تشير طبيعة المسرح الجغرافي للساحل الليبي إلى أنه بيئة مواتية لحرب العصابات حيث لا تساعد طبيعة الأرض في كل من برقة وطرابلس في عمل القوات النظامية خاصة القدرات الميكانيكية منها. [1]
إذ تشير الجغرافية العسكرية لنطاق المعمور الساحلي بمرتفعاته الهضبية والجبلية في كل من برقة وطرابلس إلي أنها بمثابة قلعة شعبية folk fortress بينما يعد الظهير الصحراوي الشاسع ورائها بمثابة عمق استراتيجي وخطوط ارتداد خلفية بلا حدود.
وهذا ما يفسر اتجاه إيطاليا أثناء حقبة الغزو الإيطالي إلى الاعتماد على سلاح الطيران وكذلك عمليات الناتو في 2011[2]، ومع ذلك لم يكن سلاح الطيران فعالا في المرتفعات الشمالية إلا في المناطق غير الغابية أو الشجرية وفي الصحراء لأعماق محددة، كما أن القوات الميكانيكية تجد صعوبة بالغة في الصعود والتوغل خاصة حال سقوط أمطار وبالأخص في مناطق كثيفة الغطاء النباتي، أما الصحراء فان الامتداد السحيق في الفراغ يرهق القوات الميكانيكية إذ لم يشلها أحيانا. هذا بالنسبة إلي ساحل كل من برقة وطرابلس فماذا عن الخط الأحمر سرت والظهير لها الجفرة ؟!
ما هي الأهمية الاستراتيجية لمدينة سرت وقاعدة الجفرة؟
أتت اغلب الأخطار الاستعمارية الخارجية التي واجهت الدولة الليبية من الشمال والبحر، على الرغم من أن بعض الأخطار أتت من الجنوب إلا أن الأكثر بروزا هو الاستعمار البحري فتاريخيا، أتى الغزاة إلى ليبيا من البحر المتوسط والسواحل الأفريقية يميناً ويسارا، أو من وراء ساحله المقابل شرقا وغربا، وهذه الحقيقة التاريخية تعكس مركز البحر المتوسط عبر التاريخ كبؤرة القوة في العالم القديم والحديث.
من هذا المنطلق تأتي الأهمية الاستراتيجية لمدينة سرت وقاعدة الجفرة من ناحية الجغرافيا العسكرية إذ تعتمد استراتيجية استعمار ليبيا أو السيطرة على الداخل الليبي لما يمكن تسميته من الساحل إلي الداخل إذ كان أغلب التاريخ الاستعماري لليبيا يأتي كقاعدة عامة استعمارا ساحليا في المراحل المبكرة، بمعنى أنه يتركز أساسا، أن لم يقتصر على الشقة الساحلية المتوسطة أي مدينة سرت ثم يبدأ يتوغل كثيرا في الداخل وصولا إلي قاعدة الجفرة التي تمكن من يستوي عليها السيطرة علي إقليم فزان بحكم الموقع الجغرافي المميز للقاعدة.
