إحاطة
تطورات المشهد الليبي منذ بداية العام تشير إلى إعادة تموضع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة هناك على أساس التعايش دون حسم للنزاع الليبي-الليبي، الذي يمثل -وبالحد الأدنى منذ 2015- الملعب الجديد لمختلف الأطراف المتصارعة في المنطقة على مختلف القضايا والملفات التي تتجاوز جغرافيا ليبيا، وأبرزها مؤخراً ملف غاز المتوسط، والذي لا يمكن اختصاره بالنزاعات والخلافات حول ترسيم الحدود البحرية للدول المطلة عليه، ولكن أيضاً كيفية تسويق وتأمين مسارات الطاقة المستحدثة في المستقبل القريب للسوق الأوربية.
شكلت ليبيا الساحة المناسبة لتفعيل السابق، سواء لمقومات ذاتية ناتجه عن انهيار الدولة هناك واستمرار الاقتتال الأهلي لما يقارب 9 سنوات، أو مقومات موضوعية خارجية تتمثل أولاً في عدم ممانعة واشنطن لتمدد تركيا جنوب المتوسط على أرضية تلجيم التمدد الروسي في شمال أفريقيا، والأهم وكالة شريك أنقرة الرئيسي، الدوحة، في إدارة وتمويل ومباشرة المليشيات المسلحة في غرب ليبيا.
بالنسبة لمصر، فإن خطورة وحساسية الملف الليبي لا تقف عند مسألة الحدود الاقتصادية البحرية وغاز المتوسط، ولكنها تتعمق لمستويات أخطر تمس أمن حدودها الغربية، التي وظفت مناطقها الرخوة منذ 2012 كفرصة لخلق شوكة في خاصرة مصر الغربية عبر الأراضي الليبية، والتي نتج عنها تدفق السلاح والعناصر التكفيرية واتخاذهم من مختلف المناطق على طول الحدود قواعد انطلاق لتنفيذ عمليات إرهابية في العمق المصري.
الورقة التالية تستعرض أفق تحركات القاهرة تجاه التطورات الأخيرة للأوضاع في ليبيا على ضوء من تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، ومتغيراته الحادة المتسارعة وعلى رأسها وباء كورونا وتقلبات سوق الطاقة العالمي، وتقدير موقف حول إمكانية اجراء معالجة سريعة متعددة المستويات فيما يخص دور مصر وشركاؤها في ليبيا في المستقبل القريب، والوقوف على نقاط القوة والضعف والفرص والتحديات في استراتيجية وتكتيكات تركيا، سواء على صعيد سياساتها الخارجية أو ميدانياً في غرب ليبيا.
محددات التصعيد التركي في ليبيا
تمثل الساحة الليبية ومنذ 2012 قاعدة لوجيستية لطموحات تركيا الأردوغانية الخارجية؛ ليس كساحة توسع ومد نفوذ مستندة على إحياء طموحات توسعية قديمة في جنوب المتوسط فحسب، ولكن كارتكاز ثانوي متعدد الاستخدامات طيلة السنوات الماضية لمختلف القضايا والملفات التي تشتبك وتتقاطع فيها أنقرة؛ فسواء على مستوى قضايا اللاجئين والهجرة، أو اتخاذها مرتكزاً لانتقال العناصر المسلحة العابرة للحدود وتوظيفهم في مختلف الاتجاهات والساحات التي تشتبك فيها أنقرة وعلى رأسها الساحة السورية، وأخيراً تطوير استخدام هذه الورقة في نزاعات تقاسم الغاز وترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، في إطار المساعي التركية لتحويل استراتيجية “الوطن الأزرق” لواقع فعلي .(1)
يشكل إخفاق رهانات أردوغان في الانفراد بدور الوسيط الوحيد في عملية تدفق الغاز نحو أوربا -وخاصة غاز المتوسط- وذلك عبر تسوية شاملة في سوريا، الدافع الرئيسي لتطوير الدور الوظيفي للساحة الليبية بالنسبة لأنقرة من ارتكاز ثانوي متعدد الاستخدامات لحامل رئيسي لإعادة التفاوض والمحاصصة على غاز شرق المتوسط، والذي تمثل في الاتفاقية التي وقعتها مع “حكومة الوفاق” مطلع العام الجاري بشأن ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، والتي حسب الخرائط التركية تضرب مشروع خط “ميد إيست” الذي يهدف لنقل ما يزيد عن 10 مليارات متر مكعب سنويا إلى أوربا. أي باختصار تهدف أنقرة منذ بداية العام إلى قلب الطاولة لإعادة اعتبارها في تفاهمات واتفاقيات التنقيب عن الغاز ونقله وترسيم الحدود البحرية الاقتصادية شرق وجنوب المتوسط.(2)
