“تمتع الجنود الأمريكيون بالشجاعة. لكن الشجاعة ليست كافية. لم يحدث وأن صرع داوود جالوت بشجاعته فقط. لقد نظر إليه ووجد أنه لو قاتل كما يقاتل جالوت لما تمكن منه؛ فالتقم حجرًا ورميه به، حتـى أسقطه أرضًا، واقتلع رأسه. استخدم داوود عقله عندما قاتل جالوت. وهذا ما فعلناه نحن الفيتناميين عندما كان علينا أن نقاتل الأمريكيين.”
هكذا وصف الجنرال “فو نيغوين جياب” الاستراتيجية التـي اعتمدها الفييتناميون في هزيمة الجيش الأمريكي وإجبار قادته على الانسحاب من فييتنام. الاستراتيجية نفسها اعتمدها كثيرون من خصوم القوى الغربية منذ الحرب العالمية الثانية حتـى اليوم.
يقول شون ماكفيت الأستاذ بكلية الدفاع الوطنـي، واشنطن، ومؤلف كتاب «قواعد الحرب الجديدة: الانتصار في عصر الاضطراب الدائم» أن غياب هذا الفهم لدى القوى الغربية طوال سبعين عامًا كان السبب وراء تراجعها عسكريًّا، وتوالي هزائمها في المستعمرات السابقة، وكوريا وفييتنام والجزائر ولبنان والصومال والبلقان والعراق وأفغانستان، وفي شرق أوروبا، على نحو يتناقض مع حقيقة أن لديها أقوى الجيوش والتقنيات. إلا أن القوة العسكرية المجردة والتكنولوجيا الحربية الفائقة لم تعد تفيد مع تغير قواعد الحرب.
أدى قصور هذا الفهم، وإنكار هذه الحقيقة إلى دخول المؤسسات العسكرية الغربية، خاصة في الولايات المتحدة في حالة من “الضمور الاستراتيجي” وهو ما عرفه وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس بأنها تآكل “المزايا النسبية السابقة التـي تمتعت بها الجيوش الغربية السابقة.” هذا الضمور فكري بالأساس؛ إذ أصبحت الجيوش الغربية حبيسة لنموذج “الحرب التقليدية” ومثالها الأبرز هو الحرب العالمية الثانية. لكن عالم الحرب شهد تغيرات واسعة بعيدًا عن هذا النموذج القائم على الدفع بالجنود والآليات على الحدود، وإيقاع أكبر قدر من الخسائر المادية والبشرية في صفوف العدو.
يرى ماكفيت أن هيكلة الجيوش على أساس النموذج هو بمثابة قطع بطاقة سفر على “تايتانيك”. تغيرت الحرب كثيرًا لكنها عادت إلى سيرتها الأولى قبل اختراع الدولة الحديثة؛ حيث دخل العالم على عتبة قرون وسطى جديدة؛ أبرز ما فيها تآكل سلطة الدولة، واتساع رقعة الصراعات بين الكيانات العنيفة والإجرامية داخل البلد الواحد وعبر الحدود، مع عودة المرتزقة وقدرة أصحاب المال على امتلاك أدوات ممارسة العنف. وهو ما يعبر عنه ماكفيت “بالاضطراب الدائم”. وفي هذا الاضطراب لم يعد الانتصار بالقتل بل بكسر الإرادة أو كما قال سون تزو في “فن الحرب”: « ليست البراعة في الحرب أن تنتصر على عدوك في مائة معركة، بل البراعة في أن تخضعه دون قتال”.
أنبياء الحرب الكاذبون
يتصور الكثيرون أن دوائر صنع الاستراتيجية العسكرية في العواصم الغربية، وبالأخص واشنطن، تعج بالباحثين في العلوم السياسية والاستراتيجية، وزملاء كبرى المراكز البحثية وأساتذة الجامعات المتخصصين في مختلف جوانب الحرب العسكرية والاجتماعية والسياسية، هذا بالإضافة إلى كبار الجنرالات المتقاعدين المرصعة أكتافهم بنجوم وخبرات اكتسبوها من الحروب التـي خاضوها؛ وأن هؤلاء هم من يحددون أوجه التغير في طرق التدريب والتسليح والإنفاق والبحث. إلا أن ماكفيت يحبط هذا التصور، الأقرب إلى المنطق والتوقعات، بالقول إن من يسيطر على الدوائر العسكرية في واشنطن ثلاثة أنواع من مستقبليّ الحرب الذين تشكلت رؤاهم حول “مستقبل الحرب” من خلال أفلام هوليوود.
