في منتصف عام 2014، وضمن خطة استراتيجية للإحلال والتطوير الشاملين لمنظومات التسليح ومعدات القوات المسلحة المصرية، بدأت القوات البحرية المصرية خطوتها الأولى لدخول عالم حروب المستقبل، من خلال تنفيذ مخطط تسليحي نوعي وعصري غير مسبوق، يتناسب مع التفاعلات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال وشرق إفريقيا، والتي انبثق عنها مجموعة من التحديات والتهديدات التي تطلبت وجود منصات قتالية ومنظومات تسليحية قادرة على مجابهتها على النحو الآتي :
1- الاكتشافات الجديدة للغاز الطبيعي في المياه الاقتصادية المصرية بالبحر المتوسط: والتي تُوّجت بحقل ظُهر، الأكبر في البحر المتوسط، إلى جانب عدد آخر من حقول شمال الدلتا والاسكندرية بجانب مناطق أخرى واعدة في المياه الاقتصادية المصرية. ومُضافا لها الاستكشافات المنتظرة في المياه الاقتصادية بالبحر الأحمر، مما يعني تعاظماً هائلاً في الثروات الطبيعية المصرية، والذي سيتطلب تعاظماً مماثلاً في القدرات العسكرية لحماية تلك الثروات.
2- الحرب اللامتماثلة Asymmetric Warfare : حيث أصبحت التنظيمات الإرهابية والجماعات والمليشيات المسلحة هي التهديد السائد في المنطقة وتحديداً في مناطق القرن الإفريقي، اليمن، سوريا، العراق وليبيا. فبحرياً أصبحت العائمات السريعة الانتحارية او المحملة بعناصر مسلحة، خطراً رئيساً على السفن التجارية والسفن العسكرية على حد سواء، بخلاف عمليات نقل وتهريب الأسلحة والعناصر المسلحة. وتُعد منطقة القرن الإفريقي ومضيق باب المندب تحديداً عمقاً استراتيجية جنوبيا لمصر وقصبة هوائية رئيسية لقناة السويس -الممر الملاحي الأهم عالميا- التي تُعد من أهم مصادر النقد الأجنبي للاقتصاد المصري.
3- التحول التركي من الانخراط والنفوذ الناعم في المنطقة إلى الانخراط الخشن: من خلال التحركات العدائية والتحرشات المستمرة في شرق المتوسط للتنقيب عن الغاز الطبيعي، والتدخل العسكري في الشمال السوري والعراقي، مؤخرا في الغرب الليبي، وبالطبع تحوّل الإدارة التركية بقيادة الرئيس إردوغان للعداء المباشر مع الدولة والإدارة المصرية بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، مما جعل البحرية التركية تهديداً قائماً أمام البحرية المصرية، ما يستدعي وجود توازن تسليحي كمي ونوعي أمام الأولى بما تملكه من قدرات قتالية متطورة في سفن السطح والغواصات الأحدث والأكثر عدداً.
4- التطور المستمر في التسليح الإسرائيلي: لضمان التفوق النوعي الدائم على دول المنطقة بضمانة أمريكية دائمة ضمن قانون ” التفوق النوعي العسكري الإسرائيليIsrael Qualitative Military Edge ” المعمول به كإلتزام منذ عهد إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، قبل أن يتحول إلى تشريع لدى الكونجرس عام 2008.
5- تعاظم الدور المصري الرائد في ملفات المنطقة: وخصوصا ملف الغاز والطاقة من خلال إنشاء مقر لمنتدى غاز شرق المتوسط، وملف مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتهريب السلاح، وكذا حماية وتأمين مصالح الأصدقاء والشركاء الأجانب من استثمارات مباشرة وحركة للسفن التجارية في البحر الأحمر وشرق المتوسط من خلال قناة السويس، وبالطبع حرص القوى العظمى الدولية على الحفاظ على توازنات استراتيجية بين القوى الإقليمية بعد الخلل الهائل الذي نتج عن خروج عدد من الدول من معادلة القوة إثر اندلاع الفوضى والحروب الأهلية ( العراق – سوريا – ليبيا – اليمن )، مما يتطلب وجود قوة عسكرية –وبحرية- متطورة يعول عليها لتمنح الدولة المصرية الثقل الإقليمي والدولي المناسبين المطلوبين لتكون قادرة على تنفيذ المهام الموكلة لها لحماية المصالح وإحداث التوازن سالفي الذكر.
