هيمنت قطر منذ الثمانينات على السوق العالمي للغاز المسال، نتيجة عدد من العوامل المتشابكة أولها اكتشاف حقل الشمال عام 1971، الذي تتشاركه مع ايران والذي يعد الحقل الأكبر في العالم للغاز المنفصل ” أي غاز دون نفط”، ثانيا ارتفاع الأهمية النسبية للغاز المسال نهاية القرن الماضي في الدول الصناعية في أسيا خاصة اليابان والصين وكوريا الجنوبية وتايوان، الأمر الذي سهل حصول قطر علي عدد من القروض لإنشاء البنية التحتية لتسييل الغاز وبالفعل خرجت أول حاملة غاز مسال من مدينة رأس لفان القطرية في طريقها إلى اليابان عام 1997، وتعززت أهمية الغاز عالمياً بعد توقيع الدول الصناعية الكبرى علي اتفاقية خفض الانبعاثات الحرارية للغازات بالغلاف الجوي في كيوتو 1999.
إلا أن تحولاً جديداً تشكلت ملامحه مؤخراً بعد الاكتشافات الجديدة خاصة في شرق المتوسط وبحر الصين الجنوبي، هذا التحول الذي يعني من ضمن ما يعني أن زمن هيمنة قطر علي سوق الغاز قد شارف على النهاية، حيث عززت الصين نمو صناعة الغاز لديها، كما بدأت عدة دول في الاعتماد علي الإنتاج المحلي ومنها أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بعد اكتشافات حقول تمار و لفياثان، ومع اكتشاف حقل ظهر المصري استعادة مصر مكانة رائدة في صناعة الغاز المسال نظرا لما تمتلكه من بنية تحتية عملاقة لتسيل الغاز إضافة إلي التوسع المصري في صناعة النفط والبتروكيماويات الأمر الذي سوف يعطيها ميزة نسبية تتفوق بها علي منافسة الهيمنة القطرية. [1]
حروب الهيمنة على أنابيب الغاز
بدأ التفكير القطري بتدشين خط غاز يمر بسوريا ومن ثم إلى أوروبا عام 2000، وعرضت قطر تنفيذ هذا المشروع الذي يتكلف 10 مليار دولار، حيث يمتد لمسافة 1500 كم عبر كل من السعودية والأردن وسوريا وتركيا وصولا إلى أوروبا، وقد دعمت الولايات المتحدة فكرة المشروع للنيل من هينمة روسيا علي سوق الغاز الأوروبي الذي تستخدمه كورقة ضغط علي الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كذلك دعمت تركيا الفكرة نفسها وذلك بحكم التعاون الاستراتيجي التركي القطري في مجالات الغاز، كما تستفيد تركيا من مرور الغاز بارضيها سواء ذلك للاستهلاك المحلي أو الاستفادة من رسوم العبور، إلا أن الفكرة أجهضت من سوريا بقيادة الرئيس بشار الأسد عام 2009، وهو ما أفرز قاعدة مشتركة وتلاقي مصالح الدول الثلاث(تركيا-قطر- الولايات المتحدة) فيما يخص إسقاط النظام السوري منذ 2011.[2]
وتعد سوريا المعبر الوحيد للغاز الخليجي إلي أوروبا إذ حاولت إيران الشريك القطري في حقل الشمال، تشيد خط الأنابيب الإسلامي عام 2010، ليمر بكل من ميناء عسلوية ويمتد بطول 2000 كليو متر عبر العراق وسوريا ولبنان، بطاقة شحن 20 مليار متر مكعب من ساحل البحر المتوسط أما عن طريق خط أنابيب إلي تركيا وأوروبا أو عن طريق الشحن البحري، وهو ما يفسر التمسك الإيراني بدعم واستمرار النظام السوري وسيطرة المليشيات الإيرانية علي الجنوب السوري الذي يمثل أهمية كبري بشكل يمكن أن يجعل ايران اكبر مصدري الغاز في العالم حال تخطي العقوبات الدولية المفروضة عليها، وانتهاء الصراع علي الأرضي السورية.
