يبدو أن المسار التفاوضي بين مصر وأثيوبيا بشأن سد النهضة قد وصل إلى مرحلة انسداد حقيقية. حدث ذلك في أعقاب انسحاب أديس أبابا من مفاوضات واشنطن واندلاع حرب التصريحات الشعبوية بين كل من القاهرة واديس أبابا، وهو ما يعيد إلى الأذهان مسألة حروب المياه وإمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري لحماية المصالح المائية للطرفين. لقد ساد اعتقاد واضح منذ التسعينيات بأن حروب القرن القادم ستكون حول المياه. غير أن الواقع يثبت عكس ذلك تماما حيث إن تنبؤات الحروب بين الأمم على المياه لم تتحقق. ومع ذلك يزداد القلق بشأن ”حروب المياه” بشكل كبير بسبب تغير المناخ واستمرار النمو السكاني وتلوث الممرات المائية وهو ما يشكل خطورة على هذا المصدر الذي لا يمكن تعويضه.
أزمة سد النهضة والمخاطر المحتملة
تكاد مصر تعتمد بالكامل على نهر النيل لتلبية احتياجاتها من المياه، حيث يوفر أكثر من 90 % من موارد البلاد المائية. ومن المعروف أن حوالي 86 % من مياه النيل التي تصل إلى سد أسوان تنبع من المرتفعات الإثيوبية. وقد ظلت مصر تحافظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل استنادا إلى المعاهدات الدولية وقواعد القانون الدولي، وعلى سبيل المثال منحت اتفاقية عام 1929 مصر حق الاخطار المسبق في مواجهة مشاريع المياه على روافد النيل في دول المصب؛ كما أن اتفاقية عام 1959 مع السودان، قسمت موارد مياه النيل بين البلدين، وكفلت لمصر 55.5 مليار متر مكعب سنويًا والسودان 18.5 مليار متر مكعب. بيد أن قيام أثيوبيا ببناء سد النهضة ابتداء من عام 2011 أدى إلى تغيير ميزان القوى في منطقة حوض النيل. حيث تحدت إثيوبيا صراحة النظام القانوني لنهر النيل كما أنها تستخدم أساليب المماطلة والخداع الاستراتيجي لمحاولة فرض الأمر الواقع. في حين لم تنجح كافة الجهود المبذولة لممارسة الضغط على إثيوبيا من خلال اللجوء إلى وساطة الولايات المتحدة والبنك الدولي ولا حتى اصدار موقف عربي موحد من قبل جامعة الدول العربية.
وتفصح عملية تحليل الخطاب السياسي الأثيوبي بتوجهاته الشعبوية إلى أنه من غير المرجح أن تتنازل القيادة الإثيوبية عن المضي قدما في خططها الخاصة بإتمام المشروع والالتزام بالإطار الزمني لملء الخزان. وفي حالة استمرار الجمود الراهن في المسار التفاوضي، يمكن أن تبدأ أثيوبيا عملية ملء سريعة للخزان، مما قد يتسبب في نقص كبير في نصيب مصر من مياه النيل، وربما يؤثر كذلك على إنتاج الطاقة الكهربائية. حيث تشير بعض التقديرات إلى امكانية نقص الموارد المائية في مصر بنسبة 25%، وتراجع انتاج الطاقة الكهربائية بنسبة 30% في حالة تبني إثيوبيا سيناريو ملء الخزان خلال فترة 5-7 سنوات. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه وفقا لتقديرات الأمم المتحدة فإن مصر سوف تدخل مرحلة الفقر المائي المدقع بحلول عام 2025 حتى بدون وجود أزمة سد النهضة، وهو الأمر الذي يفاقم من وضع أزمة مياه النيل ويجعلها تهديدا وجوديا للدولة المصرية.
مسارات مُقترحة لدعم جهود مصر في إدارة أزمة سد النهضة
سيكون على مصر أن تتحرك بشكل سريع من خلال عدة مسارات للدفاع عن مصالحها وأمنها المائي، كالتالي:
أولاً: المسار التفاوضي والقانوني:
لا سبيل اليوم أمام التعنت الأثيوبي سوى تصحيح المسار والعودة إلى الاطار القانوني والسياسي الذي يحمي حقوق مصر المائية وفقا للقانون الدولي وهو ما يعني التمسك بقاعدة الاخطار المسبق. وهنا ينبغي رفض الإصرار الاثيوبي الخاص بملكيتها للنيل الأزرق باعتباره نهرا أثيوبيا خالصا. وفقا للفهم الأثيوبي فهو نهر عابر للحدود Transboundary River وليس نهرا دوليا International River .
