شهدت الأزمة الليبية تصاعداً ملحوظاً على المستويين العسكري والسياسي منذ مطلع العام الحالي، حيث كثفت تركيا من نفوذها العسكري وتحولت من مجرد مُورد أسلحة ومقاتلين إلى “حكومة الوفاق” لتصبح شريكاً عسكرياً على الأرض بشكل رسمي وما ارتبط بهذا التحول من تغير في حالة التسليح كماً وكيفاً.
حيث نقلت تركيا إلى ليبيا معدات عسكرية صالحة لاستخدام معارك أكبر من حرب العصابات، بالإضافة إلى تقديم إسناد لمقاتلي الميليشيات في ليبيا من خلال إرسال ضباط وجنود أتراك بشكل رسمي وعلني. وبالتوازي مع ذلك احتلت الأزمة الليبية مكاناً ملحوظاً في الخطاب السياسي التركي بشكل عام وخطاب الرئيس أردوغان بشكل خاص، عوضاَ عن التغطية الإعلامية التركية الموسعة للشأن الليبي.
بدورها، بدأت مصر منذ مطلع العام في إنجاز تحول استراتيجي فيما يخص الأزمة الليبية، حيث اتسم هذا التحول بمستوى عالي من الاستنفار على المستوى السياسي والإعلامي والعسكري، ففي حين لم تكن الأزمة الليبية سوى مجرد هامش في الخطاب السياسي المصري، إلا أن تطوراً بدا ملحوظاً قد جعلها تحتل موقعاً رئيسياً في هذا الخطاب، وكان أخرها خطاب الرئيس المصري بقاعدة “سيدي براني” غربي مصر بالقرب من الحدود الليبية عندما أعلن عن عقيدة “الخط الأحمر” التي تعني فيما تعني أن مصر لن تسمح بأي شكل من الأشكال لأى قوة إقليمية مُعادية بعبور خط “سرت الجفرة” الليبي، فيما بدا أنه قرار مسبق بأن مصر سيكون لها رداً عسكرياً في هذا الشأن.
وبالتوازي مع هذا التحول الملحوظ فيما يخص الخطاب السياسي وما يرافقه من تحركات دبلوماسية على الأرض، أعلنت مصر عن عدة مناورات عسكرية في الاتجاه الاستراتيجي الغربي نايحة الحدود المصرية الليبية، واتسمت هذه المناورات بأنها تُحاكي عمليات عسكرية مُحتملة سواء على خط الساحل المصري أو عمليات خاطفة للقوات الخاصة وعمليات الإبرار الجوي والبحري، وهي التدريبات التي لا يمكن فصلها عن كونها عملية تهيئة وتدريب لمعركة شبيهة في لييبيا أو شرق المتوسط، أو هكذا تريد مصر أن تمرر رسالة حتى لو لم تكن ترغب في الاشتباك العسكري.
ما هي مستويات الاستجابة لدى كل من مصر وتركيا؟
في ديسمبر 2019 كانت “حكومة الوفاق” قد طلبت من تركيا بشكل رسمي التدخل عسكرياً في ليبيا، وهو الطلب الذي قوبل بموافقة رسمية من البرلمان التركي الذي يتمتع فيه حزب العدالة والتنمية وتحالف القوميون بالأغلبية، حيث حظى مشروع قانون إرسال قوات تركية إلى ليبيا بتأييد 325 صوتاً بينما رفضه 184 نائباً.
وبدوره، أصدر البرلمان الليبي بياناً أمس الإثنين 13 -7-2020 يطلب فيه تدخلاً عسكرياً مصرياً إلى ليبيا في حال اقتضى الأمر، حيث ورد في البيان ( للقوات المسلحة المصرية التدخل لحماية الأمن القومي الليبي والمصري إذا رأت أن هناك خطراً داهماً يطال أمن بلدينا).
ترتب على التدخل العسكري التركي بعد طلب “حكومة الوفاق” أن قامت تركيا بالعمل على تطوير نفوذها العسكري على مستوى التسليح والقوات، ففيما كانت الطائرات المُسيرة هي عِماد التسليح التركي في ليبيا لفترات طويلة، فإن تحولاً قد حدث منذ مطلع عام 2019 عندما بدأت تركيا في نقل أسلحة ومعدات أكثر تقدماً مثل أنظمة هوك الأمريكية ومنظومة رادارات التشويش والحرب الإلكتروينة “كورال” ، ومدرعات “كيربي” المضادة للألغام، وفرقاطات تركية وصلت إلى ساحل طرابلس، عوضاَ عن الجهود التركية في الحصول على نقاط ارتكاز عسكري ثابته ومثال ذلك الاستيلاء على قاعدة الوطية وتشييد منشأت عسكرية في مصراته.
