تتخذ تركيا دور الدولة المركز في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، إذ تتشارك مع الولايات المتحدة في كثير من الرؤى بشأن الأمور والمشاكل الإقليمية، ويعتمد دور الدولة المركز في المرحلة الأولى منه على عاملين أساسيين: الأول الوساطة في حل المشكلات، والأخر إقامة علاقات للتعاون الاستراتيجي بين تركيا من جانب وسوريا والعراق كل منهم على حده.
إذ عملت تركيا على الانخراط في المنطقة بداية من رعاية المفاوضات غير المباشرة بين كل من سوريا وإسرائيل، الأمر الذي اكسب تركيا ثقة الأمريكيون بأهمية الدور التركي، كما توسطت تركيا بين سوريا والعراق إثر الأزمة التي أدت إلي قطع العلاقات بينهما في أغسطس 2009، وتكررت الوساطات حتى توقيع عدد من مذكرات التفاهم والاتفاقيات بين الطرفين خلال اجتماعات اللجنة العليا المشتركة في بغداد خلال الفترة 21-22 أبريل 2009.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق توسطت تركيا بين الجماعات المسلحة في العراق والقوات الأمريكية، كما عملت تركيا علي دعم الطائفية لإيجاد موطئ قدم لها بالعراق، حيث انفتحت تركيا على المناطق الشيعية حين زار احمد داود اوغلوا البصرة وافتتح قنصلية هناك، كما قام بزيارة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق ولقائه برئيس الإقليم وزعيم الأكراد مسعود البرزاني.
وهدفت تركيا من هذا الانخراط بالعراق مقاومة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، وتعزيز الاستثمارات التركية في قطاعات إعادة الإعمار والنفط، وتشجيع العراقيين علي اعتماد خطوط النفط والغاز التي ستمر بتركيا خاصة مشروع نابوكو، وسعي تركيا منذ هذا الوقت بان تكون ممرا أساسيا لتوزيع الطاقة إلى أوروبا.
أما المرحلة الثانية من دور الدولة المركز يعتمد على إنشاء ما يشبه كومنولث عثماني، وهو ما أوضحته وثائق ويكيليكس عن حديث قام به احمد داود اوغلو مع الصحفي جاكسون دييل في صحيفة الواشنطن بوست عام 2010، عن الدور التي تتطلع تركيا للقيام به في المستقبل إذ قال أوغلوا أن بريطانيا أسست كومنولث مع مستعمراتها السابقة، فلماذا لا تكرر تركيا زعامتها في الأراضي العثمانية السابقة في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى؟
وعلى الرغم من أن أراضي آسيا الوسطى لم تكن تابعة للدولة العثمانية في أي وقت إلا أن حديث أوغلوا قام بتضمينها في نطاق الزعامة التركية المستقبلية. وهو مع يتطابق مع ما رسمه توماس فريدمان في كتابه عن القرن ال21 ” من خريطة جغرافية تجعل تركيا بحلول 2050 زعيمة لهذه الجغرافيا العربية والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى”.
أولاً: الاستراتيجية التركية في تأسيس النفوذ بسوريا.
دعم التنظيمات الإرهابية كأحد أدوات تعزيز النفوذ في سوريا
مع بداية الانتفاضة الشعبية ضد الرئيس السوري بشار الأسد في عام 2011، وانجراف البلاد إلى حرب أهلية فيما بعد، انقسمت المعارضة السورية إلى فصائل مسلحة ذات مصالح متنافسة، سخرت تركيا دعمها الكامل لبعض جماعات المعارضة السورية من إيواء وتعبئة وتسليح المتمردين والسماح بحرية المرور على طول الحدود السورية التركية كنتيجة للفراغ الأمني، بما في ذلك جبهة النصرة(أحرار الشام لاحقا) المنتمية لتنظيم القاعدة في سوريا[3]، وقد عارضت أنقرة علنًا جهود الولايات المتحدة تصنيف جبهة النصرة كمنظمة إرهابية منذ ديسمبر 2012[4]، إلى أن تم تصنيفها كجماعة إرهابية في يونيو 2014[5].
وقد سمحت السلطات التركية للمتعاطفين والجهاديين المقاتلين مع تنظيم القاعدة استخدام وسائل الإعلام التركية للترويج لمعتقداتهم، كما تم ترهيب الادعاء العام والشرطة التركية TNP، وفي بعض الحالات يتم طردهم حال القيام بأي محاولات لمنع وصول شحنات الأسلحة للجهاديين، أو القيام باي عملية لمكافحة الإرهاب.
