ظل النقص الشديد لتمويل إعادة الإعمار.
ضمان اللا-حرب بين إسرائيل، وسوريا وحلفائها
يبقى أكبر التحديات لجهود روسيا لإنهاء الحرب في سوريا هو المواجهة “الممكنة” بين إسرائيل من ناحية وسوريا وحلفائها، إيران وحزب الله من ناحية أخرى. السبب الرئيس لهذا التوتر الكامن على الحدود الجنوبية السورية/ الإسرائيلية هو القوة الميدانية التـي اكتسبها حزب الله والجيش السوري أثناء سنوات الحرب العشر، فضلاً عن زيادة النفوذ الإيراني الجيوستراتيجي في مساحة أوسع من الحدود الإسرائيلية اللبنانية الضيقة، وهو ما يجعل إسرائيل أكثر تحفزًا وقلقًا تجاه ما يحدث في سوريا.
يرى العديد من المسؤولين في تل أبيب أنه لا يملكون خيارًا سوى الاعتماد على موسكو في ضمان إدارة هذا الملف للحؤول دون وقوع مواجهة عسكرية مقبلة بين الطرفين، أو بمعنـى آخر ضمان حالة اللا-حرب المستمرة مع سوريا منذ ١٩٧٤. على الرغم من عدم اضطلاعها رسميًّا بهذا الدور، تحاول موسكو القيام بموازنة صعبة بين علاقاتها متزايدة العمق مع تل أبيب، والقائمة على التعاون في التكنولوجيا العسكرية، ووجود أكثر من مليون ونصف إسرائيلي من أصل روسـي أو سوفياتي، فضلاً عن الدبلوماسية الشخصية بين بوتين ونتنياهو، وكذلك علاقاتها العضوية بسوريا وإيران وحزب الله.
نجحت هذه الموازنة، حتـى الآن على الأقل، في منع مواجهة شاملة بين الطرفين. إلا أن هناك شكوكًا متراكمة حيال هذا النجاح. المصدر الأول لهذه الشكوك هو تردد موسكو في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمنع أي تصعيد على الحدود السورية الإسرائيلية، وهو تردد نابع من عدم رغبة موسكو في الالتزام الزائد أو الدخول في ترتيبات أمنية رسمية مع دول المنطقة. كذلك، بالنسبة لتل أبيب، لم تفلح موسكو في الإيفاء بالتزامها بضبط تدفق الأسلحة الروسية لحزب الله عبر سوريا وفيما وراء المنطقة المنزوعة في جنوبي لبنان.
وبالنسبة لطهران، لم يؤد التواجد العسكري الروسـي في سوريا إلى كف يد إسرائيل عن استهداف عناصر وأسلحة المقاومة، وإن حسنت منظومة الإس-٤٠٠ الروسية من قدرة الجيش السوري على تقييد حركة الطيران الإسرائيلي نسبيًّا. كل هذه الشكوك تجعل موسكو غير قادرة على ممارسة “الردع” المزدوج للطرفين، خاصة مع التصعيد المرتبط بمساعي الإدارة الأمريكية للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني. وربما يؤشر هذا على استحالة قيام موسكو بدور أمنـي في المنطقة مع استمرارها في التأكيد على الحياد و”المسافة الواحدة” بين طرفي الصراع الطويل والممتد.
دبلوماسية النفط والسلاح في ليبيا
أثار اضطراد التواجد الروسـي في ليبيا من خلال شركة “فاغنر” الأمنية، وبروز آلية التنسيق بين موسكو وأنقرة حول ليبيا، مخاوف القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة من تكرار سيناريو “الأستانة” في ليبيا بما يزيح جانبًا المصالح الغربية. دفع هذا ألمانيا إلى إطلاق عملية برلين في يناير ٢٠٢٠. ومع تعرض الجيش الوطنـي الليبـي للضغط العسكري بفعل التدخل العسكري التركي، أصبحت الأجواء ملائمة لإطلاق عملية سياسية تقودها الأمم المتحدة لإقرار وقف إطلاق النار والشروع في انتقال سياسـي جديد.
لم تعارض موسكو هذه الخطوات، خاصة أنها تشككت من البداية من جدوى الحل العسكري وإمكانية تحقيق الجيش الليبـي سيطرة فعلية على طرابلس، فضلاً عن حسابات النفط التـي أكدت على موقف موسكو المحايد سياسيًّا من الصراع.
وتجنبًا لاستبعادها من التفاوض على العملية السياسية، شرعت موسكو بناء مسار تفاوضـي غير سياسـي حول النفط بين حكومة الوفاق السابقة، من خلال نائب رئيس المجلس الرئاسـي أحمد معيتيق، والمشير خليفة حفتر، لاستئناف إنتاج النفط وبناء آلية لتوزيع العوائد بين أقاليم ليبيا الثلاثة؛ فضلاً عن رفع الحظر الذي فرضه مصرف طرابلس المركزي على معاملات البنوك في شرقي ليبيا.