يقول ماكفيت إن التخطيط الاستراتيجي للحرب في واشنطن، تسيطر عليه ثلاثة أنواع من “مستقبليّ الحرب”، الذين يصفهم بأنبياء الحرب الكاذبين.
- النوع الأول هم العدميون الذين يتصور مستقبل العالم بعيدًا عن الاضطراب ليصبح جحيمًا ويحاولون التأثير على صنع القرار في واشنطن ليتركز على تطوير أسلحة الدمار الشامل وإمكانيات البقاء بعد استخدامها. قد يتصور البعض أن هذه مبالغة، حتـى يدرك أن وزارة الدفاع الأمريكية تنفق أموالاً على تطوير أدوات قتالية مستوحاة من “أفلام مارفل.”، بالنسبة لهؤلاء، ثانوس خطر حقيقي.
- أما النوع الثاني، فهم الوطنيون. يتخيل هؤلاء مستقبل الحرب مع الصين وروسيا مثلاً ستكون كتلك التـي خاضتها أمريكا ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية، وإن كانت بتكنولوجيا أفضل وأكثر فتكًا. الأخطر من هذا أن كل حرب في الخارج هي دفاع عن “العَلم” و”القيم الأمريكية.”
- والأخطر على الإطلاق هم المهووسون بالتكنولوجيا؛ الذين نقلوا الحرب من الشؤون الإنسانية إلى ألعاب الفيديو. هذه الفئة هي المبشرة بالحل النهائي الكامن في الذكاء الاصطناعي والروبوتات والحرب السيبرية. حتـى الآن، لم تثبت هذه الأدوات فاعليتها في تحسين الأداء العسكري والأخطر أنها سيطرت على دوائر الباحثين في الشؤون العسكرية في الغرب وغيره. حيث أضحى الباحثون غير قادرين عن تخيل مستقبل الحرب بعيدًا عن هذه الأدوات التـي لم تعدو إلا تحسينًا على أدوات الحرب القديمة. وربما من المفيد لنا أن نعلم أن قطعان السناجب قادرة على إحداث انقطاع شامل في شبكة الاتصال أكثر مما تحدثه الهجمات الإلكترونية؛ وأن هجمة “ستوكسنت” الأمريكية- الإسرائيلية على الشبكة الإلكترونية للمفاعلات النووية الإيرانية، والتـي توصف بأنها “هيروشيما سيبرية” لم تحدث كبير الضرر بالمشروع النووي الإيراني.
أسهم هؤلاء في تضخيم حالة “الضمور الاستراتيجي”، وهو ما أدى، من ناحية إلى تهميش الأصوات النقدية داخل هذا المركب العسكري- الصناعي- التكنولوجي. ومن ناحية أخرى، أخروا من عملية تكيف الجيوش الغربية في التعامل مع القواعد الجديدة للحرب. يحاول ماكفيت في هذا الكتاب أن يشرح لصناع القرار، ولكل من يهمه شأن الحرب، قواعد الحرب الجديدة، وما يمكن اتخاذه للتكيف معها. إذ أن التكيف أو التطور في الاتجاه الخاطئ دائمًا ما يؤدي إلى الهلاك.
قواعد الحرب الجديدة والخيارات المتاحة للتعامل معها
- انتهاء الحرب التقليدية: عند الحديث عن مستقبل الحرب، ينبغي التفريق بين الحرب، ذلك الصراع البشري الذي لا تتبدل طبيعته، وطرق الحرب warfare، وهي التـي تتعرض للتغير والتبدل لأسباب عديدة. وغالبًا ما يخلط الباحثون بين المعنيين. وهنا كان التأكيد على وجود “الحرب التقليدية أو الاعتيادية” التـي أصبح كل ما عداها يسمى حروبًا صغيرة، أو منخفضة الكثافة أو غير متماثلة. في الحقيقة، يسيطر على تفكير الجيوش الغربية نمط الحرب التقليدية، خاصة الحرب العالمية الثانية، وهي آخر الحروب التـي انتصر فيها الغرب انتصارًا حاسمًا، وهو ما يفسر سر التعلق الأدبي والدرامي بتلك الحرب. إلا أن هذه الحروب لم تعد سائدة منذ الحرب العالمية الثانية.