ومع تفاقم الصراع بين المشروعين الإيراني والقطري في سوريا، دخلت روسيا حرب الغاز في الشرق الأوسط، حاسمة الصراع السوري لصالحها، لتتخلص بذلك من احتمالات منافسة الغاز الإيراني والقطري لسوق الغاز الروسي في أوروبا، خاصة بعد السيطرة الروسية على الغاز السوري في البر والبحر، بعدما أكدت البحوث السيزمية أن احتياطيات غاز شرق المتوسط في الحدود السورية يكفيها أن تكون من أكبر الدول المنتجة للغاز. بذلك تعد روسيا صاحبة المكسب الأكبر من كل الحسابات الخاطئة من أطراف الصراع على المسرح السوري بعدما خسرا المشروعين الإيراني والقطري أهدافهم بتصدير الغاز إلى أوروبا. [3]
حاولت قطر القضاء على أي احتمالات لظهور منافسين لها ك,واحدة من أكبر الدول المصدرة للغاز، خاصة الغاز الليبي والجزائري إذ حاولت الحصول علي حق امتياز حقل NC7 عام 2009، إلا أن نظام القذافي أجهض المشروع فحاولت قطر بالشراكة مع فرنسا العمل علي إجهاض خطط النظام عبر حث فرنسا وحلف الناتو علي التدخل في ليبيا إبان الربيع العربي، وبعد سقوط القذافي لا تزال هناك رغبات قطرية وتركية تجاه حقول الغاز الليبي في شرق المتوسط، إلا أن فرنسا نجحت في السيطرة علي 35% من الغاز الليبي، حتى جاء السراج رئيسا لحكومة الوفاق الذي منح قطر الحقوق الحصرية لتسويق إنتاج حقلي السرير ومسلة اللذان يمثلان 20% من الغاز الليبي، خاصة بعد الاكتشافات المصرية من هنا نجد مبرر للخلافات الفرنسية من جانب والتركية القطرية من جانب أخر حول الملف الليبي.
الاكتشافات المصرية تنهي زمن هيمنة الغاز القطري
أعلنت هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية عام 2010، عن وجود احتياطي غاز بمنطقة شرق المتوسط يقدر ب 122-220 تريليون قدم مكعب، قدرت نسبة مصر منها ما يقرب 115 تريليون قدم مكعب، وعلي الفور منذ استقرار النظام في مصر بعد 2013، بدأت مصر المباحثات حول عدد من اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية من قبرص واليونان وإيطاليا، إضافة الي تدشين عدد من الاتفاقيات مستفيدة من البنية التحتية العملاقة المصرية وحرصا علي الاستغلال الأمثل للثروات النفطية، خاصة بعد ترسيم إسرائيل حدودها مع قبرص و تدشين اتفاقيات تعاون وتنقيب مع اليونان. وبعد اكتشاف حقل أفروديت بدأت تركيا الدخول إلي حرب الغاز في المتوسط، وفي 2015 أعلنت شركة آيني الإيطالية الحاصلة علي حق امتياز التنقيب اكتشاف حقل ظهر باحتياطيات تصل إلي 30 تريليون متر مكعب كأكبر حقل غاز في المتوسط.[4]
أضرت الاكتشافات المصرية والقبرصية واطر التعاون الاستراتيجي بين دول شرق المتوسط بتدشين منتدى غاز شرق المتوسط ومن ثم تحوله إلى منظمة إقليمية، بكل من قطر المهيمنة على سوق الغاز بظهور منافس إقليمي قوي قادر علي إيصال الغاز على أكثر من سوق غربي، وتركيا التي لم تعد لها منطقة اقتصادية في المتوسط، إضافة إلى روسيا التي تعد المصدر الأكبر للسوق الأوروبي. وعلى مدار 6 أعوام الماضية، بلغ عدد الاكتشافات للغاز الطبيعي 86 اكتشاف، خلال الفترة من عام 2013 وحتى 2019، أبرزهم حقل ظهر، والغاز بمنطقة غرب الدلتا. حيث أضافت هذه الاكتشافات احتياطيات كبيرة من الزيت والغاز لمصر، كما أعادت هذه الاكتشافات بدورها رسم خريطة الطاقة بالمنطقة وجعلتها جزءا من الخريطة العالمية.
