مُقدمة
تُلزم القوانين والاتفاقيات الدولية المتعلقة باللاجئين وعلى رأسها الاتفاقية الأممية الخاصة بوضع اللاجئين 1951 الدول التي تستقبل لاجئين على أراضيها، بمعايير معاملة لا تقل بأي حال عن مواطني هذه الدول، ومن ثم تفرض مساحة تعاطي حدها الأدنى عدم تعريض اللاجئين لأي نوع من التمييز أو الاستغلال طبقاً لقوانين الدولة المضيفة، التي لا تمتلك سلطة على اللاجئين تتمايز عن التي تملكها وتمارسها على مواطنيها بمقتضى الدستور وقوانين هذه الدولة بما فيها القوانين والإجراءات الاستثنائية التي يجري العمل بها في أوقات الأزمات والكوارث، والتي تكون فيها هذه الدولة بطبيعة الحال على درجة من التعاون بينها وبين والمجتمع الدولي والهيئات والمنظمات المعنية الأممية والمحلية والخاصة بحقوق الإنسان على أرضية إدارة أزمة إنسانية بالدرجة الأولى.
ومنذ1951، وحتى كتابة هذه السطور لم تشهد أزمات اللاجئين تطبيق حرفي لما جاء في الاتفاقيات والقوانين سابقة الذكر، ولا توجد حالة لجوء ونزوح جماعي ناتج عن حروب أو اوبئة أو مجاعات تم فيها تطبيق الحد الأقصى من معايير إدارة الأزمات الإنسانية التي يكفلها ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية سابقة الذكر ناهيك عن القانون الدولي. ولكن الانحدار الأكبر في أزمات اللاجئين خلال العقد الماضي كان مرتبطاً سبعي دول بعينها إلى خلق حالة من الاستدامة والتوظيف السياسي لأزمة إنسانية، وتحديداً ما يحدث مع أزمة اللاجئين السوريين، بصفتها الأزمة الأكبر في العقد الأخير، والتي شهدت أقصى حالات التوظيف السياسي على مختلف الأصعدة والقضايا الثنائية بين الدول بمعزل حتى عن الحرب بصفة أن أطرافها هم المسبب الرئيسي لمأساة اللاجئين السوريين.
إدارة أزمة أم توظيفها؟
بالنظر إلى أزمة اللاجئين السوريين التي تقترب من عقدها الأول، فإن اختلاف تعاطي الدول الأوربية مع موجات الهجرة واللجوء التي حدثت في الفترة ما بين 2012 إلى 2018، والتي اندمج فيها اللاجئين السوريين في المجتمعات الأوربية بمختلف تنويعاتها وصعوباتها دونما النظر إليهم كتهديد أمني أو سياسي، مثلما هو الحال في الشهور الأخيرة التي تزايدت فيها وتيرة التهديدات التركية، باستخدام اللاجئين كارتهان وورقة ضغط للحصول على مكاسب مادية وسياسية على في مختلف القضايا والملفات الخلافية بين تركيا ودول الاتحاد الأوربي، والتي في معظمها- مثل التنقيب عن الغاز في المتوسط – لا تتعلق أساساً باللاجئين السوريين في الأراضي التركية، بل يتم تضفيرها وتوظيفها من أجل إقرار واقعاً سياسياً تنفيذه أبعد ما يكون عن حل أو إدارة أزمة إنسانية.
هنا يمثل التناقض الأبرز بين الخطاب والممارسة في إدارة تركيا لأزمة اللاجئين السوريين وتجاه سوريا ككل، مساراً استثنائياً في توظيف الأزمة وليس حلها؛ فانطلاقاً من الأحداث الجارية وحتى بداية الحرب في سوريا، انتهج المسؤولين الأتراك مساراً سياسياً في التعاطي مع دول الجوار الأوربي يقوم على ركيزة التهديد الدائم بفتح الحدود مع هذه الدول أمام اللاجئين السوريين، واستغلالهم كرهينة لحصد مكاسب تتراوح بين السياسي والاقتصادي، ليتضح مدى تمكن أنقرة في تحويل هذه الأزمة الإنسانية لأزمة سياسية وأمنية بامتياز، مع المحافظة عليها كاستثمار سياسي طويل الأمد دونما النظر إلى حلحلة وضع استثنائي مأساوي لحوالي 3 ملايين لاجئ سوري في تركيا.
هذا النمط المستحدث في إدارة أزمات اللاجئين يتعامل معها على أنها استثمار سياسي ينبغي إطالة مداه، وليس أزمة إنسانية تدار لكي تحل في أقرب وقت. وهذا النمط يتجسد بشكل واضح في نهج تركيا تجاه أزمة اللاجئين السوريين منذ بداية الحرب في سوريا، حيث تشكل إدارة أنقرة لأزمة اللاجئين السوريين حالة مستجدة لإدارة كارثة يتعرض لها ملايين الأشخاص بشكل يومي دون أفق واضح سواء بالعودة لبلدهم أو الاستمرار في تركيا أو الذهاب لبلد ثالث يرجح دوماً أن يكون بلداً أوربياً. وذلك في إطالة وضع استثنائي وتوظيفه والاستثمار فيه سياسياً في الداخل والخارج بغية حصد أكبر قدر من المكاسب السياسية والمالية من مأساة إنسانية هي الأفدح خلال العقد الماضي.
فبينما تنص القوانين والاتفاقيات الدولية الخاصة باللاجئين على عدم جواز استغلالهم بأي شكل من الأشكال وخاصة الاستغلال والتوظيف السياسي، فإن نهج أنقرة المتشعب والمستمر حتى كتابة هذه السطور فيما يخص اللاجئين السوريين على أراضيها، يوضح أن تحولهم بنظر الأخيرة إلى مجرد وسيلة ضغط وابتزاز سياسي متعددة الاستخدامات، ليس فقط في الصراع الدائر بين أنقرة ومختلف العواصم الأوربية، ولكن استخدامهم لفرض رؤى ولتنفيذ خطط وسياسية لا تنفك الأحداث الجارية عن استيضاح ابعادها، والتي لا تكتفي فقط بمخالفة القوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية والأممية الخاصة باللاجئين، ولكن حتى الحدود الدنيا من الاتفاقيات والتفاهمات السياسية الثنائية التي تنظر لمسألة اللاجئين كمسألة سياسية بالدرجة الأولى وليست إنسانية، ليتضح من مسار التحدي والاستجابة بخصوص هكذا أزمة أن الطابع الغالب في إدارتها يهدف لبقائها وإطالتها وليس العكس.
تعمد إدارة وتمديد “وضع الاستثناء”
على الرغم من مرور أكثر من 70 عام على سريان الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين، ووجود نصوص قانونية ومعاهدات دولية تضمن حدود دُنيا من التعاطي الإنساني مع اللاجئ وتقنن أوضاعه الاستثنائية الناتجة عن حدث استثنائي كالحرب، فإن هذا الاستثناء عرضة لأن يتم التعاطي معه وفق مصالح سيادية لسلطة ما، وليس طبقاً للقانون الدولي أو المعاهدات الأممية. ويصف هنا الفيلسوف والمنظر الإيطالي جورجيو أجامبين هذا الاستثناء كحالة تسعى السلطة لإطالة مداها الزمني إلى حد التعاطي معها كوضع عادي وليس استثنائي؛ فمع أزمة بحجم أزمة اللاجئين السوريين وفي ظل أوضاع سياسية واقتصادية وأمنية مضطربة على مستوى العالم، فإنه يسهل تمديد هذا الاستثناء وإدارته انطلاقاً من أن هكذا أزمة تمثل فرصة وإمكانية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية تتخطى مسألة اللجوء ككل.
