تعتبر الهيمنة الليبرالية استراتيجية طموح، تهدف من خلالها دولة ما إلى تحويل أكبر عدد ممكن من البلدان إلى ديمقراطيات ليبرالية على صورتها، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تعزيز الاقتصاد الدولي وبناء المؤسسات الدولية. في جوهرها، تسعى الدولة الليبرالية إلى نشر قيمها على نطاق واسع وبعيد. إن هدفي من هذا الكتاب هو وصف ما يحدث عندما تتبنى دولة قوية تحقيق هذه الاستراتيجية على حساب سياسات توازن القوى.
ينظر الكثيرون في الغرب، خاصة في أوساط نخب السياسة الخارجية، إلى الهيمنة الليبرالية باعتبارها سياسة حكيمة ينبغي للدول أن تتبناها بلا ارتياب. فيقال إن نشر الديمقراطية الليبرالية من شأنه أن يخلق شعورًا جيدًا من المنظورين الاستراتيجي والأخلاقي علي السواء. بداية، يسود الظن أن الليبرالية طريقة مثلى لحماية حقوق الإنسان التـي تتعرض أحيانًا لانتهاكات شديدة من قبل البلدان السلطوية. ولأن تلك السياسة تفترض أن الديمقراطيات الليبرالية لا ترغب في خوض الحرب ضد بعضها البعض، فإن الليبرالية تقدم صيغ يمكن من خلالها تجاوز الواقعية وتعزيز السلام الدولي. ختامًا، يزعم مؤيدو الهيمنة الليبرالية أنها تساعد على حماية الليبرالية داخل الوطن من خلال إزاحة الدول السلطوية التـي قد تساعد القوى غير الليبرالية دائمة الحضور داخل الدولة الليبرالية.
إن هذه الحكمة السائدة خاطئة. نادرًا ما تكون القوى العظمى في وضع يسمح لها بممارسة سياسة خارجية ليبرالية على نطاق واسع. فطالما وجدت قوة أو قوتان عظميان على الأرض، فلن يكون لديها خيارات سوى العناية الشديدة بموقعها في توازن القوى العالمي، وأن تتصرف وفقًا لمقتضيات الواقعية. إن القوى العظمى من كل الخليفات الفكرية تهتم بشدة ببقائها، حيث يلوح دائمًا، في ظل النظام ثنائي أو متعدد القطبية، خطر أن تتعرض للهجوم من قبل قوة عظمى أخرى. في تلك الظروف، دائمًا ما تتبنـى القوى العظمى سلوكًا متصلبًا بخطاب ليبرالي. إنها تتحدث مثل الليبراليين، وتتصرف مثل الواقعيين. أما إذا تبنت السياسات الليبرالية التـي تتضارب مع المنطق الواقعي، فمن المحتم أن تندم على هذا الاختيار.
في بعض الأحيان، قد تقابل إحدى الديمقراطيات الليبرالية وضعًا مواتيًا لتوازن القوى يمكن أن يتقبل الهيمنة الليبرالية. غالبًا ما يتحقق هذا الوضع في ظل العالم أحادي القطبية، حيث لا تعاني القوة العظمى الوحيدة القلق من أن تهاجمها قوة عظمى أخرى، حيث لا يوجد غيرها. ومن ثم، ستتخلى القطب الواحد تقريبًا عن الواقعية وسيتبنـى سياسة خارجية ليبرالية. إن الدول الليبرالية لديها عقلية تبشيرية لصيقة بتكوينها ومن العسير عليها أن تكبح زمامها.
لأن الليبرالية تعلي من مفهوم الحقوق الأصيلة أو الطبيعية، فإن الليبراليين الملتزمين مهتمون للغاية تقريبا بحقوق كل إنسان على الأرض. يخلق هذا المنطق الكوني دافعًا قويًا لدى الدول الليبرالية كي تتورط في شؤون البلدان الأخرى التـي تنتهك حقوق الإنسان جديًّا. ولتحقيق تقدم في هذا السياق، فإن الطريقة الأفضل للتأكد من أن حقوق الأجانب ليست عرضة للخطر، هي أن يعيش هؤلاء في ظل ديمقراطية ليبرالية. يقود هذا المنطق مباشرة إلى سياسة نشطة في تغيير النظم الحاكمة؛ حيث يكون الهدف إفصاء الحكام الأوتوقراطيين وتنصيب حكومات ديقراطية بدلاً منهم. لا يتحرج الليبراليون من هذه المهمة، وذلك لأنهم بشكل أساسـي يحملون إيمانًا كبيرًا في قدرة الدولة على القيام بهندسة اجتماعية داخل الوطن وفي الخارج. ويعتقد هؤلاء أن خلق عالم تسكنه الديمقراطية الليبرالية وصفة لبناء السلام العالمي، الذي لن يؤدي بدوره إلى إنهاء الحرب فقط، بل سيؤدي أيضًا إلى تقليص، إن لم يكن محو تلك اللعنة المزدوجة المتمثلة في الانتشار النووي والإرهاب. وأخيرًا، فإن هذه الفكرة ستحمي بدورها الليبرالية في الوطن وفي الخارج.