يتوافق التصعيد في الساحة الليبية مع خطاب أردوغان السياسي وسرديته الدعائية الحاشدة العابرة للحدود، والتي فقدت كثيراً من مصداقيتها بين مؤيديه وحلفاؤه داخلياً وخارجياً بعد تسوية “الأمر الواقع” في سوريا مع أو عبر روسيا؛ وذلك على أرضية المصالح الاقتصادية المشتركة وتحديداً فيما يخص خطوط إمداد الغاز، التي أدت إلى تلاقي مرحلي مع موسكو فيما يخص مستقبل امدادات الطاقة نحو السوق الأوربية، وانخفاض نفوذ وسقف الفعل الموسكوفي جنوب المتوسط ومع دوله -التي تحد سقف مناوراتها الانضواء تحت مظلة المصالح الأميركية- لضمان عدم تفعيل تقليص اعتماد أوربا على الغاز الروسي واستبداله بغاز المتوسط في المستقبل القريب، وهو الدور الاقتصادي الحيوي الذي سعت أنقرة للاستحواذ عليه خلال العقد الماضي، سواء استخراج وتوريد غاز المتوسط لأوربا، أو دور الوسيط المتحكم في “hub” الطاقة الأوربي سواء كان غاز المتوسط أو غاز الخليج أو الغاز الروسي.(3)
وبخلاف السابق، فإن هناك محددات أخرى للتصعيد التركي في ليبيا تتعلق بطبيعة المتغيرات السياسية الداخلية في تركيا، والتي شكلت الطموحات التوسعية الخارجية مقايضة لتمريرها والتكيّف معها، سواء عن طريق إنعاش سردية شديدة التداخل ما بين الداخل والخارج والماضي والمستقبل تجمع بين طموحات الانفراد الأردوغاني بالسلطة وشد عصب الظهير الاجتماعي-الانتخابي، وإعادة الاعتبار لهذه السردية بعد تقزيمها نتيجة للتسوية المرحلية في سوريا، وتسويق الدور التركي في ليبيا في الداخل والخارج على أنه نابع من مبدأ “الحفاظ على حقوق تركيا البحرية” جنوب المتوسط!(4)
مخاطر “سورنة” ليبيا على مصر
شكلت محددات أمن مصر القومي ومجابهة المخاطر الأمنية الواقعة والمحتملة ركيزة التحركات المصرية بمختلف مستوياتها منذ 2015، ولكن سرعان ما أنزوت هذه المحددات جانباً بعد نجاحات أولية في ضبط الحدود ووقف تهريب السلاح وتحييد البؤر الإرهابية في شرق ليبيا بحدود عامي 2017 و2018، ليصبح شرق ليبيا تحت قيادة قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، بمثابة الجبهة الأمامية لحرب بالوكالة ذات أهداف تضاءلت بجوارها دواعي ومحددات التدخل المصري في ليبيا، وتحويلها بمرور الوقت إلى أولوية متأخرة على أجندة أهداف حلفاء القاهرة، وهو الأمر الذي شكل ثغرة استغلتها أنقرة لاعتياد تحويل ليبيا لساحة صراعات إقليمية ودولية على غرار ما حدث في سوريا. (5)
سعي خصوم القاهرة لـ”سورنة” ليبيا، حيث كانت معارك طرابلس منذ العام الماضي دليل واضح لخبرة أنقرة في حروب الوكالة، وإطالة أمد المعارك الميدانية وأفقها الزمني لفرض تسوية تضمن من خلالها تحقيق مصالحها، التي تتجاوز هذه المرة الطموحات التوسعية العثمانية للعب دور إقليمي جنوب المتوسط وشمال أفريقيا على مرتكزي حركة الملاحة والغاز الطبيعي، لتعويض الإخفاق التركي في شرق المتوسط.(6)