كما ينبغي التوصل لترتيبات قانونية ومؤسسية مرنة وسريعة الاستجابة في المعاهدة التي يتم التفاوض عليها بشأن سد النهضة . وهو أمر أساسي لا يمكن التفريط فيه من قبل المفاوض المصري. وتشمل النصوص القانونية المحورية إلى جانب قواعد الملء والتشغيل السنوي، أحكام الجفاف والجفاف الممتد، واستراتيجيات مرنة لتخصيص المياه، وإجراءات التعديل والمراجعة، وأحكام التنظيمات القانونية لأحواض الأنهار الدولية المعترف بها.
يخضع استخدام وإدارة أحواض الأنهار الدولية بشكل متزايد للمعاهدات بين الدول المشاطئة. وإذا كانت قواعد القانون الدولي، المتعارف عليها، تتسم بالمرونة الكافية للسماح بالتكيف مع الظروف المتغيرة مثل التنمية والنمو السكاني وتغير المناخ، فإن المعاهدات هي في الأساس صكوك جامدة لا يمكن تعديلها إلا في ظل ظروف محدودة ومعينة. وعليه ينبغي أن تأخذ البلدان هذه الحقيقة في الاعتبار عند تصميم وصياغة الأنظمة التي تحكم مواردها من المياه العذبة المشتركة، بما في ذلك التنظيمات المؤسسية المشتركة.
ثانياً: صياغة سيناريوهات لمواجهة تغيير أنماط المناخ
تشير الدراسات المناخية إلى أنه من المحتمل أن يكون هناك زيادة في المتوسط السنوي لدرجة الحرارة في منطقة حوض النيل. هذا التغير المناخي من شأنه أن يؤدي إلى فقدان أكبر للمياه بسبب التبخر. ومن المتوقع حدوث تغييرات أيضًا في هطول الأمطار في المستقبل بما يؤثر على تدفق الأنهار وتوافر المياه في حوض النيل. وتلك مسألة غير يقينية، وهو ما يعني الحاجة إلى مرونة الاتفاقات التي يتم التفاوض عليها بخصوص كيفية ملء السد وتشغيله. على سبيل المثال، تشير بعض الدراسات حتى من الجانب الإثيوبي إلى أن السيناريو الأول الأمثل لملء السد خلال موسم الأمطار، هو 3-5 سنوات. ومع ذلك، قد تمتد هذه الفترة في سيناريو الجفاف أو الجفاف الشديد، لتصل إلى 9 سنوات أو يزيد. يجب أن تكون هناك بدائل متعددة للاستجابة لسيناريوهات زيادة توافر المياه في مواسم الفيضانات، أو ندرة المياه في مواسم الجفاف والجفاف الممتد.
ثالثاً: بناء الثقة بخصوص الاتفاق الثلاثي
من الضروري استكمال اجراءات بناء الثقة وإعمال مبدأ حسن النية بين أطراف التفاوض الثلاثة، بالإضافة إلى التوافق على إنشاء اجراءات مؤسسية لتجنب أي مخاطر مستقبلية غير مقصودة. ولعل أحد مصادر الخطر الرئيسية تتمثل في عدم وجود آلية مستقلة ومقبولة لمتابعة تنفيذ الاتفاقية. وعلى سبيل المثال كيف يتم تعديل الاتفاقية في ظل تغير الظروف أو الوصول إلى حالة من الانسداد في وجهات النظر بين الدول الأطراف.
تظهر الأبحاث أن تغير المناخ سوف يزيد من أمد حدوث السنوات الحارة و الجافة في حوض النيل ، مما سيؤدي على الأرجح إلى تقليل حجم تدفقات المياه في حوض النيل. كما يتطلب سد النهضة نفسه إجراء مزيد من الدراسات لتقييم تأثيره على البيئة، والتي يمكنها تحديد حالات الطوارئ المتعلقة باختلالات تدفقات المياه والترسبات والتبخر. وفي ظل وجود الكثير من أوضاع عدم اليقين، فإنه من المحتمل أن يؤدي الاتفاق النهائي حول صيغة لتقاسم المياه إلى حدوث تداعيات مستقبلية غير متوقعة.
رابعاً: الدفع بنهج جماعي لإدارة موارد النيل
ونعني بذلك ضرورة الدفع بنمط العمل بجدية من أجل وضع إطار مؤسسي شامل للإدارة المتكاملة لموارد النيل وتطويرها لمصلحة جميع الدول المشاطئة. توصلت مفاوضات واشنطن إلى تقسيم عملية ملء السد وتشغيله على مرحلتين. والجدير بالذكر أن هناك وضوح وتوافق أكبر حول المرحلة الأولى من ملء الخزان ليصل إلى ارتفاع 595 مترًا فوق مستوى سطح البحر من أصل 632 مترا، وهي تستغرق نحو عامين، مما يمنح مصر والسودان وإثيوبيا فرصة من الوقت لصياغة إطار تعاون أكثر شمولًا ولا سيما في حالة تأجيل اختبار السد وبدء الملء الأول إلى موسم الفيضان القادم في 2021.