على الرغم من هذه الحماسة، فإن الهيمنة الليبرالية لن تحقق أهدافها، وسيأتي إخفاقها الحتمي بتكاليف ضخمة. غالبًا ما ينتهي الحال بالدول الليبرالية بأن تخوض حروبًا لا نهاية لها، وهو ما يزيد، بدلاً من أن يقلص، مستوى الصراع في السياسة الدولية، وهو ما يعظم من أزمات الانتشار النووي والإرهاب. علاوة على هذا، فمن المؤكد أن يؤدي السلوك المولع بالحروب إلى تهديد قيمها الليبرالية. إن الليبرالية في الخارج تؤدي إلى نقيض الليبرالية في الداخل. وفي النهاية، حتـى إذا كانت الدول الليبرالية قادرة على تحقيق أهدافها، نشر الديمقراطية بعيدًا وعلى نطاق واسع، تعزيز التعاملات الاقتصادية، وبناء المؤسسات الدولية. فلن ينتج عن هذه الأهداف أي سلام.
يتمثل العامل الأساسـي في فهم أوجه قصور الليبرالية هو الاعتراف بعلاقتها بالقومية والواقعية. وموضوع هذا الكتاب هو تلك الأيديولوجيات الثلاث، وكيف تتفاعل للتأثير على السياسة الدولية.
إن القومية أيديولوجيا سياسية تتمتع بالقوة الشديدة.وتدور حول تقسيم العالم إلى تنويعات واسعة من الأمم، وهي وحدات احتماعية متماسكة، تتميز كل منها بثقافة خاصة. عمليًّا تفضل كل أمة أن تكون لديها دولة خاصة بها، على وإن كانت بعض الأمم غير قادرة على هذا. مع ذلك، فإننا نعيش في عالم تسكنه حصريًا الدول/ الأمم. الدول الليبرالية هي الأخرى أمم/ دول. ولا شك في إمكانية التعايش بين الليبرالية والقومية، ولكن عندما يتصادمان في الغالب، ودائمًا ما تفوز القومية.
غالبًا ما يعرقل تأثير القومية السياسة الخارجية الليبرالية. على سبيل المثال، تضع القومية تأكيدًا ضخمًا على حق تقرير المصير، وهو ما يعنـي أن معظم البلدان ستقاوم جهود القوى الدولية العظمى في التدخل في سياستها الداخلية، وهو بالطبع ما تدور حوله الهيمنة الليبرالية. كما أن هاتين الأيديوجيتين تتصادمان حول الحقوق الفردية. يؤمن الليبراليون أن كل شخص لديه الحقوق نفسها، بغض النظر عن البلد التـي يطلق عليها وطنًا. أما القومية فهي أيديولوجية مرتبطة بمجموعة بشرية من بدايتها لنهايتها، وهو ما يعنـي أنها لا تتعامل مع الحقوق باعتبارها حقوقًا أصيلة. في التطبيق، لا تهتم الغالبية الساحقة من الناس حول العالم بشكل كبير بحقوق الأفراد في البلدان الأخرى. بل هم أكثر عناية بحقوق مواطني بلدانهم، وقد تكون هناك حدود لهذا الالتزام. إن الليبرالية تغالي في الترويج للحقوق الفردية.
لا تضاهي الليبرالية أيضًا الواقعية. في جوهرها، تفترض الليبرالية أن الأفراد الذين يشكلون أي مجتمع قد تنشب فيما بينهم خلافات حول ما يشكل الحياة الصالحة بما قد يؤدي إلى محاولة أن يقتل بعضهم بعضًا. لذا، فالدولة ضرورة للحفاظ على السلام. ولكن لا توجد تلك الدولة في العالم التـي تمنع غيرها من التسبب في المتاعب عندما تنشب بينهم خلافات عميقة. ليست بنية النظام الدولي تراتبية Heirarchic بل فوضوية Anarchiac، وهي ما يعنـي أن الليبرالية التـي تمارس على السياسة الدولية غير نافعة. وبالتالي، ليس لدى الدول أي خيار سوى أن تتصرف وفقًا لمنطق توازن القوى، إذا كانت ترغب في البقاء. ومع ذلك، قد تكون هناك حالات خاصة تشعر فيها الدولة بالأمان بحيث تستطيع أن تترك السياسة الواقعية Realpolitik، وأن تمارس سياسات ليبرالية بحق. دائمًا ما تكون النتائج سيئة، لأن القومية بشكل كبير تحبط مساعي التبشير الليبرالي.