بلغ إجمالي الغاز المنتج من هذة الحقول 2.51 تريليون قدم 3، والغاز المباع حوالي 2.33 تريليون قدم 3 بمتوسط 6391.5 مليون قدم 3 غاز/يوم، وذلك خلال العام 2018-2019، كما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري في نشرته المعلوماتية الشهرية عن ارتفاع الإنتاج من البترول والغاز الطبيعي في ديسمبر 2019، إلى 7.17 مليون طن على الأساس السنوي مقارنة بشهر ديسمبر 2018 الذي بلغ الإنتاج خلاله 7.03 مليون طن. كما وصل الإنتاج اليومي للغاز الطبيعي 7.2 مليار قدم مكعب خلال الربع الأول من 2020، وذلك لدخول عدد من مشروعات تنمية حقول الغاز على الإنتاج التي أثرت إيجابيا على زيادة معدلات الإنتاج وهي مشروعات تنمية حقل ظهر بالبحر المتوسط ومنطقة جنوب غرب بلطيم وحقول شمال الإسكندرية وحقول منطقة دسوق المرحلة (ب).[5]
بهذه المعدلات تشير عدد من مراكز الأبحاث الأمريكية والأوروبية حال استمرار اكتشافات أخري في المتوسط واستمرار الاستثمار المصري في تطوير البنية التحتية خاصة معامل الإسالة في دمياط وأدكو، سوف تتحول مصر إلي دولة من أكبر اقتصاديات المنطقة. ويدعم هذه التوقعات اتفاق لتصدير 70 مليار مكعب من الغاز الإسرائيلي عن طريق منصات الغاز المصرية. كما يدعمه اتفاقيات لتعاون مصري قبرصي مشابه. يضاف إلى ذلك أن مصر تمتلك أضخم وأهم محطتين جاهزين لتسييل الغاز وتصديره من شرق المتوسط إلى أوروبا والعالم.
ولمواجهة ذلك على الجانب القطري أعلنت شركة “قطر غاز” المملوكة للدولة، توقيع اتفاقية بيع وشراء متوسطة الأمد مع شركة خطوط الأنابيب الحكومية التركية “بوتاس”، حيث تقوم الشركة القطرية بموجبها بتوريد غاز طبيعي مُسال لشركة “بوتاس” على مدى 3 سنوات بمعدل 1.5 مليون طن في العام الواحد، وسترفع شركة “قطر للبترول” إنتاج الغاز الطبيعي المسال “LNG” عندها من 77 مليون إلى 100 مليون طن سنويًا، ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 30%. وذلك في محاولة منها لتقليل الأرباح المصرية من الاكتشافات الجديدة بزيادة الإنتاج وخفض السعر العالمي إذ يُشار إلى أن قطر تتربع فوق قرابة 14% من احتياطيات الغاز في العالم، وهي ثالث أعلى نسبة بعد روسيا، وإيران.[6]
الأثر المباشر على الإيرادات القطرية من الغاز
مع ارتفاع العوائد المصرية نتيجة زيادة النسبة المباعة من الغاز الطبيعي المسيل في مصر، تأثرت قطر بشكل مباشر بتحول مصر إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز خاصة بامتلاك مصر موقع جغرافي مميز سهل من قدرتها على تصدير الغاز، على الجانب الأخر ووفق بيانات وزارة المالية القطرية، بلغت إيرادات الموازنة في النصف الأول من العام الجاري 92.8 مليار ريال مسجلة تراجعا 19.4 مليار دولار مقارنة بإيرادات النصف الأول من العام الماضي التي بلغت 112.2 مليار ريال.