ما هي ملامح تطوير البحرية المصرية؟
على مدار الست سنوات الماضية -وتحديداً منذ يونيو 2014- بدأت خطة تطوير البحرية المصرية في أن تتبلور على 3 أنساق :
أولاً: النسق التدريبي
وتمثل في تنفيذ العديد من التدريبات البحرية والجوية-البحرية المشتركة مع عدد من الدول الصديقة، لرفع مستوى الجاهزية والكفاءة القتالية والخبرات لعناصر القوات البحرية المصرية والوقوف على أحدث ما توصلت إليه أنظمة التسليح وأساليب القتال والتدريب ومفاهيم الحروب البحرية الحديثة، وذلك مع كل من الولايات المتحدة، فرنسا، إسبانيا، اليونان، روسيا، السعودية، الإمارات وغيرها. هذا إلى جانب عدد من التدريبات البحرية العابرة مع عدد من الدول كبريطانيا، إيطاليا، إسبانيا، كوريا الجنوبية، الصين، الهند وباكستان.
ولكن، ماذا عن تأمين حقول الغاز والمصالح الاقتصادية ؟
لم تغفل القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية مسألة التدريب على أعمال الحماية والتامين للمصالح الاقتصادية في البحر المتوسط على رأسها حقل ظُهر، ففي عام 2018، وخلال مراحل تنفيذ العملية الشاملة ” سيناء 2018 ” نفذت القوات البحرية المصرية تدريبات بحرية مختلفة اشتملت على رمايات الصواريخ والذخيرة الحية وكذا نفذت مهاماً لتأمين حقول الغاز الطبيعي في إطار التحركات التركية غير القانونية في شرق المتوسط وتحرشاتها المستمرة بقبرص.
وفي بداية العام الجاري 2020، وضمن المناورة الاستراتيجية الشاملة ” قادر-2020 ” نفذت القوات البحرية العديد من التدريبات التي اشتملت على تنفيذ رماية بالصواريخ عمق-سطح الجوالة المضادة للسفن طراز ” هاربون UGM-84 Harpoon ” المطلقة من الغواصات، إلى جانب تنفيذ مهام الإنزال البرمائي لعناصر القوات الخاصة من حاملتي المروحيات ميسترال، وكذا تنفيذ مهام قتالية للمروحيات الهجومية ” أباتشي ” وكاموف كا-52 ” المُنطلقة من على متن الحاملتين، ومهام مكافحة الغواصات وتأمين قوات الإنزال البرمائي بواسطة الفرقاطات والقرويطات المختصة بهكذا مهام، وتحت غطاء جوي من الطائرات المقاتلة.
وتعد تلك التدريبات والمناورات استعراضاً حقيقياً للقوة ” Power Projection ” بما تحمله من رسائل مباشرة وصريحة بقدرة البحرية والطيران المصريين على التدخل الفوري والمباشر في مسرح عمليات منطقة شرق المتوسط والقدرة على الصدي لأية محاولات جوية وبحرية عدائية ضد المصالح الاقتصادية المصرية.
ثانياً: النسق تسليحي
وتمثل في توقيع عدد من صفقات شراء السفن الحربية مشتملة على حاملات المروحيات والفرقاطات والقرويطات إلى جانب الغواصات الهجومية، وذلك من أحدث وأفضل الطرازات التي تم تدبيرها من عدد من الدول ذات القدرة التصنيعية المتقدمة في المجال البحري على النحو الآتي :
1- سفينتا الهجوم البرمائي الحاملتان للمروحيات ” جمال عبدالناصر L1010 ” و” أنور السادات L1020 ” طراز ” ميسترال Mistral ” من دولة فرنسا، وتم التعاقد عليهما عام 2015.