حجتـي في هذا الكتاب، باختصار، هي أن القومية والواقعية دائمًا ما تهزمان الليبرالية. لقد تشكل عالمنا على نحو كبير بهاتين الأيديولوجيتين القويتين، ولم تشكله الليبرالية. فلنتصور أن العالم السياسـي منذ خمسة قرون خلت كان في غاية التنوع: إذ أنه ضم الدول/ المدن، والدوقيات والإمبراطوريات والإمارات، وأشكالاً سياسية أخرى. لقد انتهى هذا العالم لصالح عالم يتشكل حصريًّا من الدول/ الأمم. على الرغم من أن العديد من العوامل ساهمت في تحقيق هذا التحول، كانت أهم قوتين دافعتين وراء نظام الدولة الحديثة هي القومية وسياسة توازن القوى.
اعتناق أمريكا للهيمنة الليبرالية
تدفع هذا الكتاب رغبة أيضًا في فهم السياسة الخارجية الأمريكية المعاصرة. الولايات المتحدة بلد ليبرالي بعمق برز من الحرب الباردة باعتباره الدولة الأقوى في النظام الدولي. وقد جعله انهيار الاتحاد السوفيياتي عام ١٩٩١ في وضع مثالي لممارسة الهيمنة الليبرالية. اعتنقت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية هذه السياسة الطموح بقليل من التردد، وبكثير من التفاؤل حول مستقبل الولايات المتحدة في العالم. في بادئ الأمر على الأقل، كان لدى الجمهور الأوسع هذا الاعتقاد.
عبرت مقالة فرانسيس فوكوياما الشهيرة “تهاية التاريخ؟” والمنشورة قبل اقتراب نهاية الحرب الباردة عن هذه الروح. ذهب فوكوياما إلى أن الليبرالية قد هزمت الفاشية في النصف الأول من القرن العشرين، والشيوعية في النصف الثاني من القرن نفسه، وهي تقف الآن وحدها بلا بديل ممكن. ولن يلبس العالم حتـى تسيطر عليه الديمقراطيات الليبرالية في نهاية الأمر. وفقًا لفوكوياما، لن يكون بين دول العالم أية نزاعات ذات شأن، وستنتهي الحروب بين القوى العظمى. أما المعضلة الأكبر التـي ستواجه البشر في العالم الجديد، برأيه، قد تكون الملل.
ساد اعتقاد واسع آنذاك أن انتشار الليبرالية سيودي بسياسة توازن القوى. فسيشهد العالم نهاية المنافسة الأمنية الشرسة التـي شكلت العلاقات بين القوى العظمى. أما الواقعية، ذلك النموذج الفكري الذي سيطر على العلاقات الدولية فترة طويلة، فسينتهي به الحال إلى “نفايات التاريخ”. أعلن بيل كلينتون في حملته الرئاسية عام ١٩٩٢ أن “في عالم تغزوه الحرية لا الطغيان، لن يكون هناك مكان للحسابات التشكيكية التـي تدور حول سياسات القوة المجردة. فهي غير ملائمة لعصر جديد تذيع فيه الأفكار والمعلومات حول العالم قبل أن يقرأ السفراء برقياتهم.”