وتتوزع إيرادات النصف الأول من العام الجاري على 47.6 مليار ريال في الربع الأول و45.2 مليار ريال في الربع الثاني. وبلغت إيرادات النفط والغاز 69.3 مليار ريال تتوزع على 43.1 مليار ريال في الربع الأول و26.2 مليار ريال في الربع الثاني. ومع هذا التراجع في إيرادات النفط لا يمكن للسوق استيعاب الإمدادات الزائدة خصوصاً في ظل تفشي وباء فيروس كورونا والتحول الحاصل في حالة المناخ الذي يتحول تدريجياً إلى مستويات ملحوظة من الدفء، بما يعني التقليل من استخدام مصادر الطاقة، الأمر الذي يضع قطر أمام خيارات صعبة إما تخفيض الإنتاج أو إطلاق حرب أسعار. وفي ظل هذا الوضع تملك الدوحة خيار تخفيض الإنتاج، لكن هذا من الممكن أن يقوض خططها المستقبلية، ففي يناير من العام الماضي كشفت قطر عن خطة لزيادة إمدادات الغاز من 77 مليون طن سنويا إلى 110 ملايين طن سنويا بحلول 2024، إلى 126 مليون طن سنويا بحلول 2027. إلا أن هذه الخطط أصبحت صعب المنال، خاصة مع وجود منافسين جدد اليوم في السوق العالمي للغاز.[7]
سوف تؤدي الاكتشافات المصرية إلي خروج الغاز القطري من السوق الأوروبي نظرا لقرب المسافة الجغرافية والربط السياسي المصري الأوروبي بمنظمة شرق المتوسط ، وتعد قطر هي المورد الرئيسي لكل من المملكة المتحدة وباكستان وبلجيكا وإسبانيا وبنغلاديش والكويت وفرنسا، وبالتالي سوف يخرج السوق البريطاني والبلجيكي والإسباني والفرنسي، أي اكبر من نص السوق الأوروبي للغاز القطري ، وبالتالي ستتركز الصادرات القطرية تجاه الدول الأسيوية خاصة الدول التي تزيد نسبة واردتها إلي اكبر من 20 مليون طن سنويا وهم اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند.
إلا أنها سوف تواجه بعض الصعوبات منها انخفاض اعتماد اليابان على الغاز القطري رغم كونها السوق العالمي الأكبر في استيراد الغاز، حيث نجد انخفاضاً في واردات اليابان بنسبة 5.9 مليون طن سنوياً، وتعد الصين السوق الأمثل للصادرات الأسترالية، أما كوريا الجنوبية فهي السوق الأكبر للغاز القطري الذي يمثل 13.8% من الصادرات القطرية وعلي الرغم من كون الهند ثاني أكبر سوق لقطر بحوالي 12.8%، إلا أنها أرسلت إخطارا إلى شركة قطر غاز بإعلان حالة القوة القاهرة لتأجيل تحميل شحنات الغاز الطبيعي المسال المتفق عليها بموجب صفقات طويلة الأجل، وذلك في ضوء تراجع الطلب المحلي على الغاز، فيما اعتبر مقاطعة مؤقته نظرا لظروف كورونا وتوقف عدد كبير من المصانع.
المراجع
[1] ” قطر تواجه الواقع الجديد ألسواق الطاقة العالمية”، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، رقم 7، 2015:
https://agsiw.org/wp-content/uploads/2015/11/Roberts-AR.pdf
[2] كمال ديب، لعنة قايين : حروب الغاز من روسيا وقطر إلى سورية ولبنان حر، (لبنان: بيروت، دار الفارابي، ط1، 2019).
[3] جمال طه، اسرار حرب الغاز لقاء المصالح وصدام التنافسات، (القاهرة: دار نهضة مصر، ط1، 2020).
[4] ” ثروات المتوسط.. شعلة تحرق أطماع أردوغان”، العين الإخبارية، 2020/7/11:
https://al-ain.com/article/fortunes-mediterranean-burning-erdogan-ambitions-1
[5] مصطفي كمال، ما بعد الحصاد..كيف يمكن أن يساعد غاز المتوسط في تعزيز القوة الإقليمية لمصر؟، مركز الإنذار المبكر، 06/06/2020:
[6] ” حرب «غاز» مكتومة بين مصر وقطر وتركيا”، مبتدأ، 2017-09-21:
https://www.mobtada.com/details/653038
[7] ” إيرادات موازنة قطر تتراجع بـ21% في النصف الأول من 2020″، الخليج الجديد، 3 أكتوبر 2020: