يتناول المؤلف وليد نويهض في كتابه “نشوء النخبة الأوروبية 1400-1920” الأسباب التي ساعدت أوروبا في تحقيق نهضتها، في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يسير بخطوات مسرعة إلى الخلف. مستعرضاَ نشأة النخبة الأوروبية ودورها في هذه النهضة ومسيرة التنافس بينها وبين الكنيسة. ومن الأمور الملفتة للنظر في هذا الاستعراض أن الطاعون الذي اجتاح أوروبا والعالم الإسلامي في القرن الرابع عشر كان له فائدة عظيمة على أوروبا عكس نقمته على العالم الإسلامي. فبينما لجأت دول أوروبا إلى العلم، كان العالم الإسلامي يركن إلى الخرافة لمواجهة الطاعون.
قد تكون الأزمة في أحد أوجهها نعمة، فرغم كل الخسائر البشرية والمادية، فإنها قد تدفع البشر إلى إعادة النظر في جاهزيتهم ، وأسلوب استقبال الأزمة والتعامل معها، وإخضاع كل الاستراتيجيات للتقييم. وربما تتسبب الأزمة أيضاَ في إحداث صدمة ينتج عنها التحرر من جاهلية الأفكار والسير قدماً نحو درب العلم والتطور.
فقبل أن تبدأ أوروبا نهضتها كان لابد من أت تتعرف إلى صدمة ستحدث هزة نفسية وتثير المخاوف والرعب، بما يدفع للبحث والتفكير عن حلول. وجاءت هذه الصدمة من البحر (دول الموانىء) حين اجتاح القارة وحوض البحر المتوسط مرض الطاعون، وبدأ الوباء يجرف معه القرى والمدن على حد السواء.
أدى الطاعون الجارف في القرن الرابع عشر (1348-1393 ) إلى تعطيل جزئي للتجارة عبر طريق الحرير، وأسهم في تراجع الإنتاج وتقويض المعاش وانخفاض عدد السكان وتوسيع رقعة الفقر وانتشا المجاعات والفوضى والخوف من الآخرة والظن بنهاية الإنسان والكون، والإنكفاء إلى الخرافات وطلب المعجزات للخلاص من الهلاك الدنيوي . إلا أنه وعلى الجانب الآخر فإن هذه الأزمة قد دفعت النخبة الأوروبية إلى التفكر والبحث عن علاج لمقاومة مرض الطاعون وبذل الجهود لتطوير الطب والمختبرات واختراع الأدوية لوقف الوباء من الانتشار .
رغم أن مخاوف السكان في المناطق التي أصيبت بالطاعون في بدايته قد ارتبطت بالقلق من العقاب الإلهي ونهاية العالم ، وبالتالي ضرورة اللجوء للكنيسة ورجال الدين، ما شكل مكسب لرجال الدين أنفسهم ، إلا أن تفشي الطاعون وخروجه عن السيطرة فرض نفسه بشكل لم يجعل أمام الكنيسة سوى القبول بسلطة العلم في النهاية وعدم التصدي لجهود العلماء بسبب حاجتها هي الأخرى إلى اكتشاف طبي يخفف من هلع القارة واندثارها، حيث أهم عنصر في سلطات رجال الدين ونفوذهم هو وجود البشر، فإن اندثروا اندثر نفوذهم وسلطتهم.
نعمة النقمة
أحدثت صدمة الطاعون التي اجتاحت البحر المتوسط والعالمين الأوروبي والإسلامي لمدة 45 سنة، هزة ساهمت في تشكيل رؤيتين متخالفتين. العالم الإسلامي انعزل وانكفأ وارتد إلى إنتاج الخرافة بينما العالم الأوروبي واجه التحدي بالذهاب نحو تصنيع العقاقير لمحاربة الوباء. وأدى اختلاف الاستحابة للتحدي إلى توليد نواة نهضة علمية مختبرية في أوروبا مقابل تراجع العالم الإسلامي الطبي في مواجهة الوباء.
شكلت صدمة الطاعون خطوة لمصلحة الجانب الأوروبي إذ ستعقبها خطوات باتجاه المزيد من التقدم في دائرتي المعرفة والعمران. وجاءت المبادرة من البرتغال التي قاد أميرها هنري الفاتح معركة البحث عن ممرات تجارية بديلة لخطوط التجارة القديمة. بهدف الهرب من خطر الإصابة بالطاعون في الخطوط التقليدية وإعادة اكتشاف العالم بما يخدم النهضة الجديدة والرغبة في البحث عن علاج للوباء.
آنذاك كانت البرتغال هي القوة البحرية الأوروبة الأولى، وفلورنسا هي القوة الفنية الأوروبية الأولى، ومن هاتين المنارتين ستبدأ القارة رحلة التطور لدوافع مختلفة، ولكنها في النهاية التقت عند تقاطع طرق ساهم في صنع أوروبا الجديدة.
آنذاك كانت النخبة الأوروبية لا تزال تخضع لسلطة الكنيسة ولم يكن بإمكانها أن تتحرك خارج منظومتها المعرفية. إلا أن حدثين مهمين ساعدا النخبة الأوروبية التي رغبت في التحرر من سلطة الكنيسة، وهما الطاعون وسقوط القسطينطينية في يد العثمانيين، ما أضر بصورة الكنيسة التي اهتزت صورتها أمام العامة، فلا الكنيسة استطاعت أن تدافع عن الثغور المسيحية في الشرق، ولا استطاع رجال الدين أن يتصدوا بإيمانهم للطاعون الذي كان يعتبره العامة عقاب إلهي. وترافق هذا الوضع مع الاكتشافات البرتغالية وما نتج عنها من اهتمام بالاختراعات وتشجيع البحث واكتشاف عالم البحار.
ترتب على هذا الزخم العديد من المنتجات الفكرية والتقنية، أهمها السفينة التي كان لها الفضل في اختراق العالم المجهول والتحرر من طرق التجارة التقليدية وطاعونها. وكذلك اختراع الطباعة الذي أثر إيجاباً في وعي النخبة الأوروبية التي كانت أسرع في تحررها من سلطة الكنيسة ورجال الدين عن العامة. بما ساهم في إعمال العقل بوجوب وجود دواء للطاعون بعيداً عن مذبح الكنيسة وابتهالات الكهنة.
رغم ذلك، لم تشكل هذه التحولات في رؤية النخبة الأوروبية قفزة نوعية في تطور المعرفة إلا أنها كانت بداية تؤشر إلى متغير في الوعي أخذ ينمو ويضغط باتجاه الانتقال من الوعظ والإرشاد إلى النقد والبحث. كما لم يتم النيل من سلطة الكنيسة على وعي العامة مباشرة، حيث استمر الإكليروس في لعب دوره القوي في التأثير في العامة حتى القرن السابع عشر حتى استقرت أوتاد العلم ، ويعود الفضل في ذلك إلى الطاعون كأحد أهم أسباب التحول إلى ضرورة تكثيف الجهود العلمية ودعم العلماء والنيل من سلطة رجال الدين .