تكتسب شركات الأمن والاستخبارات الخاصة أهميتها من محددين رئيسيين: الأول العمل ككيان مستقل رسمياً عن مؤسسات الدولة لتحقيق أهدافها في إطار استراتيجية أوسع بشكل مرن بعيد عن العوائق السياسية والتنفيذية. والثاني: إدارة عمليات عسكرية واستخباراتية وأمنية متناهية الصغر لا تستدعي تدخل القوات النظامية، سواء كحلقة وسط قبيل عملية غزو أو انسحاب للأخيرة.
لكن خلال العقدين الماضيين تعددت المحددات السابقة لتشمل ماهو أبعد من الدور الهامشي والتكميلي للقوات النظامية، سواء على المستوى العسكري والأمني، ناهيك عن الدور الاستخباراتي والإنذار المبكر في شتى أنواع الأزمات والصراعات التي لاتنحصر فقط في الحرب التقليدية، ولكن توسعت لتشمل الحروب السيبرانية وحروب الوكالة، وإدارة وتوجيه مبكر للأزمات والتفاعل معها بشكل آني، ومن ثم تطور هذا من تداخل بين دور تكميلي واستشاري إلى رسم وصياغة سياسات “الدولة” الخارجية والداخلية كعقل مدبر وذراع منفذ.
التوسع في تأسيس شركات الأمن والاستخبارات الخاصة
تعد فترة الحرب الباردة، أي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، هي المرحلة التي شهدت بداية كيانات وشركات الأمن والاستخبارات الخاصة، وذلك على يد عسكريين سابقين كانوا رواد في تأسيس وحدات القوات الخاصة لمختلف دول الحرب، مثل السير دافيد سترلينج، مؤسس وحدات الخدمات الجوية الخاصة البريطانية (SAS)، الذي أسس بعد تقاعده أول الشركات الخاصة المضطلعة بأنشطة عسكرية واستخباراتية، وتقديم خدماتها لحكومات بلادهم بصفتهم متعاقدين للقيام بمهمات ما وراء البحار، أو لحكومات وجهات في البلاد المستقلة حديثاً من الاستعمار. ولذلك كانت بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا أسواق واعدة لمثل هكذا نوع من الخدمات والأعمال شريطة أن لا يتناقض مع سياسات واستراتيجيات بريطانيا مثلاً، بل كمنفذ ومكمل لها.
وباستثناء إسرائيل، فإن حكومات المنطقة لم تصرح بإنشاء شركات تقدم مثل هذا النوع من الخدمات إلا في العقد الماضي، وذلك بدفعة من تغول حجم استعانة الحكومة الأميركية في استخدام عشرات من هذه الشركات بمختلف أنواعها -عسكرية وأمنية واستخباراتية- في العراق وأفغانستان واليمن والصومال وغيرها من المناطق والبلدان التي تشهد تواجد ونشاط عسكري لواشنطن منذ مطلع الألفية الجديدة، والتي وصلت تقديرات الانفاق عليها في أفغانستان وحدها في 2003 نحو 100 مليار دولار أميركي، بينما تشير دراسة صادرة عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية في 2008، أن حوالي 30% من العاملين في مجتمع الاستخبارات الأميركي متعاقدين من شركات خاصة، وأن حوالي 50% من ميزانية وكالات الاستخبارات والأمن الأميركية الرسمية تذهب للقطاع الخاص العامل في نفس المجال.
يرجع البعض نمو وازدهار حجم أعمال الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة خلال العقدين الماضيين لسهولة التملص من المسئوليات القانونية والأخلاقية حال افتضاح امرها -مثل شركة بلاك ووتر، وشركة فاغنر- وكذلك الكُلفة السياسة المنخفضة لاستخدام مثل هكذا كيانات لا تأخذ الطابع الرسمي وفي نفس الوقت تمتلك شرعية قانونية لما تقدمه من خدمات لا تجعلها تعمل كمنظمة خارج القانون أو بشكل ميليشياوي، حيث نجحت تجربة الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة ليس في في تقليل الخسائر الرسمية السياسية فحسب، بل نجحت كذلك في مدى فاعلية ومرونة تحقيق الأهداف المتنوعة المرجوة منها دون حاجة لتورط الحكومات والأنظمة السياسية بشكل مباشر.
بالإضافة للسابق، فإن مدى التطور الحادث بفعل آليات السوق من عرض وطلب وتنافسية تجعل الخدمات التي تقدمها مثل هكذا شركات لا تتوقف عند المتطلبات الكلاسيكية للحروب من تسليح وتدريب ولكن تمتد إلى تأمين معلومات وانظمة مراقبة واستطلاع وتحليل إلكترونية و سيبرانية وأطر علاقات عامة وإعلام وتأثير على الرأي العام، دون حاجة الدولة أن تربطها بشكل رسمي وقانوني ودستوري ويتوافق أيضاً مع القانون والمعاهدات الدولية، بمؤسسات سيادية متواجدة بالفعل، بل وقد تلجأ إليها سلطة تكتسب شرعيتها وتصدر أزماتها الداخلية عبر صراع خارجي وحروب وكالة مستمرة -وهو ما يعد تجلي منطقي لمرحلة ما بعد الدولة ونمط الشركاتية في المنطقة- وحاجة هذه السلطة لكيان ظل بعيد عن المؤسسات الرسمية لإدارة مثل هذه الصراعات الداخلية والخارجية مثلما هو الحال في شركة “صادات” التركية.
نشأة شركة “صادات” التركية.
تأسست “صادات” في فبراير 2012، كشركة ذات رخصة محدودة بالاستشارات الأمنية والدفاع برئاسة العقيد السابق في الجيش التركي، عدنان تانريفردي، والذي يشغل حالياً منصب مستشار أمني للرئيس التركي. وتكون رأسمالها عبر اكتتاب عام، حاز النسبة الأعظم منه نفس فئة المتقاعدين العسكريين والأمنيين السابقين في مختلف المؤسسات الأمنية والعسكرية عبر أفراد أو صناديق تقاعد هذه المؤسسات، وتشكل الحكومة التركية بمختلف مؤسساتها الأمنية والعسكرية وعلى رأسها وزارة الدفاع مصدر تعاقداتها وعملياتها في الداخل والخارج.
منذ تأسيسها، شكلت “صادات” وبشكل رسمي وعلني جيش موازي وهيكلية أمنية واستخباراتية خارج مؤسسات الدولة التركية، سوقت كضرورة لما وصف بـ”تطهير” المؤسسات الرسمية وتأمين تمرير تشريعات وإجراءات دستورية وسياسية .
هنا نجد أن نموذج “صادات” وفاعليته التي تتزايد باطراد في الداخل والخارج لا تأتي فقط كناتج من نتائج ديناميكيات الصراع الداخلي في تركيا، سواء كان بين الطورانية والعثمانية، أو بين تيارات الإسلام السياسي التي شكلت محاولة الانقلاب ذروتها، أو حتى الصراع داخل حزب العدالة والتنمية، ولكن في إطار تاريخي أعم تدار فيه الدول بشكل شراكاتي منفلت من مساءلة الدستور والقانون وحقوق الإنسان والاتفاقات الدولية، وتوكل جزء من احتكارها للعنف في الداخل والخارج لكيانات وسيطة ربيبة مؤسسة الدولة، ولكن في نفس الوقت متحرره من قيد العملية السياسية التداولية وتوقيتاتها، وفي نفس الوقت تعمل ظاهرياً وفق آليات السوق الاقتصادية كمقدم لخدمة أو سلع حتى وإن كانت أمنية واستخباراتية وعسكرية.
الخدمات التي تقوم بها “صادات” بالنيابة عن الحكومة التركية
تتنوع خدمات “صادات” بين التسليح والتدريب والاستشارات العسكرية والأمنية لكل من الجيوش وقوات الأمن، وذلك عبر معايير تسويقية تنقسم ما بين:
- بيع الأسلحة ابتداء من التسليح الفردي الخفيف وصولاً للطائرات والمدرعات الخفيفة، وقطع الغيار والذخائر والمتفجرات، وذلك عبر سلسلة تعاقدات تجعلها واجهة للصناعات العسكرية التركية كبائع وشاري ووسيط. وعلى الصعيد الأمني تتكفل بنفس النمط تقريباً ولكن حسب احتياجات قوات الأمن الداخلية ومعدات مكافحة الشغب، والتجهيزات الأمنية الخاصة بحماية الشخصيات الهامة والأمن الداخلي لمختلف المؤسسات والشركات كأنظمة المراقبة والتتبع.
- التدريب، وينقسم إلى تدريب نظامي موجهة نظرياً للجيوش النظامية، وتدريبات غير نظامية موجهة عملياً للمجموعات المسلحة العاملة في سوريا وليبيا بشكل رئيسي، وتسوق “صادات” هاذين النمطين بشكل متداخل يميل للنوع الثاني والخاص بتكتيكات حرب العصابات والحرب الهجينة.
- الاستشارات، وتنقسم نظرياً بين تقديم مشورات وتقديرات عسكرية وأمنية للدول – وهو ما لم يحدث في حالات التسليح والتدريب- والمجموعات المسلحة. وهو ما يعد تطوراً عن مجرد توفير معلومات استخباراتية وأمنية في الخارج والداخل للجهات المعنية إلى التصرف رأساً لتنفيذ هذه التقديرات.