من الناحية المثالية، يجب أن تكون الاتفاقية شاملة بما فيه الكفاية لتوفير إطار تعاوني لإدارة- ليس فقط سد النهضة- وانما غيره من المشاريع المستقبلية المحتملة على النيل. في هذه الحالة يمكن الاعتماد على المعايير الدولية لإدارة المياه عبر الحدود والاستفادة من التجارب الأخرى الناجحة. وربما يكون من المفيد في هذا السياق إعادة النظر في الاتفاقية الإطارية الشاملة لمبادرة حوض النيل وتعديلها، حيث لا تزال كل من مصر والسودان يعترضان عليها، لتكون بمثابة أساس لاتفاقية مستقبلية جامعة بين جميع دول حوض النيل.
خامساً: دور الدول المانحة
كيف يمكن مواجهة حالة الجمود في مفاوضات سد النهضة؟ لقد أثبت النهج التفاوضي أنه غير فعال ويبدو أنه في كثير من الأحيان بمثابة خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف. حيث عجزت مبادرة إدارة الرئيس ترامب حتى الآن في تحقيق تقدم ملموس بتوقيع اتفاق نهائي بين أطراف النزاع. كما أن مبادرة حوض النيل لعام 1999 لم يكتب لها النجاح بسبب الرفض المصري والسوداني. وظلت المسائل السياسية والقانونية المتعلقة بتوزيع المياه واستخدامها دون حل على الرغم من وجود هذه المبادرة. وفي ظل صعوبة الخيار العسكري وعدم وجود حدود مشتركة بين كل من مصر وأثيوبيا بالإضافة إلى عدم وضوح الموقف السوداني فإنه يمكن البحث عن حلول تفاوضية من خارج الصندوق وتعتمد على دور المانحين الدوليين.
هل يمكن تعويض أثيوبيا على العواقب السلبية لانتهاج سيناريو الملء البطيء للخزان بما لا يضر بمصالح مصر المائية. ثمة اقتراح أوروبي بأنه يمكن للأطراف الدولية المانحة (الولايات المتحدة والأوروبيين ودول الخليج العربية) اعتماد حساب تكاليف الفرصة البديلة التي ستتكبدها إثيوبيا، أي القيمة المالية للكهرباء التي لن تتمكن من توليدها. ونظرًا لأن حالة البيانات غامضة، فإن تحديد تكاليف الفرصة البديلة هذه سوف تعتمد على المفاوضات السياسية. في ضوء احتمال تقلب المناخ، فإن هذه الآلية التعويضية- التي لا تتحملها مصر بأي حال من الأحوال- ستوفر مرونة في ملء الخزان. في السنوات الممطرة، يمكن أن تحتفظ إثيوبيا بالمياه أكثر مما تم الاتفاق عليه في البداية، مما يقلل من مدفوعات التعويض. وعلى العكس من ذلك، يمكن استخدام الآلية لتعويض أثيوبيا في فترات الجفاف إذا احتاجت مصر إلى تدفق مياه أكثر مما تم الاتفاق عليه في الأصل. إذا أمكن وضع آلية تعويض لمرحلة التعبئة هذه، فإنه يمكن أيضًا استخدام هذه القواعد والمبادئ في المستقبل للتحكم في حجم الماء في خزان سد النهضة.
سادساً: تعزيز جهود الوساطة الدولية
إن ملكية إثيوبيا لسد النهضة لا تعفيها من التزاماتها الدولية والتي تشمل عدم الإضرار بالغير، وخاصة دولة مصب النهر، وهي مصر. كما أنه وفقا لإعلان المبادئ عام 2015 لا يمكن لإثيوبيا البدء بإرادتها المنفردة في عملية الملء الأول لخزان السد. وعليه لا تعدو التصريحات الخاصة بأن” السد سدنا والأرض أرضنا والمياه مياهنا ” إلا أن تكون في إطار الحملات الانتخابية والتوازنات السياسية التي يشهدها الواقع الاثيوبي الذي يتسم بالانقسام والتعقيد الشديد. قد تتمثل أحد أوراق التصعيد المصرية في إحالة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن الدولي، بيد أن المشكلة الرئيسية تتمثل في أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصين تحتفظ بعلاقات متميزة مع طرفي الصراع، وهو ما يعني رغبة هذه الدول في عدم الانحياز لمصلحة طرف على حساب طرف آخر.