في ظل هذا الحشد التركي داخل الحدود الليبية، بدأت مصر هي الأخرى في الاستنفار العسكري في أقرب نقطة من الحدود المصرية الليبية، حيث أجرى الجيش المصري مناورات عسكرية استعرضت فيها القوات كفاءتها فيما يخص عمليات الإبرار الجوي والبحري وعمليات القوات الخاصة برياً وعلى خط الساحل، بالإضافة إلى تدمير أهداف بحرية واستعراض لقوات المظلات.
تحاول مصر من خلال هذه المناورات تحقيق التالي:
- التهديد بإمكانية الدخول في حرب، حتى لو كان خيار الحرب يأتي في نهاية الخيارات المطروحة، أو ما يُعرف باستراتيجية “التهديد المعقول باللجوء للقوة”، حيث تساهم هذه الاستراتيجية في تحقيق حالة من الردع للطرف المُعادي عبر تمرير رسالة أن هناك تحولاً من حالة السكون إلى حالة الاستنفار قد تم، بما قد يدفع الطرف المُعادي إلى تعليق أو إبطاء تحركاته العسكرية. وهو الأمر الذي تحقق بالفعل في الميدان الليبي حيث لوحظ أن تركيا قد عملت على إبطاء تحركاتها بعد رصدها للاستنفار العسكري المصري خلال الفترة الماضية.
- استنفار القوى الدولية عبر رفع مستوى القلق لديها من احتمالات اندلاع عملية عسكرية بين مصر وتركيا في منطقة مصالح سياسية واقتصادية لهذه القوى. باعتبار أن تصاعد الصراع والتحول لحالة الحرب الشاملة أمر غير مفيد لمعظم هذه القوى. حيث يوجد لأوروبا مصالح سياسية واقتصادية في ليبيا، وتحولها لمسرح حرب ليس مقبولاً بما يشكل تهديداً أمنياً للحديقة الخلفية لأوروبا. ورغم أن روسيا تقف في منطقة رمادية بين طرفي النزاع في ليبيا، فإنها لا تريد تعميق الأزمة حتى لا تسيطر التنظيمات الإرهابية على مصادر الطاقة محل الاهتمام الروسي. عوضاَ عن أي تعقيد للمسرح الليبي يعني تصاعد احتمالات التدخل الأمريكي وهو الأمر الذي لا ترغب فيه روسيا. أما الولايات المتحدة الأمريكية التي بدا أنها الأقرب للوفاق فإنها لا ترغب في مشاهدة مستنقع جديد ينمو بما يضطرها للغوص فيه في الوقت الذي تحاول أن تأخذ خطوات للخلف من منطقة الشرق الأوسط. وقد حققت المناورات العسكرية والاستنفار المصري الغرض بالفعل، حيث لوحظ زيادة في وتيرة التحرك من القوى الدولية فيما يخص الأزمة الليبية ومساعي البحث عن حل -كُل حسب وجهة نظره-، وذلك منذ إعلان الرئيس المصري عن عقيدة “الخط الأحمر” في قاعدة سيدي براني بتاريخ 22-7-2020 .
وبناءً على مستويات الاستجابة أعلاه، فمن الواضح أن كل من مصر وتركيا تتقدمان بخطى ثابته وبشكل متوازي في ليبيا، كأن يخطو طرف خطوة فيتقدم الطرف الأخر خطوة أيضاَ، وهو ما بدا في مؤشر استجابة كل منهما. حيث يمكن تشبيه مصر وتركيا بقطارين يسيران إلى جوار بعضهما البعض تقريباً، ولا يودان أن يصلا إلى المحطة النهائية، التي قد تكون مسرح حرب.
ورغم أن تركيا متقدمة بخطوة على مصر فيما يخص التواجد العسكري في الميدان، إلا أن هناك عاملين يجب وضعهما في الاعتبار:
- الفارق الزمني ما بين دعوة “حكومة الوفاق” لتركيا بالتدخل عسكرياً في ليبيا، والذي يبلغ عاماً، الذي كان كافياً لتعزيز النفوذ العسكري التركي في ليبيا، وبين توقيت دعوة البرلمان الليبي لمصر بالتدخل عسكرياً أمس فقط. وبالإشارة للعبة شد الحبل بين مصر وتركيا فإن الخطوة القادمة من المفترض أن تكون مصرية، والتي قد تكون نقل قوات ومعدات إلى الشرق الليبي دون أن يكون هدفها الأول هو الدخول في اشتباك بقدر ما يكون هدفها موازنة النفوذ العسكري التركي. وفي هذه الحالة نكون أمام ميزان قوى متعادل تماماً في ليبيا.
- تتمع مصر بميزة استراتيجية كونها تتماس حدودياً مع ليبيا، بالإضافة إلى وجود قاعدة عسكرية في أقرب نقطة للشرق الليبي، وبالتالي إذا قررت مصر نقل قوات فإنها ستقوم بذلك في وقت قليل للغاية، بما قد يشكل تعويضاَ للفجوة الحاصلة بمقدار خطوة بين مصر وتركيا.