يتجسد السابق في كيفية تعامل أنقرة مع أزمة اللاجئين السوريين بصفة أنها ضمن أطراف الحرب في سوريا سواء بشكل غير مباشر عبر دعم وتدريب الفصائل المسلحة في الأراضي السورية، أو عبر تدخلها المباشر في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي أخرها ما يحدث في شمال سوريا وخاصة في محافظة إدلب أخر معاقل هذه الفصائل المسلحة. وكذلك أن تركيا دولة جوار لسوريا يبلغ عدد اللاجئين السوريين بها ما بين 2 مليون إلى 3.5 مليون لاجئ، وأيضاً دولة عبور لمئات الألاف من اللاجئين السوريين إلى أوربا خلال السنوات الثماني الماضية، والتي شكلت أكبر موجة نزوح شهدتها القارة الأوربية منذ عقود.
يتكرر التناقض هنا أيضاً في مراوحة تركيا للتعامل مع اللاجئين السوريين تارة كمسئوليتها وتصدرها لإدارة أزمتهم في بداية الحرب في سوريا، وحالياً في التنصل منهم واعتبارهم عبء، ليس فقط لاستغلال وتوظيف ذلك خارجياً، ولكن في الداخل أيضاً، وخاصة بعد هزيمة الحزب الحاكم لانتخابات بلدية إسطنبول، التي فازت بها المعارضة مرتين استغلالاً لحالة التأفف والضيق لقطاعات من الأتراك من إطالة وضع الاستثناء الخاص باللاجئين سابق الذكر من جانب حكومات العدالة والتنمية المتتالية، والتي باتت الأن في خانة تصدير الأزمة لدول الجوار الأوربي بدلاً من إداراتها حتى بشراكة الاتحاد الأوربي عبر اتفاقية 2016، التي أصبحت الأن مشكوك في استمرارها، سواء للنهج السياسي التركي في ابتزاز وتهديد دول الاتحاد باللاجئين، أو لإهدار مليارات من اليورو التي كان من المفترض أن توجه لإدارة أزمة اللاجئين وليس لتحسين الموقف الاقتصادي للحكومة التركية.
استنتاج واستشراف
كمحصلة عامة، نجد أن سلوك تركيا في إدارة أزمة اللاجئين السوريين قد تم على أساس أنها عملية سياسية وليست أزمة إنسانية، وخاصة في السنوات الأخيرة من عمر الحرب في سوريا؛ فبداية باستغلال الوضع الإنساني المأساوي للمدنيين السوريين كذريعة للتدخل العسكري المباشر لفرض أمر واقع مفاده إقامة منطقة عازلة تسوق أنقرة لها كحل آمن لأزمة ملايين اللاجئين، وصولاً لتحويلهم كورقة ضغط ومساومة في كباشها مع دول الاتحاد الأوربي على مختلف الأصعدة والملفات وحتى ابتزاز دعم أوربي لمخطط المنطقة العازلة كبديل عن نزوحهم للدول الأوربية.
ويعتمد النهج التركي السابق على التهديد باستخدام اللاجئين السوريين لتخريب نمط الحياة والاجتماع الأوربي، خاصة مع صعود موجة اليمين في مختلف الدول الأوربية كانعكاس لموجات الهجرة واللجوء الأخيرة، والتي بات النظر إليها كوضع مستمر على المدى الطويل، وليس كوضع استثنائي مؤقت لا يمس شكل الاجتماع في الدول الأوربية ويسهل الاندماج مثلما حدث مع موجات الهجرة واللجوء ما بين عامي 2012 إلى 2018. حيث بات النظر إلى اللاجئين السوريين في تركيا تحديداً بدافع من التوظيف والابتزاز التركي كتهديد متعدد المستويات على مدى بعيد، يمس أبعاداً جيوسياسية وديموغرافية وليس كاحتواء وإدارة لأزمة إنسانية مؤقتة.
