في صيف عام 1942، وفي أعقاب إعلان الولايات المتحدة الانضمام للحرب العالمية الثانية على إثر هجوم البحرية الإمبراطورية اليابانية على قاعدة بيرل هاربر، أعلن الرئيس روزفلت تأسيس مكتب الخدمة الاستراتيجية OSS Office of Strategic Service- ليتولى، جنبا إلى جنب مع المكتب السادس MI6 وقيادة القوات البريطانية الخاصة SOE Special Operation Executive-، عمليات التجسس والاستطلاع خلف خطوط العدو وتدريب المقاومة والتخريب ودعم قوات النخبة في مسرح العمليات الأوروبي لاسيما القوات الجوية البريطانية الخاصة التي كان لها الدور الأكبر في تلك العمليات.
متى بدأ الصراع بين مجتمع الاستخبارات الأمريكي؟
مع تكليف الرئيس روزفلت لويليام دونوفان بتشكيل وإدارة مكتب الخدمة الاستراتيجية OSS بناءا على اقتراح بريطاني، واجه هذا المكتب تحديات جمة كان أولها عدم تعاون -إن لم يكن تشكك أو عداوة- جهات الأمن الداخلي الأمريكية، وتحديداً مكتب التحقيقات الفيدرالي وهذا التعنت له ما يفسره.
قبل ظهور خدمات الاستخبارات الخارجية في الولايات المتحدة، كان ملف الاستخبارات الخارجية من المهام الأصيلة لمكتب التحقيقات الفيدرالي FBI الذي كان يتولى مهمة مراقبة الأمن القومي داخليا وخارجيا بشكل كامل. وعندما وقعت حادثة بيرل هاربر، اتجهت الأنظار صوب مكتب التحقيقات الفيدرالي وتحمل النصيب الأكبر من هذه الكارثة لتجاهل مديره إدجار هوفر إنذارين قبيل الضربة اليابانية، وفقا لوثيقة مفرج عنها في 2010 من قبل المخابرات المركزية الأمريكية.
اعتبر هوفر – ذو المزاج الحاد – أن إنشاء مكتب الخدمة الاستراتيجية هو خصم من صلاحياته وأنه اتهام له بالتقصير فأخذ الأمر على محمل شخصي وعمل بكل ما أوتى من نفوذ وسلطات داخل المؤسسات والمجتمع الأمريكي على تحجيم دور مكتب الخدمة الاستراتيجية، على الأقل فيما يتعلق بأدواره المنوطة به في سياسات الأمن الداخلي وتقاطعاته مع مكتب التحقيقات الفيدرالية مثل الموقف من الحزب النازي في أمريكا والشيوعيون الأمريكيون وحركة أمريكا أولا المناهضة للحرب وغير ذلك من الموضوعات ذات التقاطعات المباشرة مع مهمة عمل مكتب دونوفان. بعد انتهاء الحرب تم تسريح المكتب بناءا على نصيحة هوفر الذي أوكل إليه روزفلت مهمة إدارة الأمن الداخلي خلال الحرب وعمل على تحييده طوال الحرب بشتى السبل.
لكن مع صراعات السياسة الأمريكية، فإن الدور الذي لعبه مكتب الخدمة الاستراتيجية خلال الحرب العالمية الثانية لم يكن بالإمكان تجاهله لاسيما وأن البلاد بُعيد الحرب أصبحت مقبلة على حرب من نوع جديد مع حليف الأمس – الاتحاد السوفييتي – والتي وصفها ونستون تشرشل في أول زيارة له للولايات المتحدة بعد الحرب بأن الحكومة السوفييتية تبني “ستار حديدي” حول أوروبا.
محاولات ضبط فوضى مجتمع الاستخبارات الأمريكي.
في خضم هذا الصراع الذي ترتب عليه العديد من المشاكل، فإن الكونجرس أقر أول قانون للأمن القومي الأمريكي بما يؤسس لقواعد صارمة لتحديد ماهية الأمن القومي ومهام الأجهزة التي تعمل على صيانته، وكان من بين الطفرات الكبرى التي حققها هذا القانون أن أعلن إنشاء منظومة مركزية مستقلة للاستخبارات الخارجية والخدمة السرية ومكافحة التجسس والإرهاب الدولي ذات تموضع وتكليفات قوية وصارمة تصلح لإدارة مصالح الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب وفي مستهل الحرب الجديدة التي بدت ملامحها في الأفق؛ يقود تلك المنظومة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA التي بنيت على أنقاض مكتب الخدمة الاستراتيجية المنحل بُعيد الحرب.
في كتابه “الإسفين: الحرب السرية بين مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية”، يرى مارك ريبلينج أن لحظة إنشاء مكتب الخدمة الاستراتيجية كان حدثا فاصلا لدى مجتمع الاستخبارات الأمريكي تماما كما كانت الحرب العالمية الثانية، وأنه يمكن تلخيص هذا الصراع في مواجهات إدجار هوفر مع ويليام دونوفان. هذا الجو المشحون والصراع حول الصلاحيات وتحديد وتعريف الاختصاصات والمهام لاسيما في الملفات المتداخلة كمكافحة التجسس ومكافحة الإرهاب والاستخبارات الاقتصادية وغير ذلك أثر بشكل كبير على عمل الإدارة الأمريكية طوال عقود وأثر على عمليات دعم وصنع واتخاذ القرار داخل منظومة العمل الأمريكية.
كيف أثر الصراع داخل مجتمع الاستخبارات الأمريكي على الأمن القومي والدولي؟
بعد فشل وكالات الأمن القومي قاطبة في كشف تسريب الأسرار النووية إلى الاتحاد السوفييتي ومن ثم تشكيل واقع جديد في السياسة العالمية في غضون ثلاث سنوات بعد الحرب، صدم جهازي الأمن الخارجي CIA والداخلي FBI مجددا واصطدما ببعضهما البعض جراء مقتل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جون كينيدي في دالاس عام 1963. ويرى كثيرون من المحللين الأمنيين ومقيمي النظم أن السبب الرئيسي في مقتل كينيدي ربما يعود للصدام الواسع بين مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية وعدم وجود مساحات اتفاق بينهما تسمح بوجود رؤية مشتركة للتهديدات والفرص ومحاولة كلا الجانبين لاسيما إدرجار هوفر لملمة كبريائه وإثبات أنه على صواب حتى وإن لم يكن كذلك.
وهو ما حدث أيضاَ حيال الجاسوس الروسي السابق نوسنكو الذي صدق مكتب التحقيقات الفيدرالي روايته بأنه لا يوجد دور سوفييتي في مقتل كينيدي وهي الرواية التي شككت فيها وكالة المخابرات المركزية بالكامل ورأت أن الرجل يحاول حماية موسكو. تلى تلك الأزمة أزمات متعددة يحاول كل فريق فيها إثبات صحة سرديته واستطاع أكثر من رئيس استغلال هذا الخلاف لصالحه ولصالح إدارته مثل الرئيس نيكسون الذي وسع لكلا الوكالتين من صلاحياتهما للمراقبة والتنصت داخل الولايات المتحدة وأشركهما في التغطية على فضيحة ووترجيت حتى انكشف الأمر في النهاية.
لم تكن هذه المواقف الأخيرة في المواجهة والتناقض بين المؤسستين في استشعار التهديدات أو تحليل الأحداث مما دعى الرئيس ريجان إلى إصدار أمر تنفيذي في مستهل رئاسته بمنح صلاحيات إضافية لوكالة المخابرات المركزية وتوجيه قادة مجتمع الاستخبارات الأمريكي للتعاون مع طلبات الوكالة. لكنه ومع كل ذلك، تشير التحليلات الأمنية التالية على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 بأصابع الاتهام إلى أن ضعف التنسيق بين وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي يعتبر من إحدى العوامل الأساسية في وقوع هذه الحادثة. والحقيقة أن ضعف التنسيق لم يصب فقط الساحة الداخلية بل وكذلك العمليات الخارجية للولايات المتحدة خصوصا بعد فشل عملية الثعبان القوطي (معركة مقديشو) بسبب ضعف التنسيق بين أجهزة المعلومات والقوات الميدانية.
كل ذلك دعى الرئيس بوش وإدارته إلى طرح تعديلات على قانون الأمن القومي الأمريكي في عام 2004 تسمح بمزيد من الصلاحيات وتوسيع الاختصاصات للوكالات الأمنية لاسيما مع الاهتمام الأمريكي المتزايد بسياسات مكافحة الإرهاب. لكن هذا التمدد أدى إلى تغول الكثير من أجهزة جمع المعلومات على بعضها البعض لاسيما مع تنامي التيار المنادي بأهمية استراتيجية العمليات الخاصة خصوصا بعد نجاح استراتيجية الجنرال تومي فرانكس في غزو العراق بفيالق العمليات الخاصة الأمريكية المدعومة بالبشمرجة من الشمال واعتبر كثيرين من علماء الاستراتيجية العسكرية أن هذه الاستراتيجية تشكل روح ثورة الاتصالات والمنظومة العولمية.
صعود هذا التيار أدى إلى وجود شكل من أشكال الزخم والتنافس على كسب الثقة لدى فيالق القوات الخاصة الأمريكية الخاضعة لقيادة العمليات الخاصة المشتركة JSOC مثل القبعات الخضر Green Berets وقوات الدلتا Delta Force وكذلك القوات الأخرى التابعة للبحرية الأمريكية مثل مجموعة تطوير القتال DEVGRU (Seal Team 6) وفوج العمليات الخاصة التابع لمشاة البحرية Raiders وفوج المشاة الخامس والسبعين Rangers إلى جانب سرب التكتيكات الخاصة الرابع والعشرين التابع لسلاح الجو الأمريكي.