كما سافر الآلاف من الجهاديين الأتراك إلى سوريا للانضمام إلى الجماعات المتطرفة بين 2013 وأواخر 2014، بعضهم تحت ذريعة القيام بأعمال إنسانية، والبعض الأخر تحت رعاية المؤسسات الأمنية التركية، وأكد ذلك عضو من العائدين من داعش، هو يعقوب أكتولوم، إنه سافر للمرة الأولى إلى سوريا في عام 2013 مع هيئة الإغاثة الإنسانية التركية IHH، وهي جمعية خيرية إسلامية تركية مشتبه في علاقتها بتنظيم القاعدة[6]. وفي عام 2012، أظهرت أنقرة تحيزًا أيديولوجيًا لصالح الفصائل الإسلامية التابعة للمعارضة السورية، وذلك لدعم وتنسيق الخطط التركية الأمريكية لتوفير دعم سري مشترك للمعارضة السورية.
الحفاظ على الأمن القومي التركي كأحد مبررات احتلال شمال سوريا
أظهرت التطورات الأخيرة أن سوريا حجر عثرة أمام المشروع التركي في الشرق الأوسط، فبدلا من أن تكون سوريا بوابة تركيا للعبور إلى المنطقة، أصبحت سوريا مستنقعا تنزلق فيه تركيا أكثر فأكثر، وتشهد السنوات الأخيرة على تغيير كبير في السياسية الخارجية التركية، فمنذ صيف 2016، قامت أنقرة بإعادة ترتيب أولوياتها في سوريا، حيث تعتبر أن المس بوحدة الأراضي السورية وإمكان حصول الأكراد السوريين على نوع من الحكم الذاتي يشكلان تهديدا اكبر لها و أخطر من بقاء نظام الأسد في السلطة، وهو ما يحفز الأكراد على معاودة عملهم المسلح.
وبالتالي فإن أولوية أنقرة تتمثل في محاربة الأكراد السوريين، حتى لو تطلب ذلك إيجاد تسوية مؤقتة أو تهدئة مع النظام السوري. وبهذا المعنى، ما يهم تركيا في سوريا الأن هو ضمان الأمن القومي التركي، بدلا من تحقيق أهداف ومكاسب سياسية في مواجهة النظام السوري. أي أن تركيا قامت بتحويل دفة الثورة السورية الى صالح تحقيق أهدافها في سوريا، وبالتالي فإن الادعاء التركي بدعم الثورة والثوار من أجل حصولهم على حريتهم لا يبدو صحيحاً.
ومن أجل الدفاع عما تحسبه مصلحتها الوطنية، شرعت تركيا في عملية عسكرة لسياستها الخارجية، واعتمدت مجددا الاستخدام المكثف للقوة الخشنة وإعادة توظيف المقاتلين الجهاديين في العديد من البلدان والصراعات في الشرق الأوسط، وتجلى شكل السياسية الجديدة خلال عمليات عسكرية في الداخل السوري بداية من درع الفرات وغصن الزيتون وأخيرا عملية نبع السلام حيث نجحت في احتلال الشمال السوري وإقامة منطقة عازلة في المنطقة الحدودية الواقعة بين مدن إعزاز والباب وجرابلس وعفرين بالتنسيق مع القوى الدولية والإقليمية المتنافسة على المسرح السوري.
ماذا تريد تركيا ؟ وما هي أهدافها في سوريا؟
تهدف تركيا إلى تأمين حدودها المشتركة مع سوريا من أنشطة حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تنظيما إرهابيا، وتشمل منطقة الحدود محافظة الحسكة بأكملها وأجزاء من محافظات دير الزور والرقة وهي مناطق يتركز فيها الأكراد السوريون خاصة في مُدن عين العرب كوباني و عفرين والقامشلي، وتجاور المناطق التي تعيش فيها أغلبية كردية في العراق وتركيا.
كما تريد تركيا باعتبارها قوة إقليمية، بأن تكون جُزءا من عملية التسوية السياسية بعد انتهاء الحرب في سوريا، ولهذا الغرض فإنها تستخدم اللاجئين السوريين الذين يصل عددهم إلى قرابة ثلاثة ملايين ونصف كورقة ضغط وابتزاز الدول الأوروبية للحصول على مزيد من الهبات والمُساعدات.