في عام ٢٠١٥، كان هناك ٥٠ صراعًا مسلحًا، من بينهم صراع واحد بين دولتين، أما بقية الصراعات هي حروب أهلية أو ضد جماعات مسلحة أو متمردة أو إرهابيين عابرين للقارات. وعلى الرغم من اتضاح هذه الحقيقة، وما حملته من حقائق مرة، للساسة الأمريكيين عبر عقود في فييتنام والبلقان والصومال وأفغانستان والعراق وسوريا، إلا أنهم ما زالوا يتصورون أن حروب المستقبل ستكون تقليدية وضد قوى دولية مماثلة. لذلك ليس من الغريب أن تكون أفغانستان أطول حرب في التاريخ الأمريكي.
«أحدث تغييرًا جذريًّا في الجيش، أعد بناء عقائده القتالية على أساس الحروب غير التقليدية»
- التكنولوجيا ليست هي المنقذ دائمًا: تبدو طائرة الإف-٣٥ المقاتلة نقلة نوعية في عالم الطيران الحربي؛ فهي سفينة فضائية تعمل في الأجواء. وقد بلغ حجم ما أنفق على تطويرها تريليون ونصف دولار أمريكي، وهو حجم الناتج الكلي لقوى كبرى مثل روسيا. إلا أنها ستكون بلا جدوى في حروب المستقبل. وعلى الرغم من وجود مقاتلات أنسب منها في القتال الجوي التلاحمي (الإف-١٥ والإف-١٦)، وفي الدعم الأرضـي (طائرات إيه-١٠ ثاندربولت)، إلا أن امتلاكها أصبح موضع فخر، وتباهِ بين الدول. الأمر نفسه ينطبق على السباق التكنولوجي- العسكري حول أدوات الحرب السيبرانية والذكاء الاصطناعي، دون وضع هذه الأدوات ضمن استراتيجية عسكرية ملائمة لطبيعة الحروب غير الاعتيادية السائدة.
فمن الواضح أن هذه الأدوات غير قادرة على حسم أي صراع قائم؛ فلم تسهم مثلاً في القضاء على داعش، أو إنهاء الصراعات الأهلية. كما أنها لم تحسم موازين القوى. الأخطر من هذا، أن التركيز على التفوق التكنولوجي منح الغرب شعورًا بالغطرسة منع القوى الغربية من مراجعة مدى فاعلية التكنولوجيا في مواجهة البيئة الصراعية الأكثر تعقيدًا.
«استثمر في البشر وليس في الآلات»
- لم يعد هناك فاصل بين السلام والحرب: قديمًا كان من السهل تعريف السلام باعتباره نهاية الأعمال العدائية، وحالة الحرب باعتبارها فشلاً في حل الصراع سليمَّا. لم يعد الأمر كذلك الآن. فإذا كانت هناك صراعات دائرة فهناك أوضاع صراعية لا سلم ولا حرب فيها. لقد طور خصوم الغرب استراتيجيات وأدوات للإفادة من تلك الأوضاع دون الإعلان عن شن حرب. يطلق الروس على هذه الحالة “حروب الجيل الجديد”، أما الصين فقد بنت نفوذها العسكري والسياسـي في بحر الصين الجنوبي، ساحة الصراع الأسخن مع الولايات المتحدة بناء على “استراتيجية الحروب الثلاثة”. تتضمن هذه الاستراتيجية استخدام أدوات الضغط الاقتصادي والحرب النفسية والدعائية والأدوات القانونية؛ لإرباك الخصوم ومحاصرة تحركاتهم دون إطلاق طلقة واحدة، ودون إرهاق موازنتهم بإنفاق عسكري كثيف.
على النقيض، يتصور المخططون العسكريون في واشنطن أن الحرب مع الصين ستكون نسخة أكثر “خيالية” واعتيادية، من تلك الحرب التـي لم تقع مع الاتحاد السوفيياتي؛ فراحوا يبذلون المليارات في بناء الإف-٣٥ وحاملة الطائرات من طراز فورد والمدمرات زوموالت لردع الصين. لكن يبدو أنها لا ترتدع.
«اربط قوتك العسكرية باستراتيجية كبرى توجه دفة القرار وتحقق الاستثمار الأمثل لكافة موارد قوة الدولة. ابن استراتيجية كبرى»
- في مكافحة التمرد، القلوب والعقول لم تعد تهم: إلى حد كبير نجت قيادة الجنرال ديفيد باتريوس للقوات الأمريكية في العراق والتـي أعاد ارتكازها على استراتيجية “مكافحة التمرد COIN”. إلا أنها أخفقت في تحقيق غايات استراتيجية أبعد من مجرد التهدئة و”كسب قلوب وعقول المجتمعات المحلية.” عاد التمرد السنـي المسلح مرة أخرى باسم داعش، وتجاوز حدود العراق. يقول ماكفيت إن هناك افتراضًا خاطئًا في استراتيجية مكافحة التمرد، وهي أنها تتصور دائمًا إمكانية “رشوة السكان المحليين وتجنيدهم” وهو افتراض خادع. كما أن واضعي هذه الاستراتيجية من الضباط الاستعماريين الفرنسيين مثل دافيد غالولا وروجيه ترينكوي، لم يفلحوا في القضاء على التمرد، وغالبًا ما انهزموا أمام الثوار المطالبين في الاستقلال في الجزائر والهند الصينية.
أما الدول التـي نجحت في القضاء على التمرد بشكل مبرم، فقد اتبعت استراتيجيات جذرية قامت على الإكراه وترحيل السكان، وتجفيف المنابع، أو الإحلال السكاني؛ روسيا في الشيشان أو الصين في التبت. هذه الاستراتيجيات، وإن لم تكن مستساغة اليوم، إلا أنها ناجعة. أما القوى الغربية إذا كانت تعاف هذه الطرق “الوحشية”- الآن على الأقل- وتخاف من الخسائر البشرية بين صفوفها، فربما عليها مستقبلاً أن تفكر في حلول أكثر إبداعًا للقضاء على التمرد أو أن تستعيد التقاليد الرومانية في التعامل مع التمرد.
«[مثل الرومان]، ابن فيالق أجنبية ودربها وضعها تحت قيادتك، وامنحها المواطنة»
- أقوى الأسلحة لم تعد تطلق الرصاص: حققت روسيا ما لم يحققه الاتحاد السوفيياتي بزعزعة استقرار الغرب دون أن تطلق رصاصة واحدة. حققت هذا من خلال استراتيجية “النفوذ” عبر استخدام أدوات غير عسكرية؛ ومن خلال استخدام المهاجرين واللاجئين كسلاح لإحداث انقسامات في النظم الغربية، ودعم اليمين المتطرف، والتخريب والبروباغندا. إزاء هذه الاستراتيجية، فمن غير الرشيد أن تستمر القوى الغربية في التركيز على “القوة العسكرية” التـي تشهد تدهورًا في استخدامها كأداة ناجعة منذ الحرب العالمية الثانية، ومن العبثـي أن يتجاوز الإنفاق العسكري الأمريكي ما تنفقه واشنطن على الدبلوماسية والمساعدات الخارجية والدعاية ب١٢ ضعف.
«استثمر في أسلحة “النفوذ والتأثير”؛ أفسد عدوك أخلاقيًّا وطارده بشبح الثورات المخملية»
- المرتزقة عائدون: يبدو أن سيطرة جيوش الدول على ميدان المعارك منذ صلح وستفاليا ١٦٤٨ كانت انتكاسة مؤقتة لقوات المرتزقة التـي استخدمتها الإمبراطوريات والممالك بشكل موسع منذ قديم الأزل. الآن، المرتزقة عائدون؛ بفضل الإخفاق المزمن للقوات الأمريكية في العراق وأفغانستان؛ حيث بلغت نسبة المتعاقدون أو المرتزقة ما بين ٥٠٪ إلى ٧٠٪ من حجم القوات العاملة. يقول ماكفيت، وهو متعاقد أو مرتزق سابق في شركة “تربل-كانوبي” -وهو يؤكد على أنه لا فرق في الحقيقة بين المرتزقة والمتعاقدين- إن خصخصة الحرب من خلال مثل هذه الشركات هو جزء من مستقبل الحرب. وعلى عكس الصور النمطية عن المرتزقة مقارنة بالجنود النظاميين، فقد أصبحت الخطوط متداخلة بين الارتزاق والجندية، وأصبح عالم الحرب على عتبة أجواء قرون وسطى جديدة كتلك التـي ازدهر فيها المرتزقة قديمًا.