بجانب ذلك بلغت القيمة الاستراتيجية لمدينة سرت قمتها أبان الحرب العالمية الثانية وبعدها كما تشهد سياسة القواعد العسكرية بها إذ أن بموقعها الاستراتيجي يمكن على الأقل تهديد شرايين مواصلات البحر المتوسط، وهذا الموقع كان عاملا أساسيا ولا يزال في تاريخ ليبيا السياسي والحضاري. بفقرها الطبيعي والعمراني الشديد تبدو ليبيا كجزيرة صحراوية أو شبه صحراوية بين كتل سكانية ضخمة سواء في مصر أو تونس أو الجزائر أو النيجر وتشاد والسودان في الجنوب، وتكاد تمثل ليبيا فراغا أو شبه فراغ قوة وسط قواعد بمثابة مراكز طبيعية للقوة وهذا ما يفسر لماذا كانت ولا تزال ليبيا فريسة للاستعمار أو القوى الخارجية.[3]
من هذا المنطلق يأتي أهمية تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي برسم خط احمر للتحركات العسكرية لقوات ومليشيات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا تجاه سرت وقاعدة الجفرة، إذ تعد سرت هي قاعدة العمليات البرمائية للداخل الليبي نظرا للطبيعة الجغرافية المناسبة بوجود عدد من الشواطئ المناسبة لعمليات الإنزال البحري. [4]
ومن ثم فإن السيطرة على المدينة يعني التحكم في جميع العمليات البحرية إذ يكون الهجوم البرمائي على شاطئ محمي يعد أكثر العمليات العسكرية صعوبة إذ أن خلال الهجوم البرمائي يعبر الطرف المهاجم خط التماس علي الشاطئ بعد مقارعة ظروف البحر الهائج والأمواج والتيارات ومجموعة أخري من المشكلات المائية ومن ثم لابد من أن يدخل المهاجم في مواجهة مباشرة مع العدو علي شاطئ مفتوح، لهذا يكون المدافع عن الشاطئ أي المسيطر عليه لديه الأفضلية من حيث المكان والزمان إذ يعرف ظروف الأرض والمياه، في حين تكون معلومات المهاجم ناقصة في العادة، ويتمتع المدافع عادة بمزية الوقت لذلك فإنه يستطيع إعداد دفاعاته بتحصينات مدروسة بوضع كثير من العوائق. في حين تقتصر خيارات المهاجم علي عمليات تتم خلال فسح ضيق من الزمن عندما تكون ظروف المد والجزر والأمواج ملائمة للقيام بعملية إنزال. ومما يزيد تعقيدات ذلك حقيقة أن المهاجم يكون تحت رحمة أحوال الطقس.[5]
وتتطلب العمليات البرمائية في جوهرها مساع مشتركة تتطلب التكامل بين الوحدات البحرية والبرية والجوية، وتعرف بأنها هجمات تشنها القوات البحرية وقوات الإنزال انطلاقا من البحر ضد شاطئ العدو وتتم لتحقيق ثلاث أهداف 1-مواصلة تنفيذ مزيد من العمليات البرية 2-الحصول على قواعد ومراس للعمليات المستقبلية 3-منع العدو من الحصول قاعدة أو منطقة.
ويمكن تقسيم العمليات البرمائية إلي خمس أنواع من العمليات المختلفة هي الهجوم والإنزال والانسحاب واستعراض القوة والغارات. وتتميز العمليات البرمائية نظرا لتعقيداتها بخصائص فريدة إذ تؤدي الجغرافيا دورا حاسما فيها فالقوة المهاجمة مكتفية ذاتيا بحكم الضرورة ويجب أن تكون قادرة على العمل بشكل مستقل ولهذا السبب تعتبر المسافة عاملا رئيسيا فيها.
وغالبا ما يتم نقل قوة برمائية إلى مسافة تبلغ مئات الأميال بعيدا عن قاعدتها وهي الأمور وأنواع التدريبات التي ارتكزت عليها عمليات الفتح الاستراتيجي للمناورة حسم 2020 في المنطقة الغربية المصرية.[6]
ما هي الاستراتيجية المصرية في المسرح الليبي؟
تعتمد الاستراتيجية العسكرية المصرية في المسرح الليبي بترسيم خط احمر للأمن القومي المصري على ما يمكن تسميته بالحرمان من الأهداف أي استراتيجية الفراغ إذ تعتمد على عدم منح أعداءك أي هدف يهاجمونه، مع ضرورة أن تكون خطرا ومتملصا وخفيفا، وان تدفع الأعداء إلى أن يتبعونك إلي الفراغ بدلا من المعارك المباشرة، مع قيامك بهجمات جانبية وقرصات خفيفة مستفزة ومؤذية.[7]
ونجد تنفيذا عمليا لهذه الاستراتيجية في استهداف أنظمة الدفاع الجوي لقاعدة الوطية في طرابلس من قبل طيران مجهول، بالإضافة إلى استهداف الإمداد العسكرية والمرتزقة القادمة من سورية للمشاركة في القتال بجانب قوات السراج، إذ تؤدي هذه العمليات إلي ملء الفراغ دائما وحين لا تمنح الأخرين شيئا يهاجمونه وتكون متبخرا قدر الإمكان فإنك تلعب على هذا الضعف البشري.