وتوفر الحاملتان القدرات الآتية :
- القيادة، السيطرة، التوجيه، لكافة المنصات القتالية الصديقة برا وبحرا وجوا في مسارح العمليات المختلفة.
- حمل وإطلاق وتوجيه المروحيات من مختلف الأنواع شاملة المروحيات الهجومية ومروحيات النقل والدعم ومروحيات مكافحة الغواصات ومروحيات البحث والإنقاذ.
- الهجوم والإنزال البرمائي لعناصر القوات والقوات الخاصة.
- الإنقاذ في حالات الكوارث والطوارىء ونقل الجرحى أثناء العمليات القتالية، حيث توفر مستشفى بحري متكامل
- توفير الحماية للأهداف والمصالح الاستراتيجية والحيوية كحقول النفط الغاز الطبيعي.
2- الفرقاطة الشبحية الثقيلة متعددة المهام ذات القدرة المُعززة لمكافحة الغواصات ” تحيا مصر ” طراز ” فريم FREMM ” البالغ إزاحتها 6000 طن من دولة فرنسا، وتم التعاقد عليها عام 2015.
توفر الفرقاطة قدرة تنفيذ المهام الآتية :
- مكافحة الغواصات، حيث تمتلك قدرة متقدمة في هذا المجال ممثلة في منظومة السونار الثقيل متعدد الأعماق Variable Depth Sonar VDS، إلى جانب تسلحها الطوربيدات المضادة، ناهيك عن قدرة حمل عدد 1 – 2 مروحية متخصصة مضادة للغواصات، وأخيراً امتلاكها محركات ذات بصمة صوتية منخفضة للغاية.
- قدرة القتال ضد سفن السطح والأهداف البرية الساحلية وكذا التصدي للعائمات السريعة ( التهديدات اللامتماثلة ).
- قدرة الدفاع الجوي متوسط المدى والمضاد لمختلف التهديدات الجوية شاملة الصواريخ الجوالة.
- قدرة القيادة والسيطرة والاستخبار والاستطلاع والدعم الإلكتروني الراداري.
3- القرويطات الشبحية مُتعدد المهام ” جوويند Gowind-2500 ” تتمتع بالقدرة المُعززة لمكافحة الغواصات، وتم التعاقد عليها منتصف عام 2015 بعدد 4 متضمنين نقل تقنيات البناء لترسانة بناء السفن بالإسكندرية. تم بناء القرويطة الأولى في فرنسا والثلاث الأخريات في مصر، وتحمل أسماء ” الفاتح – بورسعيد – المعز – الأقصر “.
تُعد تلك القرويطات النسخة المًصغرة من فرقاطات فريم الثقيلة، وتبلغ إزاحتها 2600 طن، وهي مناسبة بشكل رئيس لتنفيذ مهام الحماية والدفاع عن المناطق البحرية القريبة من السواحل Offshore شاملة المناطق الاقتصادية الخاصة Exclusive Economic Zone EEZ التي تحوي حقول الغاز والنفط كحقل الظهر الذي يبعد عن السواحل المصرية بحوالي 200 كم تقريبا.
4- الفرقاطات الشبحية المتوسطة متعددة المهام ” ميكو MEKO-A200 ” بعدد 4 من دولة ألمانيا الاتحادية، تم التعاقد عليها نهاية 2018، وسيتم بناء 3 فرقاطات في ألمانيا، في حين أن الرابعة سيتم بناؤها في مصر، وينتهي التسليم بالكامل بحلول عام 2024.تمثل تلك الفرقاطات الفئة الوسيطة بين فرقاطات فريم الثقيلة وقرويطات جوويند حيث تتراوح إزاحتها ما بين 3400 و3700 طن، وتمتلك قدرات متوازنة مابين الدفاع الجوي والقتال ضد السفن ومكافحة الغواصات.