ومع زيادة الدور العسكري للقوات الكردية واعتماد الولايات المتحدة الأمريكية عليها في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي، تخوفت تركيا من أن يُشجع ذلك عناصر حزب العمال الكردستاني للقيام بأعمال عسكرية ضد السُلطات التركية خاصة أنها تعد القوات الكردية امتدادا لهذا الحزب.
وتمثل الحل التُركي في احتلال مناطق الحدود على الجانب السوري والسيطرة عليها بدعوى إبعاد القوات الكُردية عنها، إذ احتلت تركيا عشرات المُدن والبلدات أهمها عفرين، وجرابلس، وأعزاز، وجنديرس، وراجو، وشيخ الحديد.
كما قامت بعملية “تتريك” تضمنت تغيير الكتب المدرسية وتدريس بعض المواد باللغة التركية، وإنشاء مدارس تقوم بالتدريس باللغة التركية فقط. وتُديرُ وزارة الصحة التركية المُستشفيات في هذه المُدن وترفع على مبانيها العلم التركي وليس السوري. وتغيير لافتات الطرق والميادين والمؤسسات العامة وأسماء الشوارع التي باتت تحمل أسماء تركية أو إضافة اللغة التركية إلى جوار اللغة العربية.
وتهدف تركيا من ذلك إلى تغيير هُوية سُكان هذه المناطق واستبدالهم بآخرين وتغيير هوية المكان وإكسابه طابعا تركيا. الهدف هُو خلق وإيجاد نطاقات سُكانية واجتماعية عربية خاضعة لتُركيا في مناطق الحدود. وضمان أن يستمر هذا النفوذ حتى بعد انسحاب الوجود العسكري التركي المُباشر من الأراضي السورية وذلك من خلال النُخب التابعة والعميلة.
هذا هو الهدف الحقيقي الذي تسعى تركيا نحو تحقيقه وهو تغيير التركيبة البشرية والهُوياتية في مناطق الحدود، وأن يستمر نفوذ التنظيمات المؤيدة لها في محافظة إدلب. رغم مخالفة هذه السياسات الأمنية التوسعية للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
ثانياً: الاستراتيجية التركية في تأسيس النفوذ بالعراق.
إحياء العثمانية القديمة في الموصل وشمال العراق
تكتسب محافظة الموصل أهمية تاريخية لدى تركيا إذ خضعت المحافظة للإدارة العثمانية لمدة 4 قرون من عام 1534 إلى عام 1918، كما يوجد بها أعداد كبيرة من التركمان الذين ينتسبون لأصول تركية ويعيشون فيها.
ووفقا لاتفاقية أنقرة التي تم توقيعها في مايو 1926. فإنها أقرت بتبعية الولاية للعراق وتنازل تركيا عن ادعاءاتها فيها، وترسيم الحدود بين البلدين. وإثر ذلك اعترفت تركيا بالعراق في مارس 1927. كما تضمنت الاتفاقية حصول تركيا على 10% من عائدات نفط الولاية لمدة 25 سنة، وأعطت تركيا حق التدخل العسكري في الموصل وشمالي العراق لحماية الأقلية التركمانية إذا تعرضت لاعتداء أو تهددت وحدة الدولة العراقية.
تعتبر تركيا اليوم أن هذه الاتفاقية إقرار بالعلاقة الخاصة بينها والموصل، وأن ما يحدث فيها يرتبط بالأمن التركي، وكان من تجليات ذلك تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر 2016، بأن العراق يحتاج إلى عمل عسكري مشابه لعملية “درع الفرات” التي نفذتها تركيا في سوريا، وطلبت الحكومة التركية من العراق المشاركة في معركة تحرير الموصل من سيطرة “داعش”.
وتشير كل هذه التصريحات إلى أن النخبة السياسية الحاكمة في تركيا تعتقد أن اتفاقية أنقرة 1926 تم فرضها على الجمهورية التركية الوليدة وهي في مرحلة ضعف وفي حاجة لمساعدة الدول الغربية، وأنها اتفاقية غير عادلة ومن الضروري تعديلها، وأن من حقهم التدخل في شمال العراق إذا تعرض الأمن القومي التركي لتهديدات نابعة من هذه المنطقة، وأن الاتفاقية تقوم على أساس أن هناك “وحدة للعراق”، وأنه إذا تعرضت هذه الوحدة للتهديد فإن الاتفاقية تكون قد فقدت أساسها وأصبحت ملغاة.