زيادة أهمية هذه القوات نقل من مساحة الصراع بين وكالات الأمن القومي على كسب الاختصاصات في الساحة الداخلية إلى الساحة الخارجية كذلك، ومن ساحة الاستخبارات إلى ساحة العمليات الميدانية، لاسيما مع حسم وكالة المخابرات المركزية CIA لصراعها مع مكتب التحقيقات الفيدرالي لصالحها ولو بشكل مؤقت. لكن الوكالة الآن دخلت مرحلة صراع جديدة تسعى فيها لفرض نفوذها وصلاحياتها في مواجهة وكالة الأمن القومي NSA التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية والخاضعة (تنسيقيا) مثل وكالة المخابرات المركزية لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية ODNI الذي يدير مجلس الأمن القومي بحكم الاختصاص.
وعلى الرغم من أن وكالة الأمن القومي تختص فقط بأعمال المراقبة الرقمية وجمع وتحليل البيانات الضخمة Big Data إلى جانب أعمال استخبارات الاشارات وما يتصل بها من أعمال، إلا إن وكالة المخابرات المركزية تستشعر مزاحمة كبيرة من قبل وكالة الأمن القومي بسبب حجم البيانات العملاق الذي يقع بين أيدي الوكالة في عالم أصبحت تحكمه الاتصالات المفتوحة. الأمر الثاني الذي تستشعر منه وكالة المخابرات المركزية خطرا أن وكالة الأمن القومي هي وكالة تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية وليست فقط وكالة ذات اختصاصات ضخمة وتبعيتها لوزارة الدفاع تثقل من موازينها كثيرا في أي منافسة فيدرالية. في المقابل، تتمتع وكالة المخابرات المركزية بنشاطها الميداني وقدراتها على جلب المعلومات الأصيلة Firsthand عن طريق أنشطة الخدمة السرية وإدارة العمليات الميدانية عن طريق مركز الأنشطة الخاصة SAC إلى جانب اختصاصها بالقيادة والتوجيه الميداني لفرق العمليات الخاصة في العمليات شديدة الخطورة ،مثل قيادة عملية اغتيال بن لادن التي نفذتها مجموعة تطوير القتال SEAL TEAM 6 التابعة للبحرية الأمريكية.
هذه الحالة من الصراع والتشابك والمزاحمة بين المؤسسات الأمريكية أو ما يعرف بالصراعات الفيدرالية Inter-Agency Disputes تعطينا دلالات شديدة الأهمية يجب أخذها في الحسبان لدى التعاطي مع الحالة الأمريكية.
فمبدئيا، يجب الوعي بحقيقة مهمة وهي أن طبيعة المؤسسات تقوم على الصراع واقتناص الاختصاصات والصلاحيات والرغبة في تسيد المشهد وما يحسم هذه الصراعات هو القانون أو امتلاك القوة لتغييره عن طريق لجان الكونجرس. ويرى بعض محللي النظم، مثل جون كامينيسكي أن هذا الصراع حول الاختصاصات وازدواج بعض البرامج كبرنامج مكافحة التجسس الذي يقع في نطاق اختصاص أربعة وكالات أمريكية على الأقل أمر محمود ويؤدي إلى تحسين نتائج السياسة العامة للدولة. وعادة ما يتم إدارة هذه الصراع أو التداخل عن طريق إطار تحليلي عام Interagency Conflict Assessment Framework يتم الاستعانة به بشكل عام في تخطيطات الحد من الأزمات Conflict Prevention Planning وتخطيط الطوارئ Contingency Planning وكذلك تخطيطات الاستجابة للأزمات Crisis Response Planning.
ثانيا، أن الواقع الأمريكي بسبب تعقيداته يميل البعض إلى اللجوء إلى عناوين تلخص تلك الحالة وهذا خطأ جسيم. فعلى الرغم من عدم وجود تاريخ طويل للتقاليد والثقافة السياسية الأمريكية مقارنة ثقافات أوروبية، إلا إنها استطاعت خلال تلك الفترة من الصمود ونقل تلك الأفكار إلى أوعية مؤسسية صارمة عملت من خلالها على الحفاظ على تلك المكتسبات الثقافية وتطويرها. لذلك، لابد عن التفكيك العميق والعابر للتخصص Inter-disciplinary من أجل الوصول إلى نتائج دقيقة حول تلك الحالة.
عدم استيعاب هاتين النقطتين جيدا يعتبر من أكبر الأبواب للفهم المغلوط وترويج الأوهام حول السياسية الأمريكية. فالمؤسسات الأمريكية ليست صامتة طوال الوقت تسمع وتطيع لسيد البيت الأبيض، كما أنها ليس من ثقافتها التمرد فالكونجرس بتركيبته الحزبية حاضر على مدار الوقت حيث يقوم حزب الأقلية (أو الأغلبية في بعض الأحيان) بجبر أي تقصير قد يحدث من الإدارة.
ويمكن اعتبار هذا نموذجا تفسيريا لحالة ترامب وعلاقة المؤسسات الأمريكية به لاسيما مؤسسات الأمن القومي وعلاقة تلك المؤسسات ببعضها البعض في عهده.