وبالنسبة لمصر، فإن الوقوف على محددات وأفق وسقف الدور التركي في ليبيا وبعد مضي ما يقارب 5 سنوات من دعم مفتوح لحفتر، يشي بأن هدف أنقرة هو توريط القاهرة في جزء ثالث من “الأزمة السورية” يُنفذ على الأراضي الليبية، أي تحويلها بشكل دائم لساحة تنازع وتصارع إقليمي ودولي بمستويات متعددة، لا يقف عند حدود أنها أحد أوجه صراع المحاور التقليدي الذي نشط في فراغ الدور الأميركي المباشر في المنطقة، ولا حتى صراعات غاز المتوسط ولا ترسيم خارطة النفوذ بين واشنطن وموسكو في المتوسط والمنطقة بشكل عام، بل تضييق الخيارات على مصر لفرض جلوسها على طاولة مفاوضات استأنه جديدة الغلبة فيها لأنقرة، وجعل خيارات القاهرة محصورة بين القبول بتهديد جسيم متمثل في إعادة انتاج الأزمة السورية ونقل مفاعيلها على حدودها الغربية وهو أمر غير مزعج حتى بالنسبة لحلفائها إن لم يكن في صالحهم في بعض الأحيان، أو إعادة محاصصة غاز المتوسط وخاصة فيما يتعلق بنقله إلى أوربا، وهو الأمر الذي يشكل الأساس الاقتصادي للنزاع بين القاهرة وأنقرة.(7)
ثغرات في الاستراتيجية المصرية
أما على صعيد الميدان الليبي، فإن ترك المدى الزمني والعملياتي رهن نمط الصدمات والالتحاق الذي ينتهجه خليفة حفتر يجعل هناك تفاوتاً في مدى الاستجابة للمتغيرات الإقليمية والدولية التي يبدو أن قائد “الجيش الوطني الليبي” لا يربأ بها، فمنذ أواخر 2018 وأوائل 2019 شملت عملياته العسكرية اتجاهين رئيسيين: الأول نحو طرابلس، والتي أضحت معاركها على مدار العام الماضي نموذج لكيفية إطالة أمد المعارك دون حسم، وهو الفخ الذي تجنبته مثلاً موسكو في الساحة السورية، واستفادت من تكراره في الساحة الليبية بتقييد فتح المدى لدعم حفتر ميدانياً في معركة استنزافية طويلة الأمد وغير حاسمة. أما الاتجاه الثاني فكان نحو مدن الجنوب الليبي، والذي تحفظت معظم الجهات الداعمة لحفتر على توقيتها سواء لموازاته معارك طرابلس الغير محسومة، أو لاستعداء غير مبرر لسكان هذه المدن التي تتنوع تركيباتها الاجتماعية والسياسية بين حياد وترقب فرضه انتمائهم إلى النظام السابق سواء تنفيذياً أو قبلياً، وما بين تخوف من تغول مليشيات طرابلس عبر تحالفات مع تنظيمات متطرفة تمتد بطول الصحراء الكبرى وحتى مالي وموريتانيا.(9)
وهنا أمام التحفظ المصري-الروسي الفاعلين بشكل واضح في الميدان، وانزعاج واشنطن من طريقة حفتر في إدارة المشهد الميداني، لجأ الأخير لغطاء دولي يدعم استمراره في نمط الصدمة والالتحاق عبر ضوء أخضر فرنسي -بلا دعم عسكري أو سياسي حقيقي- مستغلاً تناقض أولويات داعميه واختلاف أمديتهم الزمنية فيما يخص سياساتهم الإقليمية والدولية وتفعيلها في الساحة الليبية. وهي الثغرة التي استغلتها تركيا منذ بداية العام الجاري في تطوير دعمها لطرابلس وشرعنه تدخلها بشكل مباشر بضوء أخضر أميركي وروسي، وخاصة بعد نفاد صبر روسيا على فوضى إدارة المعارك الميدانية ويأسها من قدرة حفتر على إنجاز أي حسم عسكري قبيل مفاوضات خط “السيل التركي” بينها وبين أنقرة، وانتفاء الحاجة لتوسيع دعمها المباشر لحفتر، وتضارب مصالحها فيما يخص الغاز وسوق الطاقة الأوربي مع دول “منتدى غاز المتوسط”، الذي يشكل احتمالية منافسة للغاز الروسي الواصل لأوربا عبر تركيا.(10)
بهذا المنطق، فإن نمط الاستثمار في الفوضى الليبية من جانب تركيا قد لاقى قبول دولي، فروسيا مثلاً تقبلت هذا الوضع باعتباره أمراً يدعم تسوية وخاصة فيما يتعلق بالمقاتلين في إدلب الذين يشكلون لأنقرة هناك “وزن ميت” يمكن التخلص منه عبر إرسال ألاف من المقاتلين من مختلف الجنسيات يتم نقلهم من شمال سوريا إلى طرابلس غرب ليبيا، كتفعيل وإعلان للتدخل التركي المباشر هناك كطرف يفرض نفسه كمغير للمعادلة، ويسوق داخلياً في تركيا على أنه سبيل وحيد لإعادة التفاوض حول تسويات الطاقة الخاصة بغاز شرق المتوسط، والتي خرجت منها أنقرة خالية الوفاض، وترسيخ المعادلة الحاكمة المستجدة في بنية السلطة في تركيا، والتي أتت عقب تعديلات دستورية وصراعات حزبية تجعل من التدخل المباشر في ليبيا تعويضاً لقاعدة انتخابية صلبة تعتاش على الاحلام والطموحات التوسعية العثمانية التي تم إجهاض معظمها في سوريا.(11)