جاء هذا في الاتفاق الموقع بين الطرفين في سبتمبر ٢٠٢٠. وعلى الرغم من اعتراض عناصر في حكومة الوفاق على الاتفاق، إلا أنه أثبت جدواه وتوافقه مع خط الحل السياسـي العام، والمفاوضات التالية في بوزنيقة المغربية والبريقة حول إعادة توحيد البلاد ماليًّا والتوافق على توزيع الثروة النفطية، التـي تعد أحد القضايا الرئيسة للصراع.
وبصرف النظر عن المصير القانوني لهذا الاتفاق، إلا أنه يؤكد اختيار روسيا التأثير في ملفات محددة، وإيجاد موطئ قدم لمصالحها، المتمثلة في تنفيذ عقود النفط والإنشاءات التحتية والتـي تربو عن ١٠ مليارات دولار، وتأمين عقود بتسليح القوات المسلحة الليبية التـي قد تسعى إلى أن يكون الجيش الليبـي الوطنـي نواتها.
تحديات أمام الدور الروسـي في المنطقة
لا تملك روسيا مشروعًا لإعادة تأسيس البنية الأمنية أو الدبلوماسية للشرق الأوسط، بل تحاول الحفاظ، بقدر الإمكان على ميزان القوة الحالي، وأن تجد سبيلاً لها للعب دور قيادي في المنطقة على خلفية “الانسحاب” الأمريكي وضعف القرار الغربي في مواجهة القوى الإقليمية. لذا، كما رأينا تسعى إلى إحداث موازنات صعبة في إقليم شديد الاستقطاب. وعلى الرغم من حقيقة أن الدور الروسـي سيبقًى مؤثرًا في المنطقة في المرحلة المقبلة، إلا أن موسكو ستواجه تحديات قد تحول دون تعاظم هذا الدور أو تجاوزه الحدود الحالية.
أول هذه التحديات هو أزمة الثقة المستمرة بين روسيا وشركائها في كافة الملفات. على سبيل المثال، على الرغم من التعاون الحالي بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا فيما يتعلق باستعادة الاتفاق النووي الإيراني، خاصة بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق، إلا أن هناك سحبًا من الشك بسبب سياسات موسكو في شرق أوروبا، الأزمة الأوكرانية، واتهامها بمحاولة تقويض العملية الديمقراطية في الغرب وتأليب اليمين المتطرف واستخدام سلاح المهاجرين.
بالنسبة لدول المنطقة، خاصة في الخليج، فعلاقات روسيا القوية مع إيران لا تجعل منها محلاً للثقة، على الرغم حاجة الطرفين لعلاقات اقتصادية وتبادل تجاري أكثر متانة خاصة فيما يتعلق بتنسيق سياسات أسعار البترول. وفقًا لهذا التصور، فقد كان دعم موسكو لنظام الأسد، إلى جانب إيران، دليلاً على إمكانية مخاطرة روسيا بمصالح الخليج في سوريا.
ثانيًا، على الرغم من القوة العسكرية التـي تتمتع بها روسيا في المنطقة، إلا أنها غير كافية للقيام بدور أمنـي سواء لإدارة أو حل الصراعات. كما سبق، فالانتصار في الحرب السورية ليس كفيلاً بإحلال السلام النهائي خاصة مع تحفز الأطراف الإقليمية؛ على نحو يتجاوز إمكانية موسكو على القيام بموازنات.
ثالثًا، نتيجة التصاق المنطقة الشديد بالغرب منذ تشكل نظامها الإقليمي عقب الحرب العالمية الأولى، أصبح من الصعب على روسيا أو أية قوة دولية أخرى أن تروج لقوتها الناعمة على نحو ينافس التأثير الغربي، والأمريكي خصوصًا، في أوساط النخب الحاكمة القديمة أو الصاعدة على السواء. لا شك أن جزءًا من هذه المعضلة يرتبط بصور ثقافية نمطية، ما زال الغرب يحرص على تصديرها حول روسيا وإرثها العالمي، والجزء الآخر مرتبط بقصور روسيا في تغيير هذه الصور النمطية.
رابعًا، استحالة التوازن أو الإبقاء على سياسة “المسافة الواحدة” خاصة في حالة وجود تصعيد إقليمي وفي ظل غياب هيكل للأمن الإقليمي. يعني هذا إلى أن روسيا معرضة لخسارة بعض حلفائها في حال انحازت لطرف ضد آخر. وبالتالي، سيصعب عليها في أحوال كثيرة أن تحافظ على لباقة اللسان الخشبـي لأطول فترة ممكنة.