ربما لا يوجد رئيس أمريكي اعتنق مهمة نشر الليبرالية بشكل أكثر حماسة من جورج بوش الابن، الذي قال في خطاب في مارس ٢٠٠٣ قبل أسبوعين من غزو العراق “لقد أظهر النظام العراقي الحالي قدرة الطغيان على نشر الفزع والعنف في كافة أنحاء الشرق الأوسط. أما العراق المحرر، فسيظهر قوة الحرية وقدرتها على تغيير هذه المنطقة الحيوية ببث الأمل والتقدم في حياة الملايين. إن مصالح أمريكا في تحقيق الأمن، وإيمان أمريكا في الحرية، كلاهما يؤدى إلي السبيل نفسه: إلى عراق حر ومسالم.” لاحقًا، في سبتمبر من العام نفسه، أعلن بوش: “إن زحف الحرية هو نداء عصرنا، إنه نداء بلدنا. من النقاط الأربعة عشر إلى الحريات الأربعة، إلى خطاب ويستمنستر، سخرت أمريكا قوتها في خدمة المبدأ. إننا نؤمن أن الحرية هي ما جبلت عليه الطبيعة؛ إننا نؤمن أن الحرية هي اتجاه التاريخ. إننا نؤمن أن الإنجاز والتميز البشري إنما يتحققان في الممارسة المسؤولة للحرية. وإننا نؤمن أن الحرية، تلك الحرية التـي نثمنها، هي ليست لنا وحدنا، بل هي حق وقدر للبشرية.”
إلا أن خطأ فادحًا قد وقع. إن نظرة الناس للسياسة الخارجية الأمريكية اليوم في ٢٠١٨ مختلفة تمامًا عما كانت عليه في ٢٠٠٣، وبدرجة أقل عما كانت عليه في بداية تسعينات القرن الماضـي. يسيطر التشاؤم لا التفاؤل على معظم التقديرات التـي تتناول إنجازات أمريكا أثناء بعدها عن الواقعية. أثناء الرئيسين بوش وباراك أوباما، قامت واشنطن بدور كبير في بذر الموت ونشر الخراب عبر الشرق الأوسط الكبير، ولا يوجد دليل قوي على أن هذه المأساة ستنتهي قريبًا. أما سياسة أمريكا تجاه أوكرانيا، والتـي يحركها منطق ليبرالي، مسؤولة بالأساس عن الأزمة المستمرة بين روسيا والغرب. إن الولايات المتحدة في كل عامين من ثلاثة أعوام منذ العام ١٩٨٩، حيث خاضت سبع حروب مختلفة. ولا ينبغي لنا الاندهاش من هذا. فعلى العكس من الحكمة السائدة في الغرب، ليست السياسة الخارجية الليبرالية وصفة للتعاون أو السلام بل لانعدام الاستقرار والصراع.
في هذا الكتاب أركز علي الفترة ما بين ١٩٩٣ و٢٠١٧، عندما كانت إدارات كلينتون وبوش وأوباما، وحين سيطرة كل منها على السياسة الخارجية الأمريكية لمدة ثمان سنوات متتالية، ملتزمة تمامًا بممارسة الهيمنة الليبرالية. وعلى الرغم من أن الرئيس أوباما كان لديه تحفظات علي تلك السياسة، فإن هذه التحفظات لم يكن لديها أي تأثير علي الكيفية التـي تصرفت بها إدارته في الخارج. حينما كنت في طور الانتهاء من هذا الكتاب، كان من الصعب تحديد الصورة التـي ستكون عليها سياسة الرئيس ترامب، وإن كان واضحًا من خطابه خلال حملته الانتخابية في العام ٢٠١٦ أنه يدرك أن الهيمنة الليبرالية قد آلت إلي فشل محقق وأنه يفضل لو تخلى عن بعض عناصرها الأساسية. ثانيًا، هناك سبب جيد للاعتقاد بأنه مع صعود الصين وعودة القوة الروسية، بما يعنـي هذا من إعادة طرح سياسات القوى العظمى على الساحة، فلن يكون لدى ترامب أي خيار غير التحرك تجاه استراتيجية كبرى تقوم على الواقعية، وحتـى وإن كان هذا التحرك سيلقى معارضة كبيرة في الداخل.
مركزية الطبيعة البشرية
عندما يحاول الباحثون قياس أثر الليبرالية على السياسة الدولية، دائمًا ما يبدؤون بتحليل مجموعة من النظريات التـي يمكن النظر إليها بشكل واسع على أنها بدائل للواقعية. تذهب نظرية السلام الديمقراطي إلى أن الديمقراطيات الليبرالية لا يقاتل بعضها البعض، لكنهم ليسوا بالضرورة أكثر سلمية من غير الديمقراطيات. ووفقًا لنظرية الاعتماد المتبادل، فإن البلدان التـي تمتلك علاقات اقتصادية كبيرة نادرًا مع تتصارع مع بعضها؛ إذ أن تكاليف الحرب تمنع الجانبين هذا. وتزعم نظرية المؤسسية الليبرالية أن الدول التـي تنظم إلى المؤسسات الدولية على الأرجح أميل إلى التعاون، لأنها ستكون مقيدة بقواعد المنظمات. والانقياد لتلك القواعد هو في يصب في مصلحتهم على المدى البعيد.