توصيات واستشراف
الاضطراب الملحوظ في إدارة الملف الليبي، والتوقيت الحاكم لتفاعل القوى الدولية والإقليمية مع ما يحدث هناك، وخاصة على ضوء متغيرات كبيرة مثل وباء كورونا والتباطؤ الاقتصادي العالمي وفوضى سوق وخارطة الطاقة، لا يعني قدرة أنقرة على استدامة التصعيد إلى حد النجاح في فرضها أجندة تفاوض متعددة الاتجاهات فيما يخص مستقبل ليبيا أو غاز المتوسط وترسيم الحدود البحرية؛ فأدوات وعناصر التصعيد التركي منذ بداية العام سواء على مستوى ميداني -قصور فاعلية المرتزقة الأجانب- أو إقليمي هشة ومؤقته وتقوم بالأساس على استغلال ثغرات سياسية وميدانية تخص الطرف الأخر، وتقديم ذلك داخلياً على أنها انجاز سياسي لا يتجاوز سرديات دعائية غير مستقرة في المستقبل القريب، وخارجياً يرتبط بمدى سماح القوى الكبرى وتحديداً موسكو وواشنطن بتقديم ضوء أخضر لتحركاته في شمال أفريقيا وجنوب المتوسط، يتجاوز التطورات الأخيرة إلى حد القبول به كقوة إقليمية فاعلة في هذه المنطقة.(12)
بالمقابل لا يجب على القاهرة الاكتفاء بالتحرك في الهوامش التي تسمح بها القوى الكبرى، وتحديداً واشنطن وموسكو، ولا الالتحاق بمساعي أوربية لا تربأ إلا بقضايا تفصيلية مثل الهجرة الغير شرعية، ولا يعنيها أمن مصر القومي ولا تهديد حدودها السياسية والاقتصادية براً وبحراً، بل اتخاذ دور قيادي ليس كقاطرة تحريك لموقف عربي غير موحد وأولويات حلفاء غير متزامنة وغير منسجمة مع محددات وأهداف الدور المصري في ليبا، أي باختصار بلورة رؤية واستراتيجية مصرية واضحة أمام الخطاب والاستراتيجية التركية، ومحاولة تضفير أهداف وجهود الحلفاء والشركاء على أرضية مشتركة .(13)
على الجانب الأوربي، فإن تحركات أردوغان تعتمد على فهمه لحدود فاعلية القوى الأوربية في الملف الليبي في هذا التوقيت، سواء كونه أولوية متأخرة بفعل وباء كورونا، أو لسيادة تضارب الأولويات وغياب بوصلة لاستراتيجية موحدة تجاه ليبيا بين الدول الأوربية. إلا أن تصعيد خطاب أردوغان فيما يخص التحكم في أحد ممرات الطاقة المستقبلية وطموحه في توسيع حصته من توريد كل من الغاز الروسي وغاز المتوسط، وتوسيع نفوذه في شمال أفريقيا والتحكم في حركة وأمن الملاحة جنوب المتوسط، وهو ما يعني بالنسبة للقوى الأوربية الرئيسة وتحديداً فرنسا وإيطاليا وألمانيا فرض التعامل معه لما يتجاوز الأزمة الليبية.(14)
هنا يجب على القاهرة تطوير خطابها السياسي والدبلوماسي الموجه للقوى الأوربية، انطلاقا من تضفير مواجهة التهديدات التركية فيما يخص أوربا مع أهداف مصر في ليبيا وجنوب المتوسط بشكل عام، وأهمها بطبيعة الأمر ملف الغاز. وهنا يمكن تفعيل هذا التطوير عبر مخاطبة الرأي العام الأوربي وليس فقط الدوائر الرسمية والدبلوماسية، وذلك انطلاقاً من تهديد التصعيد التركي في المتوسط على نمط الحياة في أوربا، سواء المتعلقة بالملاحة أو الغاز، أو المتعلقة بالأمن والإرهاب والتوظيف السياسي والدعائي للاجئين والمهاجرين من المناطق التي شهدت تدخل تركيا في السنوات الأخيرة، وأيضاً لتفكيك السردية المقابلة التي صنعتها الآلة الدعائية لتركيا وحلفائها عن دور مصر في ليبيا. وذلك لسد الفجوة الناتجة عن أحادية الرؤية والخطاب الرسمي الأوربي -مؤتمر برلين على سبيل المثال- والتي تحصر الجهود المصرية المتعلقة بليبيا بملفي الإرهاب والهجرة الغير شرعية، وارتهان دور مصر على صعيد هذين الملفين بالنسبة للقوى الأوربية كدور مساعد وليس رئيسي فيما يخص أولوية وضرورة استقرار الأوضاع في ليبيا تحديداً وجنوب المتوسط بشكل عام، لتحييد التهديدات التركية الأن وفي المستقبل.(15)