وعلى نفس المنوال، فإن المراوحة التركية فيما يخص توظيف أزمة اللاجئين تمتد ما بين الابتزاز والتهديد السياسي واستخدامهم كورقة مساومة في قضايا معظمها لا يتعلق بالأساس بوضع ملايين اللاجئين السوريين وخاصة المقيمين في تركيا منذ 8سنوات، وما بين استخدامهم كرهينة للحصول على مزيد من الأموال من دول الاتحاد الأوربي، دون رسم أفق لحل جذري يتماشى مع القانون الدولي والاتفاقيات الخاصة باللاجئين، و بل ومحافظة أنقرة على هذا الاستثناء الكارثي في أزمة إنسانية ليس لحلها بل الإبقاء عليها لأقصى مدى ممكن لتوظيفها سياسياً ودعائياً، وأخيراً كمصدر لمليارات من المساعدات التي باتت تغطي جزء من الميزانية التركية وليس توجيهيها لخدمة ورعاية ملايين اللاجئين هناك.
وكاستشراف للمستقبل القريب لأزمة اللاجئين السوريين في تركيا، فإنه حال استمرار هذا النهج في استثمار وتوظيف الأزمة وليس إدارتها بغية حلها من جانب الحكومة التركية قد يفضي إلى وضع استثنائي جديد تعجز أمامه الاتفاقيات والقوانين المنظمة لمثل هكذا أزمات، وبالتالي فإن احتمالات توظيف هذه الأزمة لأبعاد تتخطى الصراع السياسي المعتاد بين تركيا والدول الاوربية، وتحديداً تكرار ما حدث في جنوب المتوسط في ليبيا واعتماد انقرة على مقاتلين سوريين عابرين للحدود هناك، قد يكون ممكناً ولو بصورة مختلفة ظاهرياً ولكن جوهرها ولاء إيدلوجي عابر للجنسيات والحدود، وتحولهم لجماعة وظيفية متعددة الاستخدامات تدار من جانب الحكومة التركية.
مراجع
(1): الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين، مكتبة حقوق الإنسان، جامعة منيسوتا.
(2): Refugee crisis management, IBR, 8-2016.
(3): استخدام تركيا لورقة اللاجئين.. ابتزاز مالي أم ضغط سياسي؟، 28-2-2020.
(4): رئيس وزراء اليونان يوضح لـCNN استغلال تركيا للاجئين كأدوات جيوسياسية، 8-3-2020.
(5): أسوأ أعوام السوريين في تركيا.. شهادات لاجئين رحلوا، 1-1-2020.
(6): أردوغان وتجارة لحوم البشر: المال مقابل البشر، 7-3-2020.
(7): القانون الشبح: الدولة والسيادة وحالة الاستثناء، 20-11-2016.
(8): اللاجئون السوريون في مطلع 2020، 15-1-2020.
(9): قوانين الهجرة التركية والوضع الحالي لأزمة السوريين في تركيا: اللاجئون السوريون أم المواطنون الأتراك المستقبليون – اسطنبول – دراسة مسحية، 3-2018. إيضاً: مصير اتفاقية اللجوء بين الاتحاد الأوروبي وتركيا مهدَّد من جديد، 2-1-2020. أيضاً: مليارات أوروبا أين تذهب… لحكومة أردوغان أم لجيوب اللاجئين؟، 10-3-2020.
مراجع عامة
- ثامر كامل الخزرجي، العلاقات السياسية الدولية وإستراتيجية إدارة الأزمات، دار المنهل، عمان، 2009.
- الإدماج الصعب: تحديات أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أكتوبر2015.
- MANAGING THE REFUGEE CRISIS, European commission, 26-7-2017.
- Managing the refugee crisis and migrant: The role of governments, the private sector and technology, PricewaterhouseCoopers, 2-2016.
- James Dobbins, Jeffrey Martini, Philip Gordon, A Peace Plan for Syria, RAND corporation,2015.