يؤكد ماكفيت على هذا أن الارتزاق لم يعد مجرد سعي وراء الأرباح (بنادق للإيجار)، فهناك عوامل أيديولوجية تحرك المقاتلين والجنود السابقين للانضمام إلى حروب معينة تخدم أجندة دولهم أو ربما أفكارهم، فلننظر مثلاً إلى شركة فاغنر الروسية. بل إن للجماعات الإرهابية شركات تخدم عليهم، شركة “ملحمة-تاكتيكال” الأوزبكية التـي تصدر مقاتلين سنة لجماعات مثل داعش. كذلك، اتجهت الشركات الخاصة والمنظمات الإغاثية العالمية للتعاقد مع شركات خاصة لحماتيها في المناطق الخطرة. هذا فضلاً عن التوسع في استخدام المرتزقة في مختلف صراعات الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق أوروبا. لذا لم تعد الشركات مجرد مظهر لاقتصاد الحرب، بل أضحت نمطًا جديدًا من الحروب.
«اقبل بوجود المرتزقة، واستخدمهم على نحو صحيح.»
- العالم ستحكمه أنواع جديدة من القوى الدولية: من بين دول العالم التـي يربو عددها عن ٢٠٠ هناك حوالي ١٩٠ دولة يمكن تصنيفها أنها دولة فاشلة أو هشة. وكثير من هذه الدول، إما يجري تقسيمه أو تنقسم فيه السلطات المركزية إلى مراكز فرعية، وهو ما يعرف بالبلقنة، فيما يتحول البعض منها إلى فريسة لجشع الشركات، أو عصابات الجريمة المنظمة والتهريب والمخدرات. وهناك دول إما انهارت أو على شفير الانهيار. لا يعـني هذا أن الدول ستختفي، فدول الغرب ستبقى قوية، وهناك دول ستتأرجح. إلا أن الكثير سيعاني من وجود “دول عميقة” تهيمن على المؤسسات لصالح نخب اقتصادية وعسكرية. وفي الواقع، هذا ما تعاني منه دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة التـي لا يغيب عنها شبح المركب الصناعي- العسكري الذي يمثل، إلى جانب النخب السياسية، جوهر المؤسسات الأمريكية. يعنـي هذا أن العالم لن يكون أكثر أمنًا مما هو عليه اليوم.
وكما حدث في العصور الوسطى، قد تتمكن بعض شركات المرتزقة أو الأفراد ذوي القدرات العسكرية والاقتصادية الهائلة من السيطرة على بعض الدول وتكوين كيانات سياسية. حتى الآن، لم يزد تدخل القوى الغربية في هذه الدول الأمور إلا تدهورًا وسوءًا، كما حدث في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن، على التوالي. لذا سيكون عليهم أن يفكروا في نوع جديد تمامًا من نظام دولي أكثر هشاشة وفوضوية.
«أعد هيكلة الجيوش كي تتلاءم مع العصور الوسطى الجديدة»
- لن تكون الحروب بين الدول وحدها: هناك أزمة في تعريف الحرب في الفكر الاستراتيجي الغربي. وتتمثل في ربطها دائمًا بالعامل السياسـي. فكل حرب هي صراع عنيف لتحقيق غايات سياسية. وعلى الرغم من مركزية هذا التعريف، إلا أنه يعمي عن أنماط أخرى “من الصراعات العنيفة” التـي يفنى فيها البشر دون خدمة أغراض سياسية، مثل الحروب الجارية بين كارتلات المخدرات في المكسيك التـي تسجل معدل ضحايا مدنيين وقتلى من أعضاء العصابات بما يجعلها ثاني أكثر الصراعات دموية في السنوات الأخيرة بعد الحرب في سوريا وقبل العراق وأفغانستان. المثير أن هذه الحرب قلما تضم المكسيك كدولة، فكارتلات المخدرات تتصدر المشهد وتحكم أراضِ، وتقاتل بشراسة كما لو كانت إمبراطوريات متنافسة على موارد تتجاوز المخدرات.