هذا التحرك المصري يمكن أن يكون على مستويين: الأول القوى الاوربية التقليدية واستقطابها بشكل أوسع على ضوء العلاقات الجيدة مع القاهرة، وتفعيل الجانب الأمني والعسكري لمشاركة في مبادرات أمنية وعسكرية تسعى قوى أوربية وعلى رأسها برلين لتفعيلها في المتوسط منذ سنوات.
المستوى الثاني هو تعميق شراكة القاهرة مع دول منتدى المتوسط لتحالف يتخطى مسألة ترسيم الحدود البحرية وكيفية توريد الغاز إلى أوربا، فالتهديد التركي على قطع الطريق على خط غاز “ميد إيست” يستوجب نوع من التحالف الرادع لإدارة حوار “خشن” مع تركيا على مستويات عسكرية تتجاوز الساحة الليبية، ولا تحتد بسقف المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة، وتوسيع هذا إلى إمكانية تواجد مصري بحري في مناطق النزاع والخلاف بين تركيا ودول اليونان وقبرص سواء تحت مظلة دول المنتدى أو مظلة اوربية كمبادرة برلين لمراقبة تهريب السلاح عبر المتوسط، وتضفير الجهود مع إيطاليا للوصول لرؤية مشتركة تخص مجابهة التهديدات التركية لمصالح كل من البلدين وخاصة فيما يتعلق بالغاز.(16)
تحقيق السابق لا يضمن فقط كبح جماح أردوغان في ليبيا وجنوب المتوسط، ولكن يتفادى أيضاً مسألة “سورنة ليبيا”، ودفع حلفاء القاهرة إلى مزامنة أولوياتهم مع أولويات القاهرة كبوصلة للتحرك جنوب المتوسط، ومن ثم اعتماد سيناريو رادع كبديل عن تحقيق توازن واهن عبر نسخ التجربة السورية في ليبيا، والتي بطبيعة الحال وبحكم الخبرة سيكون لأنقرة اليد العليا فيها.
كذلك قد تبادر القاهرة إلى تطوير فاعل في استراتيجيتها يتجاوز خانة رد الفعل والدفاع إلى خانة المجابهة والمواجهة، والوقوف على مواطن ضعف تحركات أردوغان الأخيرة وتفخيخها، سواء على مستوى ميداني في ليبيا عبر تحييد أو استمالة القوى المحلية الغير منضوية تحت قيادة حفتر بشقيها السياسي والعسكري -برلمان طبرق على سبيل المثال- والخروج من ثنائية واستقطاب حفتر- السراج. أو على مستوى داخلي في تركيا يتم استخدام تناقضات الطبقة السياسية في أنقرة تجاه “الأردوغانية”، والتي تمتد حتى داخل الحزب الحاكم ورموز هامة معارضة لسياسات أردوغان الصدامية على مستوى الداخل والخارج، وبالحد الأدنى على أرضية سياسة “فصل الملفات” التي تعد السياسة المهيمنة على التطورات الأخيرة في المنطقة والعالم.(17)
السابق يمكن تفعيله أيضاً تجاه دول شمال أفريقيا، وتحديداً تونس والجزائر والمغرب، حيث استمالة اردوغان لهما تقوم بالأساس على وجود مكون إيدلوجي موالي له في الطبقة السياسية هناك وخاصة في تونس والمغرب، لكن مع تراجع هذا المكون في السنوات الأخيرة يمكن إدارة حوار بخصوص ليبيا قائم على فصل الملفات، وتحديداً علاقات هذه الدول بحلفاء القاهرة وخاصة الدول الخليجية، وتوسيع مدى برجماتي تعاوني مع الجزائر فيما يخص الغاز كبديل عن عامل التنافس الذي تستغله أنقرة في توسيع وتعميق علاقاتها مع هذه الدول.(18)
مراجع:
(1): لماذا ترفع تركيا الرهان في شرق البحر المتوسط؟. أيضاً: إدارة أزمة أم توظيفها.. كيف تقوم تركيا بالاستثمار في أزمة اللاجئين؟
(2): تركيا والجغرافيا السياسية للغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط.