هذه الاستراتيجية أصبحت أداة أكثر قوة وشيوعا في الحرب الحديثة لأسباب عدة: أولها استغلال التطور التكنولوجي في مجال الأسلحة والمتفجرات، أصبح بإمكان مجموعة صغيرة من المقاتلين التسبب بضرر أكبر بكثير. ثانيا تم تكييف حرب العصابات مع الأهداف السياسية مما زاد من تأثيرها.
ما هي الاستراتيجية التركية في المسرح الليبي؟
تعتمد تركيا عبر دعمها للسراج بالمرتزقة والسلاح والعتاد والأموال، إلى ما يمكن تسميته باستراتيجية الأمر الواقع إذ تستهدف عبر نجاحات صغيرة ممتالية أن تبتلع عدة مناطق وتلعب على عدم انتباه القوى الكبرى، وقبل أن يتداركوا الأمر تكون قد راكمت إمبراطورية كاملة.
إذ عملت تركيا علي دعم عمليات السراج في طرابلس أولا لحين السيطرة عليها ثم امتدت العمليات تباعا للمدن حول طرابلس مثل ترهونة ثم امتد الأمر إلي مدينة سرت كونها تحمل أهمية استراتيجية كبرى كونها منطقة الإنزال البرمائي للسيطرة على المدن الليبية كما أنها تعد ممر دعم لوجستي للمرتزقة المقاتلة مع حكومة السراج، إذ تعتمد تركيا حالياً على عمليات الإمداد الجوية فقط عبر ارتكاز طرابلس ومن ثم تهدف الأن للحشد الكبير لمحاولة دخول سرت والسيطرة عليها لإمكانية المسيطر عليها من فرض الحماية البرمائية كما أوضحنا سابقا. [10]
كما تعتمد الاستراتيجية التركية على تجنب مواجهة القوى الدولية وأخذ المدن مدينة-مدينة حتى لا تثير شكوك ونوايا المنافسين من الجانب الأوروبي وكذلك طرف الصراع الداخلي الأخر المشير خليفة حفتر وحلفائه، إذ تعتمد الاستراتيجية علي فرضية اذا أخذت شيئا أو جزء هامشيا فسيكون من المستحيل أن يختار منافسيك وخصومك الحرب عليك، ثم تقوم بعدها بفترة قريبة أو بعيدة كجزء من هذه الاستراتيجية بأخذ جزء أو مدينة أخري هذه المرة سوف يصبح أعدائك اكثر قلقا إذ سيرون أن هناك نمطا معينا لكن ما أخذته مجددا هو صغير ومرة أخري سيتعين عليهم السؤال هل الأمر يستحق عناء الحرب؟
المراجع
[1] جمال حمدان، الجماهرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي،( القاهرة: مكتبة مدبولي، الطبعة الاولي، 1996) ص ص 19-75.
[2] ” “واحدة من انجح العمليات”ـ أمين عام الناتو يعلن انتهاء عملية ليبيا”، دوتش فيلة، 31 أكتوبر 2011:
[3] جمال حمدان، الجماهرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي، مرجع سبق ذكره.
[4] ” خطاب السيسي.. “كارت أحمر” بوجه أطماع أردوغان في ليبيا”، موقع العين، 21 يونيو 2020:
https://al-ain.com/article/sisi-libya-turkey-brotherhood-erdogan
[5] Francis A. Galgano, Eugene J. Palka. Other Authors, Modern military geography, Routledge; 1 edition (October 3, 2010), p p 251- 275.
[6] Ibid.
[7] Greene, Robert, “The 33 Strategies of War”, Viking Adult, 2006, pp 400- 490.
[8] Ibid.
[9] Ibid.
[10] Ibid.