مثل هذه الحرب قد تسود في المستقبل؛ خاصة لو تمكنت عصابات التهريب من السيطرة على بعض الدول، كما حدث بالفعل في غينيا-بيساو؛ حيث سيطر مهربو المخدرات من كولومبيا على كل مفاصل الدولة وجعلوا منها دولة تهريب. لم تنتصر الولايات المتحدة في الحرب على المخدرات التـي تشنها منذ الثمانينيات عبر حدودها الجنوبية وفي المكسيك، ودول أخرى، والدليل على ذلك تضاعف حجم ووحشية كارتلات تجارة المخدرات، ليس بسبب ضعف التمويل أو الافتقاد إلى الإرادة السياسية؛ بل بسبب قصور الخيال في التعامل مع طبيعة هذه الحرب والإصرار على كونها مجرد مسألة إجرامية.
«تحضر لنظام دولي دائم الفوضوية لا تسيطر فيه الدول على المشهد»
- حروب الظلال ستسيطر على المشهد: وهي استراتيجية إرباك وخداع الخصم، وعدم ترك أدلة عن التورط في عمليات “التخريب والتضليل.” بهذه الاستراتيجية، ضمت روسيا القرم، وحدت من التوسع الغربي في شرق أوروبا. منذ ٢٥٠٠ عام، قال سون تزو إن الخداع هو كل شـيء في الحرب. إلا أن تأثير النظرية الكلاسيكية في المدارس العسكرية الغربية التـي تحاول التخلص من “ضباب الحرب” أو إخضاع طبيعتها الفوضوية للعمليات الحسابية وتعظيم القوة العسكرية، جعل الجيوش الغربية تتصور الخداع والتضليل أعمالاً غير عسكرية.
في الواقع، لم تكن هذه هي الحال منذ عقود، حيث أتقنت وكالات التجسس الغربية في “حروب الظلال” عندما هندست انقلابات عسكرية ومدنية ضد العديد من النظم الوطنية في العالم الثالث في إيران وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. إلا أن قيود الديمقراطية حدت من مهارات الغرب في تنفيذ حرب الظلال، كما حدث في “مذبحة عيد الهالووين” ١٩٧٧ عندما فضح الرئيس جيمي كارتر العديد من العمليات السرية لجهاز المخابرات المركزية في أمريكا اللاتينية. منح هذا خصوم الغرب المساحة الكافية لتطوير مهاراتهم، واستخدام أدوات الغرب ضده، خاصة تقنيات الاتصال والمعلومات.
«نفض الغبار عن فنون حرب المعلومات التـي تمتلكها أجهزة مخابراتك، سلح المعلومات.”
- الانتصار قابل للتبدل: أدرك الفيتناميون الشماليون والفييتكونج أنهم إذا لم يستطيعوا الانتصار على القوات الأمريكية، فلا بد من إقناع الشعب القيادة والشعب الأمريكي بضرورة سحب قواته. وهذا ما حدث فعلاً، وبهذا انتصروا دون أن يكسبوا معركة واحدة. كان هجوم تيت ١٩٦٨ عملية فاشلة للشماليين، وانتصارًا كاملاً للجيش الأمريكي وحلفائه الجنوبيين، إلا أن هذا المكسب الضخم سرعان ما ذرته الريح. هزم الأمريكيون معنويًّا بما كشفت عنه زيارة والتر كرونكايت، أهم رجال الإعلام الأمريكي، ودعم جين فوندا العلنـي للشماليين، وشجب المدعي العام السابق رامزي كلارك لممارسات الجيش الأمريكي في فييتنام. اكتشف الأمريكيون بعد الحرب أن أحد كبار مصادرهم الصحافية في فييتنام، مراسل رويترز والنيويورك تايمز فام زون آن، لم يكن سوى عقيد في الجيش الشمالي.
أدرك كيسنجر وهو يهندس للخروج الأمريكي من فييتنام أن «العصابات المسلحة تنتصر عندما لا تخسر، أما الجيوش فتهزم عندما لا تكسب.” على العكس من هذا، يعتبر الكثير من العسكريين الأمريكيين أنهم، في فييتنام وما تلاها، انتصروا في المعارك، وأنهم أبلوا بلاء حسنًا، دون اهتمام بترجمة هذا الأداء إلى أهداف سياسية. يقول ماكفيت أن هذا الاعتقاد الزائف بالانتصار يعود إلى اختزال الدوائر العسكرية الاستراتيجية إلى مجرد تكتيكات وعمليات، Tactization of Strategy، وهو الجانب الذي يهتم به العسكريون وصناع الصور الدعائية البطولية في هوليوود. أما الاستراتيجية، فتتجاوز مجرد النجاح في استخدام الأدوات العسكرية لتوظيف كافة موارد القوة الوطنية، الاقتصادية والدبلوماسية والاجتماعية والسياسية لتحقيق أهداف الدولة من استخدام العنف، أو خوض الحرب. وإذا كان التراجع على مستوى التكتكيات والعمليات مقبولاً، فهو على مستوى الاستراتيجية يعنـي “الهزيمة.”
تكمن المشكلة في أن العسكريين الأمريكيين يتلقون فنون الحرب التكتيكية والعملياتية في سن مبكرة، ولا يتعرفون على مستوى التخطيط الاستراتيجي للحرب إلا بعد وصولهم إلى رتب متوسطة. وهو ما يؤدى إلى تكريس حالة الضمور الاستراتيجي، حيث يزيد عدد التكتيكيين على حساب المفكرين الاستراتيجيين. وهو ما يفضـي إلى ضرورة اتجاه المؤسسات العسكرية لإعادة هيكلة التعليم الاستراتيجي كي يبدأ من مرحلة مبكرة إلى جانب الفنيات التكتيكية والعلمية. كما أن الأكاديميات العسكرية الغربية بحاجة إلى الانفتاح على التقاليد الاستراتيجية غير الغربية التـي تحسن من عمق فهم العسكريين لخصومهم؛ خاصة في الصين وروسيا.
ويبدو أن الأكاديميات والدوائر العسكرية الغربية في حاجة إلى إعادة الاعتبار إلى الحرب باعتبارها فنًا لا عملية حسابية أو هندسية أو مجرد ترسانة من الأكثر فتكًا أو “فخامة”. اتقان هذا الفن يستدعي صقل مهارات القائمين على قرار استخدام العنف، وطرق تفكيرهم في العالم. بهذا يبدو سون تزو أكثر تعبيرًا عن حروب المستقبل من كلاوزفيتس، وغيره من أنبياء الحرب التقليدية.
يبدو كتاب ماكفيت محاولة لإعادة كتابة “فن الحرب” في العالم المعاصر، ولكن دون تجذير فهم هذا العالم فلسفيًّا إلا في مواضع قليلة تحدث فيها عن “القرون الوسطى الجديدة.” وفي محاولته الإجابة عن التساؤل عن أسباب توقف الغرب عن الفوز في الحرب، استخدم ماكفيت مزيجًا من الخبرة الشخصية، كجندي ومتعاقد سابق، والأسلوب الروائي والقراءة العميقة للتاريخ والفكر الاستراتيجي.
إلا أن الكتاب لا يخلو من مواضع تتضح فيها القراءة الاختزالية لبعض الأحداث التاريخية، أو التحامل على بعض النظريات؛ مثل اتهام كلاوزفيتس بالتركيز على التكتيكات على الرغم من ارتكاز نظريته على تعريف الحرب باعتبارها امتدادًا للسياسة، السياسة المسلحة بتعبير ماكفيت. وعلى الرغم من أن “التقاليد العسكرية الغربية” هي المستهدف من الكتاب، إلا أنه يغص بالمركزية الأمريكية حيث يعامل “الغرب” و”أمريكا” تبادليًّا دون أن يفحص المراجعات المحتملة للتاريخ العسكري الجارية في الدوائر العسكرية في البلدان الغربية الأخرى. مثلاً، يمتلك البريطانيون خبرة واسعة وممتدة في تدريس التاريخ العسكري والإفادة منه، على العكس من الأمريكيين؛ ونجحت إسرائيل في إعادة هيكلة العقيدة العسكرية لجيشها، خاصة بعد حرب لبنان في ٢٠٠٦، كي يتكيف مع “الحروب الصغيرة وغير الاعتيادية.”
مع ذلك، يبقى الكتاب محاولة جريئة، ولا تخلو من العمق التاريخي، في مناقشة مستقبل الحرب، وقواعدها الجديدة. ولا يخفى دلالات هذه القواعد على الشرق الأوسط الذي يعتبر ساحة مركزية لإنتاج هذه القواعد. لم تعد الخطورة تكمن في الفوضـى المعتادة في الإقليم بل في رده فعل دوله عليها عسكريًّا. من المؤكد أن الاهتمام بالتسليح واقتناء أحدث التقنيات العسكرية المقدرة بالمليارات لن تكون الحل الأنسب دون تطوير التعليم العسكري والثقافة الاستراتيجية وبناء شراكة حقيقية بين الجيوش والقطاعات البحثية والمدنية.