الحفاظ على الأمن القومي التركي كأحد مبرروات التدخل العسكري في العراق
تبنت تركيا الحل العسكري للمشكلة الكردية في جنوب شرق تركيا، إذ تدخلت تركيا بقوات برية تتكون من 120:150 جندي تركي مدعومين ب20:25 دبابة، في منطقة بعشيقة شمال الموصل شمال العراق في ديسمبر2015، وأعلنت تركيا أن الهدف من تواجد هذه القوات لتدريب قوات البيشمركة الكردية، بينما إعتبر العراق أن هذا اعتداء صارخ على سيادة العراق من قبل تركيا وذلك بوجود كل هذه القوات بدون إذن رسمي من بغداد.
وفي يونيو 2020، أطلقت القوات العسكرية التركية عملية قصف جوي وسمتها بمخلب النسر، وتبعتها بأخرى برية سميت عملية مخلب النمر، لتعقب أفراد حزب العمال الكردستاني المعارض، حيث اعتبرت تركيا أن هذه خطوة دفاعية للحفاظ على أمنها القومي عبر التصدي لهجمات متكررة من قبل حزب العمال الكردستاني انطلاقاً من العمق العراقي الذي يتخذ من مناطق جبال قنديل مقرات لها.
كما تتخوف تركيا من أهداف وطموحات الحزب العمالي لقيام دولة كردية مستقلة في الجزء الجنوبي الشرقي المتاخم لحدودها مع العراق وسوريا، و كان ذلك دافعاً قوياً للأتراك كي يمنعوا القومية الكردية من خلال شن الهجمات العسكرية ليس في مناطق الوجود الكردي في الجنوب الشرقي، بل وصل الحال إلى التدخل العسكري داخل حدود دولة ذات سيادة، ودولة عضو في منظمة الأمم المتحدة، ويرتكز الأتراك على اتفاقيات سابقة تعطي لهم حق التدخل العسكري لمنع أي تهديد ضد الأمن القومي التركي حسب ما أقرته معاهدة أنقرة 1926، ولم يكتف الأتراك بذلك الأمر، بل يعملون حالياً على إقامة قواعد عسكرية داخل العراق بحجة متابعة عناصر حزب العمال الكردستاني.
المراجع
[1] عقيل سعيد محفوض، السياسة الخارجي التركية، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولي، يونيو 2012) ص ص 295 330.
[2] مصطفي كمال، تركيا بين الملاذات الامنة والتوظيف الخارجي للارهاب، مجلة السياسة الدولية، العدد 219، يناير 2020، ص ص 184 190
[3] -Hannah Allam, “Once A Top Booster, Ex-U.S. Envoy No Longer Backs Arming Syrian Rebels,” Mcclatchy, February 18, 2015, [On line] available at: Http://Www.Mcclatchydc.Com/News/Nation-World/World/Article24780202.Html) Accessed On Nov. 28, 2019.
[4]- Semih İdiz, “Pressure Mounts On Turkey Over Radical Groups In Syria,” Al Monitor, October 15, 2013, [On line] available at: Http://Www.Al-Monitor.Com/Pulse/Originals/2013/10/Turkey-Must-Control-Jihadists-Entering-Syria.Html Accessed On Nov. 28, 2019
[5]- Dorian Jones, “Turkey Designates Al-Nusra Front As A Terrorist Organization,” Voice Of America, June 4, 2014, [On line] available at: Http://Www.Voanews.Com/A/Turkey-Designates-Al-Nusra-Front-As-A-Terrorist-Organization/1929675.Html Accessed On Nov. 28, 2019.
[6]- “Turkey’s Jihadists,” Turkey Wonk: Nuclear And Political Musings In Turkey And Beyond, April 28, 2015, [On line] available at: Https://Turkeywonk.Wordpress.Com/2015/04/28/Turkeys-Jihadists/ Accessed On Nov. 28, 2019 ; “Turkish Police Detain 28 In Anti-Al-Qaeda Op, Raid On İHH Office,” Hurriyet Daily News (Turkey), Jan. 14, 2014, [On line] available at: Http://Www.Hürriyetdailynews.Com/Turkish-Police-Detain-25-At-Ihh-Office-In-Anti-Al-Qaeda-Raid.Aspx?Pageid=238&Nid=61000&Newscatid=341 Accessed On Nov. 28, 2019