حاولت إثيوبيا نقل وجهة الوساطة الدولية صوب إفريقيا لإنهاء نزاع السد حينما طلب رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد وساطة رئيس جنوب أفريقيا رامافوسا. ومن الواضح أن دول حوض النيل الأخرى ظلت خلف الكواليس تراقب الموقف عن كثب ولاسيما فيما يتعلق بمشاركة الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي. وعلى الرغم من مبدأ حلول أفريقية لمشكلات أفريقية فإن الاتحاد الأفريقي ليس لديه خبرة تاريخية في التوسط في القضايا بالغة الحساسية ولاسيما الصراع حول موارد المياه. وعادة ما تمتنع الدول الأعضاء في مجلس السلم والأمن الأفريقي عن وضع قضايا صعبة على جدول أعمال المجلس. إذ أن أي “خطوة خاطئة” تؤثر على حيادية وقبول الاتحاد الأفريقي في أذهان بعض الدول الأعضاء.
ربما تكون الولايات المتحدة في وضع أفضل من جنوب إفريقيا كوسيط، نظرًا لقدرتها على تطوير القدرات وتبادل المعرفة. كما أنها في وضع أفضل لتقديم الدعم اللوجستي. كما أنها واحدة من الدول الفاعلة الرئيسية خارج إفريقيا التي يمكنها إحداث التغيير، من حيث الأمن المائي في المنطقة. فالخبرة والمعرفة الأمريكية، والقدرة على تبادل البيانات التقنية، سوف تكون ضرورية لأطراف النزاع.
توصيات ختامية
في نهاية المطاف تستطيع دبلوماسية المياه الماهرة، مع توقف الحملات الإعلامية وتخلي إثيوبيا عن مواقفها الأحادية التي تزعم بملكيتها للنهر، أن تحول النيل من مصدر للصراع إلى قوة دافعة للتعاون والتنمية لكل الشعوب. والحل الأمثل الذي نطرحه هنا يمكن التوصل إليه عن طريق مرحلتين: اتفاق الدول الثلاثة أولا على جدول زمني مرن ومسنود تقنيًا لملء خزان سد النهضة دون الاضرار بالتدفقات المائية الواردة لدولتي المصب. أما المرحلة الثانية فهي تتمثل في إعادة النظر في مبادرة حوض النيل، التي تضم جميع دول النيل الأخرى، لوضع إطار طويل الأجل ويفسح المجال لانضمام مصر والسودان. وهذا من شأنه أن يحدد بوضوح حقوق والتزامات دول المنبع عندما يتم بناء السدود في المستقبل ويوفر إطارا مؤسسيا لمعالجة التأثيرات الحتمية التي ستنجم عن تغير المناخ وزيادة عدد السكان.
طبقا لدراسة كيفين ويللر أحد خبراء المياه في جامعة اوكسفورد: “إذا لم يتم التوصل إلى ترتيب تعاوني لملء وتشغيل سد النهضة، فإن المخاطر التي يتعرض لها السكان في دولة المصب (مصر) تزداد خلال فترة ملء الخزان”. إلا أنه يمكن تقليل هذه المخاطر إلى أدنى حد أو تجنبها تماما إذا كان بوسع البلدان الثلاثة الاتفاق على استراتيجية منسقة لملء السد وتشغيله. حيث يمكن فعل ذلك من خلال مزيج من تدفقات المياه السنوية المتفق عليها من السد، وسياسة لإدارة الجفاف عند سد أسوان العالي، واتفاقية تعاونية على مستوى دول الحوض تحمي ارتفاع المياه في بحيرة ناصر. ولعل ذلك كله يدفع باتجاه تبادل المعلومات بين الدول الثلاثة خلال عملية الملء والتوصل لبروتوكولات ضمان الجودة وآليات مؤسسية لفض النزاع.
المراجع
Dessu, Meressa K (2020) Why has the AU been silent on the Ethiopian dam dispute? ISS Today at https://issafrica.org/iss-today/why-has-the-au-been-silent-on-the-ethiopian-dam-dispute
McCaffrey, S.C. (2003), The need for flexibility in freshwater treaty regimes. Natural Resources Forum, 27: 156-162.
Tobias von Lossow, Luca Miehe, Stephan Roll, (March 2020),Nile Conflict: Compensation Rather Than Mediation: How Europeans Can Lead an Alternative Way Forward, SWP Comment 2020/C 11.
Wheeler, Kevin G. et al. (2016) Cooperative filling approaches for the Grand Ethiopian Renaissance Dam, Water International, 41:4, 611-634