وطبقاً للسابق، فإن “صادات” تمثل مرحلة انتقالية ما بين المؤسساتية بمعناها الدولتي إلى مرحلة الشركاتية المفتوحة المتحررة من قيود المؤسساتية؛ فمثلاً فيما تتولى الاستخبارات التركية بشكل رسمي إدارة ومعالجة الملفات السياسية والصراعات الاقليمية فيما يخص الأمن القومي التركي بمفهوم الدولة والمؤسسات، تتولى صادات -دون تعارض- ادارة التصعيد الما بعد دولتي بنمط شركاتي يتشعب ما بين الامني والعسكري و الهجومي والدفاعي ويتحرر من قيود القانون والمساءلة وبفاعلية ومرونة أكبر ما تتيحه المؤسسات التقليدية الخاضعة في عملها لمحددات قانونية ودستورية وتوقيتات سياسية داخلية وخارجية، وذلك لحساب السلطة الحالية التي تمثل تياراً سياسياً واجتماعياً بغطاء إيدلوجياً في تركيا.
دور شركة “صادات” في صياغة السياسات التركية
ما يميز “صادات” عن مثيلاتها من الشركات الأمنية والعسكرية العاملة في بلدان الشرق الأوسط، أن الاستعانة بها لا يأتي فيما لا تستطيع المؤسسات الرسمية للدول القيام به لموانع ومحاذير تتنوع بين السياسي والقانوني، ليس أقلها ضيق هامش إطلاق اليد والسرية التي تحيط بعمل هكذا مؤسسات التي تخضع للمساءلة والشفافية في الدول الديمقراطية، مثل الحالة الأميركية والبريطانية سابقة الذكر. ولكن تطور هذه الحاجة من توفير خدمات أمنية واستخباراتية تساعد متخذ القرار بشكل أقل من استشاري وتكميلية في شقها العسكري، إلى رسم وصياغة سياسات “الدولة” الخارجية والداخلية كعقل مدبر وذراع منفذ، هو العلامة المميزة لكيان “صادات” التركي كنموذج يتميز عن مثيلاتها من شركات الأمن والاستخبارات الخاصة حول العالم وخاصة العاملة في المنطقة.
وبذلك هي تتمايز عن شركات الأمن الخاصة الذين عملوا في المنطقة خلال العقدين الماضيين بداية من بلاك ووتر الأميركية وحتى فاجنر الروسية، ليس فقط من مبدأ محليتها، ولكن من حيث التداخل بين التخطيط والتنفيذ وكونها -ومؤسسها كذلك- جزء من المجموعة الأمنية والسياسية الحاكمة حالياً في تركيا بصيغة خارج المفهوم العام لصنع القرار بشكل مؤسساتي.
تشكل “صادات” حامل عسكري واستخباراتي للأردوغانية في الداخل والخارج، كتجلي لسيطرة اوليغارشية ايدلوجية تتمترس خلف واجهة الدولة القومية ومحددات أمنها القومي، ولكن في نفس الوقت تسلك سلوك التنظيمات الايدلوجية العابرة للحدود في شقها العسكري والاستخباراتي، وتشكل ذراع للتمدد الخارجي التركي في المناطق الرخوة ومناطق النزاعات في المنطقة العربية ووسط آسيا والقرن الأفريقي وشمال أفريقيا. وهو ما يشكل ضرورة -من ناحية الإنذار المبكر- للانتباه ومجابهة هذا النمط من توظيف واستثمار في أزمات هذه المناطق كفرص للتمدد والانتشار بشكل عابر للقوميات بغطاء شركاتي.
مراجع
(1): Peter Singer. Corporate Warriors: The Rise of the Privatized Military Industry. Cornell University Press, new York,2003.
(2): David M Last. Prevention, Early Warning and Intelligence. Royal Military College of Canada, Canada 1996.
(3): مصر وتركيا في ليبيا.. تأجيل روسي للصدام؟، 180post، 17-1-2020.
(4): مؤسس “الجيش الموازي” كبيرا لمستشاري أردوغان، زمان التركية، 17-8-2016.
(5): جيش أردوغان الموازي إلى الواجهة، الأخبار اللبنانية، 19-7-2016. أيضاً: تغيير نظام الحكم في تركيا من برلمان إلى أردوغاني، البديل، 24-1-2017.
(6): Anthony Kemp, John Murray. The SAS: Savage Wars of Peace: 1947 to the Present: John Murray Pubs Ltd, London, 1994.
(7): Yeoman, Barry. Soldiers of Good Fortune. Mother Jones. 1-6-2003.
(8): Dana Priest, William M. Arkin. Top Secret America: The Rise of the New American Security State. Little, Brown and Company. New York.2011.
(9): ERDOGAN’S PRIVATE MILITIA: SADAT, (PPJ), 28-3-2018. Also: Trump, Corporatism, and the Dearth of Innovation, 17-1-2017.
(10): Has SADAT become Erdogan’s Revolutionary Guards?, American Enterprise Institute ,30-5-2017.
أيضا: شركة SADAT الوجه الآخر لـ Black Water في تركيا، بروكار بريس، 6-1-2020.
(11): الأردوغانية تقسم تركيا، البديل، القاهرة، 18-4-2017. أيضاً: إزاحة داود أوغلو..” الأردوغانية” لا تحتمل رأسين، نفسه، 7-5-2016.
(12): SADAT Defense Consultancy, Global security,16-7-2018.