سوف أقيم كلاً من النظريات الثلاثة بحرص. ولكن قبل أن أفعل سأنحي جانبًا أمور السياسة الدولية وسأتناول السؤال الأكثر بساطة: ما الليبرالية وما هي أسسها الفكرية. بعبارة أخرى، فهدفي هو البدء بالافتراضات وبالمنطق الذي يقع في القلب من الليبرالية- وتحديد ما إذا كانت هذه الافتراضات لها معنـى. من المهم للغاية عند تقييم النظريات أن نفحص افتراضاتها التأسيسية حول الطبيعة الإنسانية. لقد عبر جون لوك. أحد الآباء المؤسسين لليبرالية عن هذه الفكرة جيدًا عندما بقوله “كي نفهم القوة السياسية بشكل صحيح.. علينا أن ننظر في الحالة التـي يكون البشر عليها في الطبيعة.”
ما هي “الحالة التـي يكون عليها البشر في الطبيعة؟” ما هي الخصائص التـي يتشاركها جميع البشر؟ لا تعد الإجابة على هذه الأسئلة هامة لمجرد أنها تعيننا على فهم الليبرالية؛ بل لأنها أيضًا تساعدنا على فهم القومية والواقعية. كل توافقت المذاهب الفلسفية مع الطبيعة البشرية، كلما ازدادت أهميتها في العالم الحقيقي. لذا ينبغي عليّ أن أتحدث عن وجهة نظري في الطبيعة البشرية وأن أشرح الكيفية التـي تعمل بها الخصائص البشرية المشتركة كي تؤثر علي الحياة السياسية. يعنـي هذا في النهاية أن إمكانية التوصل إلى نظرية غير متماسكة حول السياسة يمكن استخدامها لتقييم ومقارنة الليبرالية والقومية والواقعية.
علينا أن نجيب على سؤالين أساسيين حول الطبيعة الإنسانية. أولاً، هل الرجال والنساء هم كائنات اجتماعية في المقام الأول وقبل أي شـيء، أم من العقلاني أن يؤكدوا على فردانيتهم؟ بعبارة أخرى، هل البشر هم بالأساس حيوانات اجتماعية تسعى بكل ما أوتيت إلى إيجاد مساحة لفرديتها، أم أنهم أفراد يشكلون عقودًا اجتماعية؟ ثانيًا، هل تطورت قدراتنا النقدية إلى الحد الذي يمكننا معه من التوصل إلى ما يشبه الإجماع الأخلاقي حول ما يعرف الحياة الجيدة؟ هل لنا أن نتوافق على المبادئ الأولى؟
أتصور أننا كبشر كائنات اجتماعية بالأساس، من بداية الحياة حتـى نهايتها، كائنات اجتماعية، وأن الفردانية تأتي بعد ذلك في الأهمية، وهو ما لا يعنـي أنها غير هامة. ثانيًا من المستحيل أن نصل إلى فهم عام حول المبادئ الأولى، وإن كان من الممكن التوصل إلى اتفاق واسع بين مجموعات مختلفة. ولكن بسبب عدم وجود حقائق شاملة حول ما يشكل الحياة الصالحة، فإن الاختلافات حول الأفراد والجماعات يمكن أن تكون عميقة.
تقلل الليبرالية من أهمية الطبيعة الاجتماعية للبشر إلى حد إنكارها؛ بل إنها تعامل البشر على أنهم ذرات من الفاعلين. لكن الليبراليين يصرون على أنه من غير الممكن التوصل إلى اتفاق جامع على الأسئلة المتعلقة بما يشكل الحياة الصالحة. ومن ثم، تجيب على سؤال واحد من سؤالين حول الطبيعة البشرية. هذا في الوقت الذي تتطابق فيه كل من القومية والواقعية مع الطبيعة البشرية، وهو ما لا يفسر فقط سبب تفوق كل منهما على الليبرالية عندما يكونوا في صراع معها، ولكن أيضًا سبب كونهما القوى الدافعة وراء السياسة الدولية. تلقي القومية والواقعية بقليل من الاهتمام إلى الأفراد والحقوق؛ وفي المقابل ترى كل منهما العالم من خلال الدول- الأمم، وتعكس حقيقة أن البشر هم بالأساس كائنات اجتماعية ولكل منهم وجهات نظر مختلفة حول ما يشكل الحياة الصالحة.