(3): اتفاق شرق المتوسط .. الدلالات والتداعيات على تركيا. أيضاً: الاتفاقية الليبية التركية وانعكاساتها على مشهد الصراع في ليبيا.
(4): أردوغان يواجه رفض المعارضة التركية إرسال قوات إلى ليبيا. أيضاً: داود أوغلو يتوقع «زوال» حزب إردوغان من الساحة السياسية.
(5): مصر وتركيا في ليبيا.. تأجيل روسي للصدام؟
(6): مصر تطالب باتخاذ موقف حازم من الدول التي تمول وتنقل الإرهابيين من سورية إلى ليبيا. أيضاً: مرتزقة موسكو وأنقرة ـ ليبيا ساحة حرب جديدة بين مقاتلين سوريين!
(7): أنظار تركيا تتحول نحو طرابلس: التداعيات على الحرب الأهلية في ليبيا والسياسة الأمريكية. أيضاً: وزير خارجية تركيا يقول إنه بحث سبل إبرام هدنة دائمة خلال زيارة إلى ليبيا. كذلك: مستشار أردوغان: لسنا في ليبيا لمحاربة مصر ولنا مصالح مشتركة بالمتوسط لكن الإمارات تعرقل تعاوننا
(8): لفيروس كورونا تأثيرات معاكسة على السياسة التركية في سوريا وليبيا.
(9): اللحظة الليبية مؤاتية لإستئناف المفاوضات السياسية. أيضاً: ليبيا و”لعبة” عضّ الأصابع.. حفتر يصرخ وروسيا مُحرجة.
(10): ليبيا: حفتر من “فاغنر” إلى كش ملك التقسيم!. أيضاً: قراءة روسية في التحوّلات الليبية: تركيا تفوز بالماراثون.
(11): غاز شرق البحر الأبيض المتوسط يواجه تحديات تجارية وفنية وسياسية. أيضاً: ليبيا… “مبادرات” معلقة على صراع المصالح الكبرى. أيضاً: الحرب في ليبيا: مصر تمنح حفتر “مخرجا”.
(12): “اكتشفوا الخديعة”… أنباء عن عصيان وتذمر في صفوف مرتزقة تركيا السوريين في ليبيا. أيضاً: هل ينهي “كورونا” حكم اردوغان؟.
(13): روسيا ترحب بالنفوذ الأميركي في ليبيا.. سيكون إيجابياً. أيضاً: تركيا تدعو واشنطن لـ«دور أكثر فاعلية» في ليبيا.
(14): خريطة التحالفات في شرق المتوسط… ليبيا بوابة “صراع الجبابرة”.
(15): DEEP SEA RIVALS: EUROPE, TURKEY, AND NEW EASTERN MEDITERRANEAN CONFLICT LINES. Also: Is Turkey on moderation path in its foreign policy?.
كذلك: الشركاتية وإدارة الصراعات الإقليمية.. “صادات” نموذجاً
(16): شادي سمير عويضة، استغلال الغاز الطبيعي في حوض شرق البحر المتوسط، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2019. أيضاً: غاز قبرص يضع «الناتو» في مواجهة مع تركيا. أيضاً: الردع الصامت .. حدود ومجال الموقف المصري في شرق المتوسط. كذلك: “أحجية” المتوسط.. هل تعطّل اليونان طموحات أردوغان؟.
(17): إشكالية الشرعية في الأزمة الليبية. أيضاً: زعيم المعارضة التركية يدين تدخلات أردوغان في ليبيا. أيضاً : الأردوغانية تقسم تركيا. كذلك: إزاحة داود أوغلو: الأردوغانية لا تحتمل رأسين.
(18): بعد تدخل أردوغان.. أين تقف الدول المغاربية من الأزمة الليبية؟. أيضاً: من منطقة الساحل إلى ليبيا: الحراك والأمن القومي.