5- غواصات الديزل الكهربي الهجومية ” 209/1400mod ” بعدد 4 من ألمانيا، وتم التعاقد على أول 2 منها عام 2011 ثم 2 إضافيتين عام 2014 وتم تسليم 3 منها حتى الآن.تُتيح تلك الغواصات قدرة القيام بأعمال الهجوم ضد السفن والغواصات المعادية، وتُعزز من قدرات مكافحة الغواصات بالاشتراك مع سفن السطح الصديقة ذات القدرة سالفة الذكر كالفرقاطة فريم وقرويطات جوويند، وكذا أعمال الاستطلاع والتجسس والاستخبار الإلكتروني، ومهام نقل عناصر الضفادع البشرية للمهام الخاصة. وذلك بفضل بصمتها الصوتية والمغناطيسية المنخفضة، وامتلاكها أفضل التقنيات المتاحة للرصد والاستطلاع والقتال.
6- لنشات الصواريخ الشبحية الهجومية ” أمباسادور Ambassador Mk.III “، الأفضل في فئتها عالمياً، والمُصممة والمبنية خصيصاً لصالح البحرية المصرية. تم التعاقد على 4 لنشات من الولايات المتحدة وتم تسليمها نهاية 2013، ومنتصف 2015. وتحمل الاسماء : سليمان عزت، فؤاد ذكري، علي جاد، ومحمود فهمي. وتتميز تلك اللنشات بتسليحها المقارب للقرويطات، ومنظوماتها الالكترونية المتطورة وقدرتها على تنفيذ مهام هجومية متقدمة ضد السفن الحربية الكبيرة من فئة الفرقاطات، إلى جانب قدرتها على تنفيذ أعمال الحماية والتامين للمناطق الاقتصادية الخاصة والمناطق الساحلية.
أخيراً، فإن الحكومة الإيطالية قد أصدرت موافقتها خلال شهر يونيو الجاري على بيع فرقاطتين ثقيلتين شبحيتين طراز ” فريم بيرجاميني FREMM Bergamini ” لصالح البحرية المصرية، وهي من الفئة ذات القدرة المُعززة في مجال الدفاع الجوي بعيد المدى والقتال ضد سفن السطح والأهداف البرية القريبة من المناطق الساحلية وتُمثل القدرة القصوى للدفاع الجوي لحماية ومرافقة حاملتي الميسترال مع باقي القطع البحرية المصرية وتبلغ إزاحتها 6700 طن.
هناك أيضا عقود مستقبلية محتملة لمزيد من فرقاطات فريم والقطع البحرية إيطالية الصنع.
ثالثاً: النسق الإنشائي.
تمثل هذا النسق في أعمال التوسعة في قاعدة رأس التين البحرية بما تمثله من مركزاً رئيسيا لقيادة القوات البحرية المصرية المصرية لتصبح قادرة على استيعاب القطع البحرية ذات الإزاحات الضخمة، ومشتملة على مجمعا متطورا لمحاكيات التدريب يُعد السابع عالميا وأكبر هنجر للغواصات في الشرق الأوسط، وإنشاءٍ قواعد بحرية جديدة وكبيرة كقاعدتي جرجوب غرباً وقاعدة برنيس البحرية-الجوية المشتركة جنوباً وقاعدة شرق بورسعيد، والتي تعزز جميعها قدرة القوات البحرية على استيعاب السفن والغواصات الحديثة، والانطلاق لتأمين الحدود الشمالية، الغربية، والجنوبية لمصر، وكذا المصالح الاقتصادية شاملة الموانىء التجارية، المدن الجديدة، المشاريع التنموية والسياحية، المناطق اللوجيستية، المجمعات الصناعية الجاري تطويرها وانشاؤها قرب وجوار تلك القواعد، وأخيراً مناطق استكشافات الغاز والنفط الجديدة الواعدة في البحر الاحمر وشمال سيناء وشمال غرب مصر.
في النهاية يمكن التأكيد على ان المكونات الحديثة للبحرية المصرية، متمثلة في الفريم بيرجاميني بقدرات الدفاع الجوي بعيد المدى والفريم تحيا مصر وقرويطات الجوويند بقدرات مكافحة الغواصات المُعززة وفرقاطات الميكو المستقبلية والغواصات الألمانية المتطورة، تمثل قوة ضاربة ولا تتوفر إلا لدى بحريات الناتو نفسها.