على الرغم من هذه الخلافات، فإن المذاهب الثلاثة تتشارك في خصيصة هامة؛ وهي الاهتمام العميق بالبقاء. إنني أذهب إلى أن الأمم ملتزمة إلى أبعد الحدود بالحصول على دول خاصة بها؛ فهي الطريقة الأمثل لضمان البقاء، وهو ما لا يمكن التعامل معه على أنه أمر مسلم به. إن الدول في النظام الدولي متأثرة للغاية بمشاغل البقاء، وهو ما يجعلها تراقب موازين القوى وتسعى في النهاية إلى الهيمنة. وأخيرًا، فإن البقاء هو أحد الجوانب المميزة لليبرالية. فهذه النظرية تستند في النهاية على الاعتقاد بأن الأفراد قد يختلفون بقوة حول المبادئ الأساسية بحيث أنهم قد يقتلون بعضهم البعض. والغاية الجوهرية من الدولة هي أن تعمل كشرطي وأن تعزز من فرص كل فرد في البقاء.
الليبرالية السياسية
بقي أنا أعرف مصطلح “الليبرالية السياسية” بالتفصيل. من الهام أن أقوم بهذا الآن، إذ أن المصطلح قد يعنـي أشياء مختلفة لمجموعات مختلفة. الأمر نفسه ينطبق على القومية والواقعية. ومن الضروري أن نستقر على تعريفات واضحة لكل هذه المصطلحات، كونها الطريقة الوحيدة لبناء حجج متماسكة حول الكيفية التـي تترابط بها وكيف يؤثر تفاعلها على السياسة الدولية. كما أن التعريفات الدقيقة تسمح للباحثين بأن يفرضوا النظام على كمية هائلة من الوقائع المركبة وغير المنظمة. أيضًا تساعد هذه المصطلحات القراء على تحديد ما إذا كانت حجج المؤلف دامغة، وإذا لم تكن، فأين مواضع الخلل وأسبابه.
ليست التعريفات صحيحة أو خاطئة بمعنـى كونها حقيقية أو زائفة. فنحن أحرار في تعريف مفاهيمنا الأساسية كما تتراءى لنا. بيد أن هذا لا يعنـي القول إنه من غير الممكن التمييز بين التعريفات. والمعيار الأساسـي في تقييم قيمة أي تعريف هو مقدار أهميته لفهم الظاهرة قيد الدراسة. وقد اخترت التعريفات التـي أتمنـى أن تخدم هذا الغرض.
في قاموسـي، تشير الليبرالية السياسية إلى أيديولوجية تتميز بالفردانية في جوهرها وتولي أهمية كبرى لمفهوم الحقوق الأصيلة Inalienable Rights. تمثل العناية بالحقوق أساس شموليتها- فلكل إنسان على الكوكب نفس الحقوق الأصيلة- وهو ما يدفع الدول الليبرالية لممارسة سياسات خارجية طموحة. وضع الخطاب العام والبحثـي حول الليبرالية منذ الحرب العالمية الثانية الكثير من التأكيد على ما يشار إليه بشكل عام بحقوق الإنسان. ولا ينطبق هذا على الغرب فقط بل في كل العالم. يلاحظ صمويل موين Samuel Moyn أن “حقوق الإنسان أصبحت تعرف التطلعات الأكثر طموحًا لكل من الحركات الاجتماعية والكيانات السياسية- في كل دولة وبين كل الدول. فهي تحفز الأمل وتجشع على الفعل.”
تتأسس الليبرالية السياسية أيضًا على الافتراض بأن الأفراد أحيانًا يختلفون بقوة حول القضايا السياسية والاجتماعية المفصلية، والتـي تتطلب دولة يمكن أن تحافظ على النظام إذا ما هددت هذه الخلافات بالتحول إلى العنف. يرتبط بهذا تأكيد الليبراليين الكبير على التسامح، وهو العرف الذي يشجع الناس على احترام بعضهم البعض على الرغم من الخلافات الجذرية. ولكن فيما يتوافق الليبراليون حول كل هذه المسائل، فإنهم منقسمون بفعل بعض الخلافات الأساسية.