ما هي احتمالات تلبية مصر لطلب البرلمان الليبي بالتدخل العسكري؟
بإعلان البرلمان الليبي عن طلبه لمصر بالتدخل العسكري، فإن مصر بات لديها موافقة من الجانب الليبي بالتدخل، وبالتالي يظل قرار التدخل العسكري رهن تقدير القيادة المصرية حسب ما هو متوافر لديها من معطيات من حيث تطور حالة المستجدات على الأرض أو وفاة المسار السياسي.
- من المُحتمل أن تقوم مصر بتحريك قوات وأسلحة نحو الشرق الليبي ولا يكون الغرض من تحريك هذه القوات الدخول في اشتباك عسكري صريح، بقدر ما يكون الغرض منها التالي:
- موازنة النفوذ التركي في ليبيا، بما قد يساعد بدوره في تحقيق توازن في حالة الانتقال إلى مسار سياسي مُحتمل، سواء كانت محاصصة سياسية واقتصادية في ليبيا أو ترتيبات في شرق المتوسط.
- رفع حالة ثقة الجيش الوطني الليبي والمكونات السياسية المساندة تجاه مصر كحليف. حيث قد يترتب على تصاعد التغول التركي عسكرياً وتقديم كافة أشكال الدعم لقوات الوفاق أن يطرح حلفاء مصر في ليبيا سؤالاً عن ضعف الدعم والإسناد العسكري الذي تُقدمه مصر لهم. وبالتالي يدعم تحريك القوات المصرية نحو شرق ليبيا ثقة الجيش الوطني الليبي والمكونات السياسية في أنفسهم وفي مصر كحليف اتخذ خطوات عملية على أرض الواقع.
2- على قدر الفائدة الاستراتيجية من إعلان الرئيس المصري عن أن “سرت الجفرة” خط أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري ، إلا أن هناك جانباً أخر غاية في الحساسية من هذا الإعلان، وهو أنه أصبح كطريق بمسار واحد لا يمكن العودة عنه إطلاقاً بأي حال من الأحوال. حيث أن أي إقتراب تركي من هذا الخط سيستدعي رداً عسكرياً واضحاَ وصريحاً من مصر، وإلا ستتداعي مصداقية الرئيس المصري في داخل مصر ولدى الحلفاء الإقليميين، كما سيشكل أي تراجع مصري خصماً من رصيد مظهر القوة الإقليمية لمصر. وبالتالي عندما أعلن الرئيس المصري عن “الخط الأحمر” فإنه يكون بذلك قد ربط جزءاً من مستقبل نظام الحكم والبلاد بهذا الميثاق. وبالنظر إلى السلوك السياسي للرئيس المصري، يمكن القول أنه سيمضي حينها في مسار الرد العسكري الذي أعلن عنه إذا ما اقتربت أي قوة مُعادية من خط سرت الجفرة.
بالإشارة إلى كُل ما سبق، يمكن وصف الوضع الحالي في ليبيا حسب أخر المستجدات بأنه عبارة عن ملعب ، تُجري فيه كل من مصر وتركيا “لعبة شد الحبل” ، ويتشكل الجمهور من القوى الدولية الأوروبية وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث لكل هذه القوى لها أهداف مختلفة . وفي لعبة “شد الحبل” هذه تتقدم كل من مصر وتركيا تجاه بعضهما البعض في خطوات متساوية تقريباً. فكلما أخذ طرف خطوة فإن الطرف الأخر يخطو هو الأخر واحده للأمام، حيث لا زالت هناك مسافة قبل حدوث اصطدام نهائي ومن الواضح حتى الآن أن الطرفان لا يرغبان في هذا الاصطدام للأسباب التالية:
- فيما يخص مصر، فإنها تضع في اعتبارها أن عملية عسكرية موسعة في ليبيا قد يترتب عليها تحول ليبيا إلى مستنقع غاية في التعقيد والهشاشة على حدودها الغربية، وما قد يترتب على ذلك من تصاعد مستوى التهديدات الأمنية، هو الأمر المفيد لتركيا التي قد ترى في هذا الوضع فخاً للجيش المصري.
- تركيا هي الأخرى قد لا تكون متطلعة لعمل عسكري موسع لاعتبارات بُعد خطوط الإمداد مقابل اقتراب الجيش المصري من خطوط إمداده، بالإضافة إلى أن الرئيس التركي عادة ما يضع عينيه على مصلحة شخصية ومثال ذلك أن غرق تركيا عسكرياً في ليبيا قد يكون له ارتداد سلبي على نظام الحكم في داخل تركيا، خصوصاً وأن الجيش التركي يكون بذلك قد انتشر في جبهة إضافية خارج البلاد.
ورغم هذه المعطيات، فإن الطرفين المصري والتركي مستمران في الحركة خطوة بخطوة وبشكل متواز وعلى نفس الوتيرة في اتجاه مسار تصادمي إلا أنهما يأملان عدم الوصول إلى هذه المحطة، وفي هذه الأثناء فإن كل طرف لن يتوقف عن الاستعداد لاحتمالات الاشتباك العسكري.