في الحقيقة تنقسم الليبرالية السياسية إلى نوعين: ما يسميه البعض بليبرالية التسويات المؤقتة (Modus Vivendi) والليبرالية التقدمية، وهي مصطلحات أستخدمها عبر الكتاب. بالأساس، هناك اختلافان هامان بين هذين النوعين، والأول يتعلق برؤية كل منهما للحقوق. يتصور ليبراليو التسوية المؤقتة الحقوق بشكل شبه حصري باعتبارها الحريات، ويعنون بها حرية التصرف دون خوف من تدخل الحكومة. وتعبر حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الامتلاك عن عينة من هذه الحقوق. توجد الحكومات لحماية هذه الحريات من التهديدات التـي قد تنتج من داخل المجتمع أو من خارجه. يعلي الليبراليون التقدميون من هذه الحقوق الفردية، والتـي يطلق عليها في بعض الأحيان حقوقًا سلبية، ولكنهم ملتزمون في الوقت نفسه بمجموعة من الحقوق التـي تعززها الحكومة. على سبيل المثال، إنهم يعتقدون أن كل إنسان له فرص متساوية، وهو ما يمكن تحقيقه فقط من خلال التدخل الحكومة المباشر. يعارض ليبراليو التسوية المؤقتة بقوة مفهوم الحقوق الإيجابية.
يقود النقاش حول الحقوق الفردية إلى الاختلاف الثاني الكبير بين ليبرالية التسوية المؤقتة والليبرالية التقدمية. إنهم يختلفون بحدة حول الدور الذي ينبغي للدولة القيام به، فيما عدا الحفاظ على السلم في الداخل. يعتقد ليبراليو التسوية المؤقتة، بما يتوافق مع تأكيدهم على حماية الحريات الفردية وتشككهم في الحقوق الإيجابية، بأن يكون تدخل الدولة في المجتمع أقل ما يمكن. ومن غير المدهش أنهم يميلون لازدراء قدرة الدولة على القيام بأية هندسة اجتماعية. يتخذ الليبراليون التقدميون موقفًا معاكسًا. إنهم يفضلون دولة ناشطة قادرة علي تعزيز الحريات الفردية، ويصدقون كثيرًا في قدرة الحكومات على الهندسة الاجتماعية.
بينما لا يوجد شك في الانتباه الذي يحصل عليه هذا نوعا الليبرالية السياسية في عالم الأفكار، فعلى أرض الواقع، انتصرت الليبرالية التقدمية على ليبرالية التسوية المؤقتة. لا تترك تعقيدات ومتطلبات الحياة في العالم الحديث للدول أي خيار إلا بالانخراط العميق في الهندسة الاجتماعية، بما في ذلك تعزيز الحقوق الإيجابية. لا يعنـي هذا إنكار أن هناك بعض الدول أكثر انخراطًا في الهندسة الاجتماعية أكثر من غيرها، أو أن درجة انخراط الدولة قد يختلف عبر الزمن. ومع ذلك، نحن نعيش في عصر الدولة المتدخلة، ولا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن هذا سيتغير في أي وقت قريب. من ثم، فهذا الكتاب يستخدم الليبرالية باعتبارها مرادفًا لليبرالية التقدمية.
يبقي ثلاث نقاط أخرى حول تعريفي لليبرالية. أولاً، هناك نوعان من الأيديولوجيات يمكن تصنيفهما باعتبارهما أيديولوجيات ليبرالية سياسية: النفعية والمثالية الليبرالية. وللمرء حرية التعامل معهما باعتبارهما تنويعات على الليبرالية السياسية، ولكن لا أميل إلى هذا لكونهما يقومان على منطقين مختلفين عن منطق الليبرالية التقدمية وليبرالية التسوية المؤقتة. على وجه الخصوص، لا تلقي النفعية ولا المثالية الليبرالية بالاً بالحقوق الفردية، والتـي تقع في القلب من الليبرالية. رأى جيرمي بنثام الأب الفكري للنفعية أن “الحقوق الطبيعية ليست إلا هراءً خطابيًا، هراء يمشي علي عكازين.”
يعتبر كتاب إدوارد هاليت كار الشهير “أزمة العشرين عامًا” والذي كتب في أواخر الثلاثينيات على نطاق واسع نقدًا كلاسيكيًّا لليبرالية عندما يتم تطبيقها في السياسة الدولية. في الحقيقة، لم يكن كار يستهدف الليبرالية القائمة على الحقوق كتلك التي أناقشها هنا. فلا يهتم كار إلا قليلاً بليبرالية التسوية المؤقتة والليبرالية التقدمية، والتـي لم تكونا في ذلك الحين أيديولوجيات معتبرة. بل كان يوجه سهام نقده إلى المثالية الليبرالية والنفعية اللتين كان لهما عظيم التأثير في بريطانيا في الثلاثينيات. وبالتالي، فأنا وكار نشير إلى شيئين مختلفين عندما نتحدث عن الليبرالية ولا يوجد إلا قليل من التداخل في نقدينا.
ولا يعنـي هذا القول إن النفعية والمثالية الليبرالية غير هامتين أو أنهما غير ذي جدوى في فهم النظام الدولي. لكنهما نظريات مختلفة عن الليبرالية السياسية، ويتطلب تقييم تأثيرهما على سلوك الدولة دراسة منفصلة.
ثانيًا، غالبًا ما يستخدم مصطلحا الليبرالية والديمقراطية على نحو متبادل، أو يتم الربط بينهما في عبارة “الديمقراطية الليبرالية”. إلا أن المصطلحين ليسا سواء، ومن الضروري أن نميز بينهما وأن نشرح كيف يتعلق كل منهما بالآخر. إنني أعرف الديمقراطية باعتبارها شكلاً من الحكم الذي يقوم على حق انتخاب المواطنين لقادتهم في انتخابات دورية. ويقوم هؤلاء القادة بسن وتنفيذ القواعد التـي تحكم الكيان السياسـي. أما الليبرالية، من ناحية أخرى، فهي تدور حول حقوق الأفراد. إن أية دولة ليبرالية تثمن حقوق مواطنيها وتحميها من خلال قوانينها.
من الممكن أن يكون لدينا ديمقراطية غير ليبرالية وفيها تسحق الأغلبية المختارة حقوق الأقلية. يشار إلى هذا في البعض الأحيان على أنه طغيان الأغلبية، ويمكن للمرء أن يشير إلى العديد من النماذج الموجودة في العالم الحقيقي. بيد أن الدول الليبرالية دائمًا ما تكون ديمقراطية؛ إذ أن مفهوم الحقوق الأصيلة يتضمن بوضوح الحق في امتلاك صوت في الحكم من خلال الانتخابات. يوضح ماركوس فيشر هذه الفكرة: “إن العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية علاقة غير متماثلة: فالليبرالية تتضمن وجود المؤسسات الديمقراطية إلى حد بعيد، أما الديمقراطية لا تشتمل إلا على القليل من الحقوق الليبرالية.”
مع ذلك، قد يرى البعض أن الدول الليبرالية تصبح غير ديمقراطية عندما تقدم الأقلية قضايا قائمة على الحقوق يمكن لها أن تعوق قرار الأغلبية. وإن كانت من الصعب إنكار هذه الحالات، إلا أني لا أعتبرها سلوكًا غير ديمقراطي، إذا أن الناتج النهائي في هذه الحالة إنما يقوم على القوانين والقواعد التـي تبناها المواطنون ديمقراطيًا. ومن ثم، في هذا الكتاب، أستخدم مصطلح الدولة الليبرالية كي يشير إلى الديمقراطية الليبرالية.
ثالثًا، قد يرى بعض القراء أن هذا الكتاب هو هجوم كاسح على الليبرالية، وقد يستنتج أني مناهض لتلك الأيديولوجية السياسية. إلا أن هذا تصور خاطئ. من الضروري أن نفرق بين الطريق التـي تسلكها الليبرالية في كل بلد، والطريق الذي تعمل به في السياسة الدولية. وآرائي حول الليبرالية تختلف في كل نطاق عن الآخر.
أعتقد أن الليبرالية داخل كل بلد هي قوة خير، وقد يكون من المرغوب فيه بشدة للمرء أن يحيا في بلد تحترم وتحمي حقوقه الفردية. وأعتبر نفسـي محظوظًا أني ولدت وعشت كل حياتي في أمريكا الليبرالية. أما الليبرالية على المستوى الدولي، فلها شأن آخر. فالبلدان التـي تسعى لتطبيق سياسات خارجية ليبرالية، مثل الولايات المتحدة، قد انتهى بها الأمر إلى جعل العالم أقل سلمًا. والأخطر من هذا أنها تخاطر بتقويض الليبرالية في الداخل، وهو ما يكفي ببث الخوف في قلب كل ليبرالي.
هذه ترجمة أنجزها “محمد العربي” للفصل الأول من كتاب جون جيه ميرشايمر الأخير “الوهم العظيم: الأحلام الليبرالية والحقائق الدولية The Great Delusion: Liberal Dreams and International Realities، والصادر عام ٢٠١٨ عن دار نشر جامعة يال، وميرشايمر أحد كبار أساتذة العلاقات الدولية بجامعة شيكاغو وأحد أعلام المدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية. وينبغي التنويه أن ترجمة هذا الفصل تضمنت فقط المتن دون الهوامش التوضيحية.
للإطلاع على نسخة بصيغة PDF، اضغط هنا